الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ التنبيه الثاني
كان
الكلام في الطريق الثاني لاستكشاف الاستحباب الشرعي
المولوي للاحتياط، وذكرنا بأنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) استشكل في هذا الطريق، ببيان
أنّ ليس جميع الأحكام العقلية يُستكشف منها الحكم الشرعي، وإنّما الذي يستكشف منه الحكم الشرعي هو خصوص الحكم العقلي الثابت بقطع النظر عنالحكم الشرعي لا الثابت في طوله؛ لأنّ الحكم العقلي الثابت في طول
الحكم الشرعي لا يستكشف منه، ولا يكون منشئاً للحكم الشرعي، وذلك للزوم التسلسل
على ما ذكرنا، والمقام من قبيل الثاني، ما نحن فيه ـــــ حُسن الاحتياط ـــــ هو
حكم عقلي ثابت في مرحلة الامتثال وفي طول الحكم الشرعي، فيكون حاله حال حكم العقل
بحُسن الطاعة وقبح المعصية، وكما أنّ هناك لا يمكن استكشاف الحكم الشرعي من هذا
الحكم العقلي(حسن الطاعة وقبح المعصية) هنا أيضاً لا يمكن استكشاف الاستحباب
الشرعي للاحتياط من حكم العقل بُحسن الاحتياط.
قلنا
أنّ هذا الكلام نوقش فيه كبروياً وصغروياً:
أمّا
كبروياً فقد نوقش فيه بمناقشات تقدّم ذكرها في بحث التجرّي، لكن قلنا الظاهر
أنّ هذه الكبرى تامّة لا من جهة التسلسل الذي يذكره؛ لأنّ إجراء التسلسل والالتزام
التام بالتسلسل في الأمور الشرعية الاعتبارية لا يخلو من إشكال، قد يمكن افتراض
التسلسل في التكوينيات، لكن في الأمور الاعتبارية التسلسل ليس محذوراً، وإنما
الوجه في صحّة هذه الكبرى والتفرقة بين النوعين من الأحكام العقلية هو ما ذكرناه
في الدرس السابق من أنّه في الأحكام العقلية الواقعة في طول الحكم الشرعي من قبيل
حكم العقل بحُسن الطاعة وقُبح المعصية يلزم من استكشاف الحكم الشرعي منها محذور
اللّغوية؛ لأنّ الحكم الشرعي المستكشف لا يترتّب عليه شيء غير ما هو حاصل وفُرض
حصوله في مرحلة سابقة، الداعوية التي كانت موجودة بافتراض الحكم الشرعي بوجوب
الصلاة وحرمة شرب الخمر بضميمة حكم العقل بلزوم طاعة المولى وقبح معصيته، هذه
الداعوية المفروض وجودها لا يثبت بالحكم الشرعي المستكشف شيء غير ذلك، وشيء أزيد
من ذلك حتّى لا يكون جعل مثل هذا الحكم الشرعي لغواً؛ بل الظاهر أنّه بلا فائدة،
ولا يثبت به شيء أزيد ممّا هو ثابت سابقاً كما وضّحنا في الدرس السابق، بخلاف الأحكام
العقلية الثابتة بقطع النظر عن الحكم الشرعي من قبيل حكم العقل بحسن العدل وقبح
الظلم، هنا لا يلزم من افتراض استكشاف حكم شرعي بوجوب العدل وحرمة الظلم من هذا
الحكم العقلي لا يلزم منه اللّغوية؛ لأننّا لم نفترض محرّكية في مرحلة سابقة ثابتة
بحكمٍ شرعي بضميمة الحكم العقلي، وإنّما الذي افترضناه فقط هو حكم العقل بحُسن
العدل وقبح الظلم، وقلنا سابقاً بأنّ هذا لا ينافي ولا يجعل الحكم الشرعي في مورد
هذا الحكم العقلي لغواً؛ بل تتصوّر له فوائد على ما بيّنّا سابقاً فلا يكون لغواً،
فلا محذور في استكشاف حكم شرعي من هذه الأحكام العقلية الثابتة بقطع النظر عن الحكم
الشرعي، بخلاف الأحكام العقلية الثابتة في مرحلة امتثال الحكم الشرعي وفي طوله،
فإنّ افتراض ثبوت حكم شرعي مستكشف من الحكم العقلي يكون لغواً وبلا فائدة ولا
يترتّب عليه أثر في مقام الداعوية والمحرّكية؛ لأنّ الداعوية هي بنفسها موجودة
سابقاً ولا يثبت بالحكم الشرعي أزيد من ذلك حتّى يرتفع محذور اللّغوية.
