الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/01/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات البراءة/ التنبيه الثاني
كان الكلام في وجود بعض الروايات التي قد يقال بأنّها منافيةلاستصحاب عدم التذكية، وانتهى الكلام إلى روايتي علي بن أبي حمزة، ورواية سُماعة بن مهران، حيث يُفهم منهما الجواز والحلّية مع الشكّ في جواز الصلاة فيه مع الشكّ في التذكية، وهذا معناه عدم جريان استصحاب عدم التذكية.
في الدرس السابق ذكرنا جواباً عن ذلك، لكن بينّا أنّ الروايات ليس فيها ما يُشير إلى أنّ الحكم بالحلّية فيها إنّما هو لأجل وجود إمارة على التذكية، وإلاّ ظاهرها الإطلاق، أنّها تحكم بالحلّية والجواز مطلقاً، أي سواء كانت هناك إمارة على التذكية، أو لم تكن هناك إمارة على التذكية، وهذا مُنافٍ لاستصحاب عدم التذكية في صورة عدم العلم بالتذكية وعدم وجود إمارة على التذكية، هذه الروايات تحكم بالجواز والحلّية، في حين أنّ مقتضي الاستصحاب هو عدم الجواز وعدم الحلّية.
الذي يمكن أنْ يقال في المقام هو أنّ هذه الرواية وإنْ كان ظاهرها المنافاة مع استصحاب عدم التذكية، لكن هذه الرواية معارضة بأكثر من روايةٍ في نفس المورد تدلّ على أنّ الحكم هو عدم الجواز، وفي هذا الصدد تُذكر موثقة ابن بُكير، عن زرارة، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال:(إنْ كان ممّا يؤكل لحمه، فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه، وكل شيءٍ منه جائز إذا علمت أنّه ذكى).[1] فقيّد الجواز بما إذا علمت أنّه مذكّى، ومفهومها هو إذا لم تعلم أنّه مذكّى، يعني شككت في تذكيته، تكون الصلاة منه في هذه الأمور جائزة، فتكون هذه الرواية معارضة للروايات السابقة، باعتبار أننّا في نفس المورد نحكم في صورة الشكّ بعدم الجواز خلافاً لتلك الروايات. هذه الرواية إنْ جعلناها معارضة للروايات السابقة؛ حينئذ بعد فرض التعارض وعدم وجود المرجّح لا يمكن الاستناد إلى كلٍ منهما، فيتساقطان للتعارض؛ وحينئذٍ لا مانع من الرجوع إلى أصالة عدم التذكية في حالة الشكّ كما هو محل الكلام؛ لأنّ الرواية التي فُرض كونها مانعة من جريان أصالة عدم التذكية سقطت بالمعارضة مع الرواية الأخرى، فكأنّه نبقى نحن وأصالة عدم التذكية من دون أنْ يوجد ما يمنع من استصحاب عدم التذكية، فيُلتزم باستصحاب عدم التذكية إذا جعلناها معارضة لتلك الروايات. ونفس الكلام يقال، أنّ النتيجة نفس النتيجة إذا فرضنا أنّ هذه الرواية مطلقة من حيث وجود إمارة على التذكية وعدم وجود إمارة على التذكية، بمعنى أنّ الرواية الأخيرة بمفهومها تدلّ على عدم الجواز في حالة الشكّ وعدم العلم بالتذكية، في حالة الشكّ يُحكم بعدم الجواز، ومقتضى إطلاقها هو أنّه يُحكم بعدم الجواز في صورة وجود إمارة على التذكية وصورة عدم وجود إمارة على التذكية، هذا الإطلاق لا يمكن الالتزام به، ولابدّ من تخصيصها؛ لأنّه في صورة وجود إمارة على التذكية لا يمكن الحكم بعدم الجواز استناداً إلى استصحاب عدم التذكية؛ إذ لا إشكال أنّه في صورة وجود إمارة على التذكية لا يجري الاستصحاب، فحكم الرواية بعدم الجواز لابدّ من تخصيصه وإنْ كان مطلقاً بحسب الظاهر يشمل صورة وجود الإمارة على التذكية وصورة عدم وجود الإمارة على التذكية، لكن لابدّ من تخصيصها بصورة عدم وجود الإمارة على التذكية حتّى يمكن أنْ نلتزم بعدم الجواز استناداً إلى استصحاب عدم التذكية، يعني نُخرج منها صورة وجود الإمارة على التذكية، فتبقى هذه الرواية بعد التخصيص بعد إخراج صورة وجود الإمارة على التذكية تبقى مختصّة بصورة عدم وجود الإمارة على التذكية؛ حينئذٍ نلاحظ نسبة هذه الرواية بعد هذا التخصيص إلى الروايات السابقة التي تحكم بالحلّية، سوف نجد أنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق؛ لأنّ الروايات السابقة الحاكمة بالحلّية تحكم بالحلية مطلقاً، سواء وجدت الإمارة على التذكية، أم لم توجد الإمارة على التذكية؛ ولذا جُعلت منافية لاستصحاب عدم التذكية، فهي تحكم بالحلّية مطلقاً، بينما هذه الرواية تحكم بالحرمة بعد التخصيص في صورة عدم وجود إمارة على التذكية، وتكون نسبتها إلى تلك الروايات نسبة الخاص إلى العام، تلك الروايات تحكم بالحلّية مطلقاً، بينما هذه تحكم بالحرمة في صورة عدم وجود إمارة على التذكية، فتخصّص تلك الروايات، يعني نحمل تلك الروايات على صورة وجود إمارة على التذكية، وبهذا لا تكون حينئذٍ منافية لاستصحاب عدم التذكية، يعني سوف نصل إلى نفس النتيجة التي ذُكرت في الجواب السابق الذي لم نرتضه وناقشنا فيه، وهو أنّ هذه الروايات مختصّة بصورة وجود الإمارة على التذكية، قلنا أنّ هذا إذا استفيد من نفس الروايات، فالروايات ليس فيها إشارة إلى اختصاص الحكم بالحلّية في صورة وجود إمارة على التذكية، وإنّما هي مطلقة، لكن عندما أبرزنا هذه الرواية الدالّة على الحرمة وعدم الجواز، قلنا أنّ هذه الرواية إنْ كانت معارضة لتلك الروايات، بأنْ كنّا لا نؤمن بانقلاب النسبة الذي هو مبنى الوجه الآخر الذي ذكرناه؛ حينئذٍ يتعارضان ويتساقطان؛ فحينئذٍ لا مانع من الالتزام بأصالة عدم التذكية وليس هناك ما يمنع من جريانه؛ لأنّ المانع من جريانه هو تلك الروايات وقد سقطت بالمعارضة.
وأمّا إذا آمنّا بكبرى انقلاب النسبة، فسوف تكون النسبة بين هذه الرواية الأخيرة وبين تلك الروايات هي نسبة العموم والخصوص المطلق؛ لما قلناه من أنّ هذه الرواية وإنْ كانت مطلقة تدّل على الحرمة مطلقاً، يعني سواء قامت إمارة على التذكية، أو لم تقم، لكن هذا لا يمكن الالتزام به، لأنّ في صورة قيام الإمارة على التذكية كيف يُلتزَم بعدم الجواز اعتماداً على استصحاب عدم التذكية ؟ إذن: لابدّ أنْ نخرج منها صورة قيام الإمارة على التذكية ونحملها على صورة عدم قيام الإمارة على التذكية. إذن: هي تدلّ على عدم الجواز في صورة عدم قيام الإمارة على التذكية، إذا اختصّت بصورة عدم قيام الإمارة على التذكية تكون أخصّ مطلقاً من تلك الروايات وهذا معناه انقلاب النسبة؛ لأنّ تلك الروايات تدلّ على الحلّية مطلقاً سواء كانت هناك إمارة على التذكية أو لم تكن هناك إمارة على التذكية، فتخصص هذه الرواية الأخيرة تلك الروايات، يعني نخرج من تلك الروايات صورة عدم وجود الإمارة على التذكية؛ لأنّ صورة عدم وجود الإمارة على التذكية هذه الرواية تحكم بعدم الجواز، تلك تحكم بالحلّية، لكن تحكم بالحلّية مطلقاً، لا أنّها تحكم بالحلّية في هذه الصورة حتّى تعارضها، وإنّما تحكم بالحلّية مطلقاً فنخصصّها ونحمل تلك الروايات الدالّة على الحلّية على صورة وجود الإمارة على التذكية، وحملها على صورة وجود الإمارة على التذكية لا ينافي استصحاب عدم التذكية؛ لأننّا لا نتكلّم في صورة وجود إمارة على التذكية؛ إذ لا إشكال في تقدّم الإمارة على الاستصحاب، فيثبت المطلوب، سواء قلنا بالمعارضة، أو قلنا بانقلاب النسبة، النتيجة هي نفس النتيجة وهي أنّه لا مانع من إجراء استصحاب عدم التذكية، ولا مانع منه من جهة هذه الروايات.