إذن: الكبرى التي يذكرها المحقق النائيني(قدّس سرّه) بحسب الظاهر تامّة.
وأمّا
الصغرى: يعني تطبيق هذه الكبرى على محل الكلام لإثبات أنّ حكم العقل بُحسن
الاحتياط لا يُستكشف منه الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط. المحقق النائيني(قدّس
سرّه) طبّق هذه الكبرى في محل الكلام وأدخل محل الكلام في القسم الثاني، يعني أدخل
محل الكلام في الأحكام العقلية الثابتة في طول الحكم الشرعي، وقد ذهب إلى استحالة
استكشاف الحكم الشرعي في هذه الحالة، إمّا للزوم التسلسل كما ذكره، أو لعدم
الفائدة وللغوية كما ذكرنا. بالنتيجة إذا طبّقنا هذه الكبرى على محل الكلام
والتزمنا بأنّ حكم العقل بحسن الاحتياط هو من قبيل حكم العقل بحُسن الطاعة وقبح
المعصية؛ حينئذٍ يثبت المطلب وهو أنّه لا يمكن استكشاف استحباب الاحتياط الشرعي
المولوي من حكم العقل بحسن الاحتياط.
هذه
الصغرى أيضاً وقعت محل مناقشة، بمعنى أنّه على تقدير
تسليم الكبرى، وقد عرفت أنّها صحيحة وثابتة، إمّا أنْ نعترف بثبوت الكبرى، وإمّا
أنْ نأخذها ثابتة ومسلّمة، وعلى تقدير ثبوتها نتكلّم في انطباق هذه الكبرى على محل
الكلام. استُشكل أيضاً في هذا الانطباق بأمرين:
الأمر
الأوّل: أنْ يقال بأنّها ليست مصداقاً لهذه القاعدة، بمعنى أنّها ليست صغرى
لهذه الكبرى، وذلك باعتبار الفرق الواضح بين حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية
وبين حكم العقل بحسن الاحتياط، فأننّا نجد أنّ المحذور الذي لأجله قيل باستحالة
استكشاف الحكم الشرعي من حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية لا يجري في استكشاف الحكم
الشرعي لاستحباب الاحتياط من حكم العقل بُحسن الاحتياط، المحذور لا يجري في محل
الكلام، فلا يقع المقام صغرى لتلك الكبرى، في تلك الكبرى قلنا أنّ الحكم العقلي
الواقع في طول الأحكام الشرعية لا يُستكشف منه الحكم الشرعي، إمّا للزوم التسلسل،
أو للزوم اللّغوية، والمثال الواضح لذلك هو ما تقدّم من حكم العقل بُحسن الطاعة
وقبح المعصية، أمّا حكم العقل بُحسن الاحتياط لا يلزم من استكشاف الحكم الشرعي
منه، أي استحباب الاحتياط، لا يلزم كلا المحذورين، لا يلزم اللّغوية كما لا يلزم
محذور التسلسل، وهذا معناه أنّ هذا الحكم العقلي بُحسن الاحتياط ليس مصداقاً وصغرى
لتلك الكبرى، في الكبرى نسلّم التفصيل، لكنّ المقام ليس صغرى لتلك الكبرى. وأمّا عدم
لزوم محذور اللّغوية، فباعتبار أننّا لم نفترض في هذا الحكم العقلي الذي هو محل
الكلام، أي حكم العقل بُحسن الاحتياط، لم نفترض فيه وجود داعوية شرعية في مرحلة
سابقة بضميمة حكم العقل بُحسن الطاعة، بينما افترضنا ذلك في حكم العقل بُحسن