هذا تمام الكلام في استصحاب عدم التذكية.
التنبيه الثاني: يقع في حسن الاحتياط واستحبابه. وذلك لأنّه بعد أنْ تقدّم في أصل البحث عدم تمامية ما استدلّ به الأخباريون على وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية التحريمية، أو مطلقا، على الخلاف في أنّه يجب مطلقاً، أو في خصوص الشبهات التحريمية. بعد أن فرغنا من ذلك، أنّ ما أقاموه من أدلّةٍ على وجوب الاحتياط في هذه الشبهات غير تام، فلا نلتزم بوجوب الاحتياط؛ حينئذٍ ينفتح المجال للبحث في أنّه هل الاحتياط الذي فرغنا عن عدم وجوبه هل يمكن الالتزام بحسنه عقلاً ؟ واستحبابه شرعاً؟ أو لا ؟ ذكروا بأنّ الحسن العقلي للاحتياط لا إشكال فيه، ولا ينبغي أنْ يقع الكلام فيه، بمعنى أنّه لا إشكال في حُسن الاحتياط في جميع أقسام الشبهة البدوية التحريمية والوجوبية وحتّى الشبهة الموضوعية، لا إشكال في حُسن الاحتياط عقلاً، باعتبار أنّ الاحتياط يمثّل إدراك الواقع، والوصول إلى مطلوب الشارع ومراده، والعقل يحكم بحُسن هذا الشيء بلا إشكال. فحُسن الاحتياط ورجحانه عقلاً ممّا لا إشكال فيه ولا بحث فيه، وإنّما يقع الكلام في استحبابه شرعاً، هل يمكن أنْ نلتزم باستحبابه بحيث أنّ المفتي يفتي بأنّ الاحتياط مستحب شرعاً، حاله حال المستحبات الأخرى. الكلام الذي طرحوه تكلّموا عن إمكان هذا الشيْ، هل يمكن فرض الاستحباب الشرعي للاحتياط ؟ وتكلّموا عن كيفيّة استفادته، وإثباته. البحث الأوّل بحث ثبوتي، في أنّه هل يمكن فرض استحبابٍ شرعي متعلّق بالاحتياط، أو أنّه غير ممكن ؟ البحث الثاني يحث إثباتي في كيفيّة استفادة الاستحباب، في إثبات الاستحباب، ما هو الدليل على الاستحباب، فرضاً أنّ الاستحباب الشرعي المولوي للاحتياط أمر ممكن؛ إذ لا محذور فيه ثبوتاً، لكن ما هو الدليل عليه، هذا بحث إثباتي.
في كلماتهم وقع خلط بين البحثين، ولم يُميّز أحدهما عن الآخر، بينما ينبغي التمييز بينهما، ولو من ناحية منهجية. ثمّ أنّ البحث في حكم الاحتياط في الشبهات البدوية وإن كان يعمّ العبادات وغير العبادات، في كلٍ منهما يجري هذا الكلام، الاحتياط في العبادات ليس واجباً، فيقع الكلام في أنّه هل يمكن أنْ يكون مستحبّاً ؟ أو لا يمكن أنْ يكون مستحبّاً ؟ شيء يدور أمره بين أنْ يكون واجباً، أو غير واجب، فرضاً قلنا أنّه لا يجب الاحتياط، هذا قد يُتصوّر في غير العبادة، وقد يُتصوّر في العبادة، أنّ صلاة ركعتين عند دخول المسجد واجبة، أو ليست بواجبة ؟ فيقع الكلام في أنّ هذا الاحتياط هل هو مستحب في العبادة، أو ليس مستحبّاً في العبادة ؟ الكلام كما يقع في هذا يقع في غيره أيضاً، في غير العبادات ممّا يدور أمره بين الوجوب وغيره، لكن حيث أنّ العبادات تختصّ بنكاتٍ خاصّة ليست موجودة في غيرها ناسب ذلك إيقاع هذا البحث في مقامين، المقام الأوّل في الشبهات البدوية بشكلٍ عام من دون أنْ نبحث عن خصوصيّة كون المشكوك عبادة. والمقام الثاني عن حكم الاحتياط في خصوص العبادات؛ لأننّا قلنا أنّ العبادات فيها بعض النكات التي تختصّ بها.
المقام الأوّل: في الشبهات البدوية بشكلٍ عام، من دون ملاحظة خصوصية كون المشكوك عبادة.
الكلام يقع في بحثين:
البحث الأوّل: في البحث الثبوتي، في إمكان فرض استحبابٍ شرعي مولوي للاحتياط، هل يمكن فرضه، أو لا يمكن فرضه ؟
البحث الثاني: بعد فرض الإمكان في البحث الأوّل يقع الكلام في كيفيّة استفادة هذا الاستحباب، وما هو الدليل على هذا الاستحباب ؟
قبل أنْ نتكلّم عن هذين البحثين الثبوتي والإثباتي لابدّ من الإشارة إلى أنّ المقصود بالاستحباب في المقام الذي نبحث عن إمكانه، وعن كيفية إثباته، هو الاستحباب المولوي الطريقي لا الاستحباب المولوي النفسي، الاستحباب الطريقي الذي يكون ملاكه هو نفس ملاك الواقع، ويكون الغرض منه هو الوصول إلى الواقع المشكوك، والتحفّظ على ملاكات الواقع المشكوك، هذا الاستحباب الطريقي هو طريق لإدراك الواقع المشكوك، فيؤمر بالاحتياط على نحو الاستحباب لغرض الوصول إلى إدراك الواقع، والتحفّظ على ملاكات الواقع، فيكون هذا الاستحباب استحباباً طريقياً، هذا هو محل كلامنا؛ لأننّا نتكلّم عن الاحتياط الذي تكلّمنا فيه سابقاً، والذي عجزت أدلّة الإخباريين عن إثبات وجوبه، وذاك الاحتياط احتياط طريقي الغرض منه هو إدراك الواقع المشكوك والتحفّظ عليه، هذا إذا لم تنهض الأدلّة لإثبات وجوبه؛ حينئذٍ لا يقع الكلام في أنّه مستحب، أو غير مستحب.
وأمّا الاستحباب المولوي النفسي الذي ينشأ من ملاكات ليس لها علاقة بالواقع المشكوك؛ بل ينشأ من ملاكات أخرى، ليس الغرض منه إدراك الواقع المشكوك، والتحفّظ على ملاكه؛ بل له ملاك آخر من قبيل ما أشارت إليه بعض الروايات المتقدّمة حينما تقول من ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، هذا ملاك للاستحباب وهو أنّ الاحتياط يخلق في نفس الإنسان حالة الاقتدار على ترك ما يعلم حرمته، أي المحرّمات المعلومة، ومن الواضح أنّ الذي يترك ما يحتمل كونه حراماً يكون أقدر بلا إشكال على ترك ما