الطاعة وقبح المعصية، في حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية هذا يستبطن افتراض
تكليف شرعي كما مثّلنا من قبيل(أقيموا الصلاة)، و(يحرم شرب الخمر) العقل يقول بلزوم
إطاعة هذا التكليف وقبح معصيته، وبضميمة حكم العقل إلى الحكم الشرعي؛ حينئذٍ تثبت
داعوية ومحرّكية للمكلّف نحو الامتثال، إذا استكشفنا حكماً شرعياً من حكم العقل بُحسن
الطاعة، هذا الحكم الشرعي هو لا يزيد عن ما كان ثابتاً سابقاً، والداعوية التي
تثبت به أيضاً تحتاج إلى ضميمة حكم العقل؛ لأننّا قلنا أنّ التكليف وحده، مجرّد
التكليف من دون إدراك العقل للزوم الإطاعة وقبح المعصية لا يكون محرّكاً للعبد،
وإنّما يكون التكليف محرّكاً للعبد بضميمة حكم العقل، هذه الداعوية والمحرّكية
الثابتة باعتبار التكليف الشرعي بضميمة الحكم العقلي هي بنفسها سوف تثبت لو
استكشفنا حكماً شرعياً بوجوب الطاعة وحرمة المعصية، ولا يثبت به شيء أزيد ممّا ثبت
سابقاً؛ لأنّ هذا الحكم الشرعي على تقدير استكشافه هو عبارة عن حكم بوجوب الطاعة
وحرمة المعصية، هذا لا يكون داعياً إلاّ بضميمة حكم العقل، فلا يثبت داعوية إضافية
أزيد ممّا ثبت سابقاً، كان عندنا(أقيموا الصلاة) بضميمة حكم العقل له درجة من
الداعوية، استكشفنا حكماً شرعياً بوجوب الطاعة وحرمة المعصية، هذا أيضاً لا يكون
له داعوية إلاّ بضميمة حكم العقل بُحسن الطاعة وقبح المعصية؛ لأنّ التكليف المجرّد
لا يدعو المكلّف للتحرّك إلاّ بضميمة داعوية العقل ومحرّكيته، وهذا الشيء كان
ثابتاً سابقاً، كان هناك حكم شرعي افترضنا وجوده يدعو المكلّف بضميمة حكم العقل، وداعويته
تكون ثابتة، ولا نستكشف شيئاً إضافياً بالحكم الشرعي الجديد؛ ولذا يكون لغواً،
وهذا بخلاف محل الكلام، في محل الكلام نحن لم نفترض إلاّ حكم العقل بُحسن
الاحتياط، لم نفترض داعوية في مرحلة سابقة غير داعوية العقل وإدراك العقل بُحسن
الاحتياط، بينما إذا استكشفنا والتزمنا بأنّ هذا الحكم العقلي بُحسن الاحتياط
يُستكشف منه حكم الشرع باستحباب الاحتياط لا يلزم من استحباب الاحتياط المستكشف
لغوية؛ لأنّ الداعوية التي تثبت على تقدير أنْ يحكم الشارع باستحباب الاحتياط لم
يُفرض وجودها في مرحلة سابقة حتّى يكون استكشاف هذا الحكم الشرعي باستحباب
الاحتياط لغواً كما هو الحال في استكشاف وجوب الطاعة وحرمة المعصية من الحكم
العقلي بحسن الطاعة وقبح المعصية، هنا كان هذا الاستكشاف يلزم منه اللّغوية، بينما
في محل الكلام هذا الاستكشاف لا يلزم منه اللّغوية، لم نفترض داعوية سابقة هي نفس
الداعوية التي نثبتها باستكشاف الحكم الشرعي، وإنّما الداعوية التي نثبتها
باستكشاف الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط لم تكن موجودة ومفروضة سابقاً حتّى يلزم
اللّغوية، بخلاف أصل الكبرى في القسم الثاني من الأحكام العقلية، فأنّ افتراض
استكشاف الحكم الشرعي يلزم منه اللّغوية على ما ذكرنا سابقاً، ومن هنا لا يكون
المقام مصداقاً لهذه الكبرى. هذه الكبرى صحيحة، ونفرّق على اساسها بين نوعين من
الأحكام العقلية، لكن الحكم العقلي الذي لا يُستكشف منه الحكم الشرعي هو ما كان من
قبيل حُسن الطاعة وقبح المعصية، لا ما كان من قبيل حكم العقل بُحسن الاحتياط،
المناط في الحقيقة ليس هو في وقوع الحكم العقلي في طول الحكم الشرعي، وإنّما
المناط في التفرقة بين الحكمين العقليين، وهو أنّه هل يلزم من جعل الحكم الشرعي في
مورد الحكم العقلي محذور ثبوتي من قبيل التسلسل كما قال، أو اللّغوية كما قلنا ؟
هل يلزم ذلك، أو لا يلزم ؟ هذا هو المناط. في حكم العقل بُحسن الطاعة وقبح المعصية
يلزم من استكشاف الحكم الشرعي في موردهما هذان المحذوران، التسلسل على ما قال، أو
اللّغوية، بينما من استكشاف استحباب الاحتياط من حكم العقل باستحباب الاحتياط لا
يلزم اللّغوية؛ لأننّا لم نفترض داعوية في مرحلة سابقة، وإنّما افترضنا فقط في
المقام إدراك العقل لحُسن الاحتياط، هل يلزم اللّغويّة من جعل الشارع حكماً
مولويّاً باستحباب الاحتياط؟ لأنّ هذه الداعوية باعتبار الحكم الشرعي، لم تكن
مفروضة في مرحلة سابقة وإنّما المفروض في مرحلة سابقة هو فقط حكم العقل بُحسن
الاحتياط، فلا مانع من أنْ نستكشف من هذا الحكم العقلي حكماً شرعياً باستحباب الاحتياط،
كما لا يلزم التسلسل الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، باعتبار أنّ الحكم
الشرعي باستحباب الاحتياط الذي يُراد استكشافه من حكم العقل بحُسن الاحتياط، هذا الحكم
الشرعي لا يترتّب عليه حكم عقلي بلزوم الاحتياط حتّى يُدّعى التسلسل، باعتبار أنّ
العقل لا يستقل بلزوم الاحتياط في جميع الموارد، قد في موارد معينة من قبيل موارد
العلم الإجمالي يستقل بلزوم الاحتياط، لكن لا يستقل بلزوم الاحتياط في جميع
الموارد، فإذن: لو استكشفنا الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط من حكم العقل بحُسن
الاحتياط لا يلزم محذور التسلسل؛ لأنّ هذا الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط لا يترتب
عليه حكم عقلي بلزوم الاحتياط حتّى يتسلسل الحكم العقلي بلزوم الاحتياط يلازم الحكم
الشرعي ...وهكذا حتّى يتسلسل؛ لأنّ العقل لا يحكم بلزوم الاحتياط في جميع
الموارد، ما نستكشفه هو حكم الشرع باستحباب الاحتياط، استكشفناه من حكم العقل بحُسن
الاحتياط، هذا الحكم الشرعي المستكشف باستحباب الاحتياط لا يترتّب عليه حكم عقلي
حتّى يلزم محذور التسلسل.