يعلم كونه حراماً، هذا ملاك للاستحباب، ملاك لترك ما يحتمل حرمته، وفعل ما يحتمل وجوبه، لكن ليس الملاك في هذا هو مسألة إدراك الواقع المشكوك، وإنّما الملاك هو خلق حالة الاقتدار على ترك المحرّمات المعلومة، وفعل الواجبات المعلومة، كلامنا ليس في هذا؛ لأنّ مثل هذا الاستحباب النفسي المولوي لا إشكال في إمكانه، كما أنّه لا ينبغي الإشكال في إمكان استفادته من بعض نصوص الباب كهذا الحديث الذي ذكرناه؛ إذ من الواضح أنّه ظاهر في هذا الشيء، فليس هو مورداً للبحث أنّ الاستحباب المولوي النفسي الشرعي للاحتياط ممكن، أو ليس ممكناً ؟ هو ممكن بلا إشكال؛ لأنّ المحذور الذي سنذكره على الاستحباب المولوي الطريقي ليس موجوداً في الاستحباب المولوي النفسي الذي هو كما سيأتي أنّه يستلزم محذور اللّغوية، ليس هناك لغوية في جعل استحباب نفسي مولوي للاحتياط، ولا يلزم منه لغوية بالرغم من أنّ العقل يحكم بحسنه، فأنّ اللغوية إنّما ترد من جهة أنّ العقل يحكم بحسنه، فما هو الداعي لجعل الاستحباب ؟ هذا إنّما يُتصوّر في الاستحباب الطريقي المولوي، أمّا الاستحباب المولوي النفسي للاحتياط لا يلزم منه لغوية بالرغم من أنّ العقل يحكم بحسن الاحتياط، لكن الملاك للاحتياط اختلف، حيث أنّ العقل يحكم بحسن الاحتياط باعتبار إدراك الواقع المشكوك، الشارع يحكم باستحبابه بملاك آخر، ملاك نفسي ليس له علاقة بالواقع حتّى يلزم من جعل الاستحباب ـــــ مثلاّ ـــــ توهّم محذور اللّغوية، فإذن: الاستحباب النفسي المولوي خارج عن محل الكلام، نحن نتكلّم عن الاستحباب المولوي الطريقي، هل هو أمر ممكن، أو لا ؟
أمّا الكلام في البحث الثبوتي: وهو الإمكان وعدمه، فقد يقال بعدم الإمكان، باعتبار لزوم اللّغوية من جعله بعد فرض حكم العقل بحُسنه؛ لأنّ الغرض من جعل الاستحباب هو جعل ما يحرّك المكلّف نحوه لا على نحو الإلزام، والمفروض وجود هذا المحرّك، أي وجود ما يحرّك المكلّف نحو الإتيان بما يحتمل وجوبه، وترك ما يحتمل حرمته، وهو حكم العقل بحسن الاحتياط، عقل الإنسان يحكم بحسن الاحتياط وهذه قضيّة مسلّمة، وهذا يكون محرّكاً له نحو الإتيان بما يحتمل وجوبه، وترك ما يحتمل حرمته، ومع فرض وجود المحرّك لا معنى لأنْ يجعل الشارع استحباباً لغرض إيجاد المحرّك لتحريك المكلّف؛ إذ هناك ما يحرّك المكلّف وهو حكم العقل الذي ذكرناه؛ وحينئذٍ يكون جعل الاستحباب من قِبل الشارع لنفس الغرض، لإيجاد ما هو حاصل يكون لغواً وبلا فائدة. وهذا المحذور الثبوتي الذي إذا تمّ سوف يستوجب الحكم باستحالة جعل الاستحباب المولوي الطريقي للاحتياط، هنا واضح عدم تعددّ الملاك في هذين المحرّكين، حكم العقل بحُسن الاحتياط ملاكه إدراك الواقع المشكوك، والاستحباب المولوي الطريقي أيضاً ملاكه إدراك الواقع المشكوك، فالملاك واحد وغير متعددّ؛ ولذا قلنا أنّه إذا كان الاستحباب نفسياً فلا إشكال في إمكانه؛ لأنّ الملاك متعدد، ملاك إدراك الواقع، وملاك أنْ يكون أقدر على ترك المحرّمات المعلومة، فلا يلزم اللّغوية، بينما هنا ترد شبهة اللّغوية؛ لأنّ الملاك واحد، في كلٍ منهما ملاك واحد، هذا يُحرك المكلّف، فما هو الداعي لجعل محرّك آخر للمكلّف ؟!