نعم،
قد يقال: بأنّ العقل يحكم بحُسن إطاعة هذا التكليف المولوي الشرعي المستكشف؛
لأننّا استكشفنا من حكم العقل بحسن الاحتياط استحباب الاحتياط شرعاً، قد يقال بأنّ
هذا الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط يترتّب عليه حكم عقلي بحُسن إطاعته، وليس
بلزوم إطاعته، وينبغي أنْ نفرّق بين الحُسن وبين اللّزوم، هذا حكم مولوي باستحباب
الاحتياط، يحكم العقل بحُسن إطاعته، بالنتيجة هذا حكم صادر من الشارع بما هو مولى،
ويطلب من العبد الاحتياط، فيحكم العقل بأنّه يحُسن من العبد أنْ يطيع مثل هذا
الطلب. إذن: يترتّب على الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط المستكشف من حكم العقل بحُسن
الاحتياط يترتّب حكم عقلي، لكن نسأل أنّ هذا الحكم العقلي هل هو ثابت بنفس ملاك
الحكم العقلي الذي فرضنا وجوده سابقاً، أو بملاكٍ آخر ؟ الجواب أنّه ثابت بملاك
آخر، الحكم العقلي الذي فرضناه هو عبارة عن حكم العقل بحُسن الاحتياط، بملاك
الاحتياط، بملاك إدراك الواقع، وإدراك ملاكات الواقع، بينما هذا الحكم العقلي
ـــــــ على تقدير ثبوته ــــــ الذي يترتّب على حكم الشارع باستحباب الاحتياط هو
حكم عقلي ثابت بملاك حُسن الطاعة للمولى، بملاك قبح المعصية بمستوً من المستويات،
ثابت بملاك إطاعة المولى؛ لأنّ المولى حكم باستحباب الاحتياط، فهناك استحباب مولوي
شرعي للاحتياط، العقل يقول هذا التكليف المولوي، ولو على مستوى الاحتياط يحسُن
إطاعته، هو لا يثبت بملاك الاحتياط، وإنّما يثبت بملاك الطاعة، فإذن: هذا الحكم
العقلي، على تقدير استكشافه، وإلاّ فقد قلنا لا يوجد هكذا حكم عقلي، فالعقل لا
يحكم بلزوم الاحتياط، ولا يحكم بقُبح معصية هذا التكليف، ولا يحكم بحُسن الاحتياط
مطلقاً، وإنّما يحكم بحُسن الاحتياط في موارد معيّنة. فإذن: هذا الحكم الشرعي
باستحباب الاحتياط لا يوجد حكم عقلي على طبقه في مورده بأنْ يحكم العقل بلزوم
الاحتياط، فالعقل لا يحكم بلزوم الاحتياط مطلقاً، وإنّما الذي يمكن أنْ يقال هو
أنّ العقل يحكم بحُسن إطاعة هذا التكليف الشرعي المولوي، فيكون هذا الحكم العقلي
ثابت بملاك الطاعة، بينما الحكم العقلي السابق ثابت بملاك الاحتياط، العقل يحكم بحُسن
الاحتياط، هذا الذي فرضناه سابقاً، بينما الحكم العقلي الذي يُفترض وجوده، ثابت
بملاك الطاعة، وهذا غير ذاك، فلا يلزم التسلسل، بناءً على ما هو الصحيح وهو أنّ
العقل لا يحكم، ولا يوجد عنده حكم حينئذٍ، عنده حكم بحُسن الاحتياط، وهذا استكشفنا
منه استحباب الاحتياط وانتهى المقام، ولا يترتب على هذا الحكم الشرعي المستكشف حكم
عقلي حتّى يلزم التسلسل، وعلى تقدير أنْ يثبت حكم عقلي، هو يثبت أيضاً بملاك
الطاعة لا بملاك الاحتياط، فيكون هذا الحكم العقلي غير ذاك الحكم العقلي، وهذا
حتّى لو تسلسل، فأنّه يتسلسل بملاك الطاعة.
وبعبارةٍ
أخرى: يلزم التسلسل باعتباره مصداقاً لتلك الكبرى التي هي أنّ الأحكام
العقلية بحُسن الطاعة وقبح المعصية، استكشاف الحكم الشرعي منها يلزم منه المحذور
لا أنّه يتسلسل بالملاك الذي نتحدّث عنه وهو أنّ العقل يحكم بحُسن الاحتياط، هذا
الحكم العقلي بحُسن الاحتياط استكشاف الحكم الشرعي منه باستحباب الاحتياط ليس فيه
محذور اللّغوية وليس فيه محذور التسلسل، ومن هنا لا يقع صغرى لتلك الكبرى.
الملاحظة
الثانية: على جعل المقام صغرى لتلك الكبرى ومنع استكشاف الحكم الشرعي باستحباب
الاحتياط من حكم العقل بحُسن الاحتياط، تتلخّص الملاحظة الثانية في أنّ الحكم الذي
يقع مورداً لهذه الكبرى هو عبارة عن الحكم العقلي الذي يكون الحكم الشرعي الذي
يُراد استكشافه منه على أساس الملازمة في القسم الأوّل من القسمين العقليين
السابقين، أو يُمنع من استكشافه من الحكم العقلي كما في القسم الثاني من الحكمين
العقليين يلزم أنْ يكون من سنخ الحكم العقلي. الحكم الشرعي الذي يُراد استكشافه من
الحكم العقلي، أو يُراد نفي استكشافه، يلزم أنْ يكون هذا الحكم الشرعي من سنخ الحكم
العقلي حتّى يمكن فرض الاستكشاف، وإلاّ لامعنى للاستكشاف، ولا لنفي الاستكشاف،
حتّى يمكن فرض استكشاف هذا من ذاك لابدّ أنْ يكون من سنخه.
إذن:
لابدّ أنْ يكون محل الكلام هو عبارة عن حكم شرعي نتكلّم عن استكشافه من الحكم
العقلي، أو عدم استكشافه، أنْ يكون من سنخ الحكم العقلي حتّى يدخل مصداقاً لهذه
الكبرى ومورداً لهذه القاعدة، من قبيل حكم العقل بحسن العدل، وحكم العقل بقبح الظلم،
هنا ما يراد استكشافه هو عبارة عن حكم الشارع بوجوب العدل وهو من سنخ حكم العقل
بحسن العدل. ما يُراد استكشافه هو حكم الشارع بحرمة الظلم وهو من قبيل حكم العقل
بقبح الظلم ومن سنخه، فيدخل في القاعدة. وهكذا في القسم الثاني ما يُراد نفي استكشافه،
ايضاً هو من قبيل الحكم العقلي، الحكم العقلي في القسم الثاني يحكم بحُسن الطاعة،
وقبح المعصية، وما يُراد نفي استكشافه هو حكم الشارع بوجوب العدل، وهو من قبيل حكم
العقل بحُسن العدل، ما يراد نفي استكشافه هو حكم الشارع بحرمة الظلم، وهو من قبيل
حكم العقل بقبُح الظلم.
وأمّا
إذا كان من غير سنخه، فهذا لا يصلح أنْ يكون صغرى لهذه
الكبرى، ومانحن فيه من هذا القبيل، باعتبار أنّ الاستحباب الشرعي للاحتياط الذي
يُراد استكشافه من حكم العقل بحُسن الاحتياط ليس من سنخ حكم العقل بحُسن الاحتياط،
وذلك باعتبار أنّ هناك فرقاً بين الاستحباب الشرعي للاحتياط وبين حكم العقل بحُسن
الاحتياط، حكم العقل بحُسن الاحتياط لا يثبت للاحتياط مطلقاً، وإنّما يدرك العقل حُسن
الاحتياط إذا جيء به على نحو قربي، أي إذا جاء به العبد متقرّبا إلى الله(سبحانه
وتعالى) حينئذٍ يدرك العقل حُسن الاحتياط، أمّا إذا جاء به لا على نحو التقرّب إلى
الله(سبحانه وتعالى) وإنّما جاء به لغرضٍ آخر من قبيل التحرّز عن الضرر ــــــ
مثلاً ــــــ، مثل هذا لا يحكم العقل بحُسنه. ترك شرب العصير العنبي الذي يحتمل
حرمته تارةً يكون هذا الترك بداعٍ قربي، فهذا احتياط حسن بنظر العقل. وأخرى لا
يكون بداعٍ قربي، وإنّما يكون لغرضٍ آخر، مثل هذا الترك والاحتياط لا يحكم العقل
بحُسنه، والغالب أنّه بنكتة أنّ ما يحكم به العقل هو حُسن التقرّب إلى الله(سبحانه
وتعالى)، فالاحتياط إنْ تعنون بهذا العنوان يحكم العقل بحُسنه، وإنْ لم يتعنون
بهذا العنوان، فلا يحكم العقل بحسنه.