لكن الذي يُلاحظ على هذا الكلام هو أنّ جعل الاستحباب الطريقي من قِبل المولى إنّما هو لغرض إدراك الواقع المحتمل والتحفّظ على ملاكاته، فإذا فرضنا أنّ الواقع المحتمل وملاكاته في نظر المولى واصل إلى درجة من الأهمية ليست بذاك المقدار الذي لا يرضى بتفويته؛ إذ أنّ أهميّة الواقع المحتمل، وأهميّة ملاكاته في نظر المولى، مرّة نفترض أنّه واصل إلى درجة من الأهمّية بحيث لا يرضى بتفويته، في هذه الحالة سوف يجعل وجوب الاحتياط على المكلّف حتّى يدرك الواقع؛ لأنّه لا يرضى بتفويت الواقع. نحن نفترض أنّ الواقع وملاكاته بالغة إلى درجة من الأهمّية مهمّة في نظر المولى، لكنها ليست واصلة إلى حدٍّ بحيث لا يرضى بتفويته؛ بل هو يرضى بتفويته، لكنّه يهتم به، واصلة إلى درجة من الأهميّة تتناسب مع استحباب الاحتياط، يعني تتناسب مع حثّ العبد نحو إدراك الواقع وتحصيل ملاكاته، لكنّه يرضى بتفويته، إلاّ أنّه من الأهمّية بمكان بحيث يطلب من المكلّف طلباً غير إلزامي بأنْ يُدرك الواقع؛ فحينئذٍ يجعل استحباب الاحتياط.
أقول: هذا الفرض يمكن فرضه ثبوتاً وليس هناك مانع منه، في هذه الحالة لا مانع من جعل استحباب مولوي طريقي للاحتياط ولا يلزم من جعله في هذا الفرض اللّغوية؛ وذلك لأنّ مثل هذا الاستحباب يوجب تأكيد حكم العقل بحسن الاحتياط، ويوجب إيجاد محرّك آخر للمكلّف، ولو على مستوى الاستحباب، ومع كونه يحقق هذين الأمرين، تأكيد المحرّكية الموجود باعتبار حكم العقل بحسن الاحتياط، وكونه يوجد محرّكاً آخراً غير محرّكية حكم العقل، هذا يرفع محذور اللّغوية؛ وحينئذٍ لا يكون جعله لغواً، فمن دون جعل الاستحباب المولوي الطريقي هذين الأمرين لا يحصلا، لا حكم العقل بالاحتياط يكون حكماً مؤكّداً، ولا المحرّكية تكون متعدّدة؛ بل تكون المحرّكية واحدة وهي محرّكية حكم العقل، هذا يُضيف إلى المحرّكية محرّكية أخرى، ولو بنفس الملاك.
وبعبارة أخرى: أنّ حكم العقل وإنْ كان يوجد داعٍ عند المكلّف بالتحرّك على المستوى المناسب للرجحان والاستحباب، لكن هذا لا يعني لغويّة جعل داعٍ آخر عند المكلّف للتحرّك، يعني يجعل الشارع داعٍ آخر عند المكلّف للتحرّك، وذلك بجعل استحباب الاحتياط؛ بل يمكن أنْ يقال أنّه يكفي في عدم لغويّة هذا الاستحباب الطريقي المولوي هو أنّه قد يكون محرّكاً بالفعل بالنسبة إلى بعض الناس الذين لا يتحرّكون من الحكم العقلي؛ إذ من الممكن فرض أنّ بعض الناس لا يتحرّكون من الحكم العقلي، بالفعل لا يتحرّك للإتيان بالاحتياط لمجرّد أنّ العقل يدرك حُسنه، لكن إذا قال له الشارع هذا مستحب فأنّه قد يتحرّك نحو الإتيان بالاحتياط، وهذا يكفي في رفع لغويّة جعل الاستحباب المولوي الطريقي للاحتياط، والظاهر أنّ الجماعة لم يهتموا بهذا الإشكال، وفرغوا عن إمكان جعل الاستحباب الطريقي للاحتياط، وهذا هو الصحيح، يعني في عالم الثبوت لا توجد مشكلة في افتراض استحبابٍ مولويٍ طريقيٍ للاحتياط.


[1]ـ وسائل الشيعة(آل البيت)، الحر العاملي، ج 3، ص 408، باب 9 من أبواب النجاسات والأواني والجلود، ح 6.