إذن: حكم العقل بحُسن الاحتياط ليس مطلقاً، وإنّما هو مقيّد بذلك. هذا
الحكم العقلي. أمّا إذا أتينا إلى الحكم الشرعي الذي يُراد استكشافه وهو استحباب
الاحتياط، فسنجد أنّ الاستحباب ثابت لمطلق الاحتياط، وليس مشروطاً في الاستحباب
أنْ يكون المكلّف قد جاء بالاحتياط على نحوٍ قربي، وإنّما الاحتياط مطلقاً مستحب، سواء
إنْ جاء به المكلّف بنحو قربي، أو جاء به لا بذلك النحو، وذلك باعتبار أنّ
الاحتياط عبارة عن إدراك الواقع وتجنّب مخالفة الواقع، فإذا دلّ دليل على استحباب
الاحتياط وثبت استحباب الاحتياط شرعاً، فهذا هو المطلوب، أنْ يتجنّب مخالفة
الواقع، وأنْ يدرك الواقع على كل حال، وهذا يتحققّ سواء جاء به بنحوٍ قربي وبداعٍ
مقرّب، أو جاء به لغرضٍ آخر لا يتقرّب به إلى الله(سبحانه وتعالى) على كل حال هو
يدرك الواقع، ويتجنّب مخالفة الواقع، فيكون مستحبّاً، الحكم بالاستحباب لا يختص
بخصوص الاحتياط الذي يؤتى به بداعٍ قربي بل يثبت مطلقاً.
إذا
تمّ هذان الأمران في الحكم العقلي وفي الحكم الشرعي
باستحباب الاحتياط؛ حينئذٍ يثبت أنّ الحكم الشرعي الذي يُراد استكشافه هو ليس من سنخ
الحكم العقلي المفروض ثبوته في المقام، فإذا لم يكن من سنخه أصلاً لا يكون مورداً
لهذه الكبرى؛ لأننّا قلنا أنّ ما يكون مورداً للكبرى هو عبارة عن الحكم الشرعي
الذي يُراد استكشافه، أو يُنفى استكشافه، إذا كان هذا الحكم الشرعي من سنخ الحكم
العقلي الذي يراد استكشاف هذا الحكم الشرعي منه، أو يُراد نفي استكشافه؛ لِما
قلناه، وإلاّ لا معنى للاستكشاف، لا معنى لأنْ نستكشف هذا من هذا إذا لم يكن من
سنخه، إنّما الاستكشاف يكون له معنى، ونفي الاستكشاف أيضاً كذلك، إنّما يكون له
معنى عندما يكون من سنخه، وإلاّ فلا معنى لاستكشافه، أو نفي استكشافه. في محل
الكلام الحكم الشرعي الذي نتكلّم عن استكشافه هو ليس من سنخ الحكم العقلي.
فإذن: لا يكون صغرى لهذه الكبرى؛ وحينئذٍ تكون هذه ملاحظة ثانية على
الصغرى التي ذكرها المحقق النائيني(قدّس سرّه).