35/01/20
الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات البراءة/ التنبيه الأوّل
كان الكلام في ما يترتّب على استصحاب عدم التذكيّة في موارد جريانه، ذكروا، ومنهم السيّد الخوئي(قدّ سرّه) أنّه لا إشكال في ترتّب حرمة الأكل على استصحاب عدم التذكية، باعتبار أنّ حرمة الأكل مترتّبة في لسان دليلها على عدم التذكية، فيكون موضوع حرمة الأكل هو غير المذكّى، فإذا ثبت هذا الموضوع باستصحاب عدم التذكية يترتّب عليه الحكم بلا إشكال، واستُفيد ذلك من قوله تعالى:﴿ حُرّمت عليكم المِيْتة والدمَ ولحمَ الخنزير وما أُهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما ذكّيتم ﴾.[1] في مقام الاستثناء من حرمة الأكل، ويُفهم أنّ التذكية هي موضوع الحلّيّة وأنّ عدمها هو موضوع الحرمة، فيكون موضوع الحرمة هو عدم التذكية، فتثبت باستصحاب عدم التذكيّة.
وأمّا النجاسة، فإن كان موضوعها هو نفس موضوع حرمة الأكل، إذا ادُّعي بأنّ النجاسة أيضاً موضوعها هو غير المذكى، وفي الأدلّة ثبتت حرمة الأكل لغير المذكّى، وثبتت له في الأدلّة أيضاً النجاسة، كما ادُّعي ذلك، حيث حُكي عن المحققّ الهمداني(قدّس سرّه) أنّه يرى أنّ موضوع النجاسة هو غير المذكّى،[2] [3] بناءً على هذا أيضاً لا مشكلة؛ إذ يمكن إثبات النجاسة أيضاً باستصحاب عدم التذكية، باعتبار أنّ موضوع النجاسة هو غير المذكّى، ويثبت باستصحاب عدم التذكيّة، فباستصحاب عدم التذكية تترتّب حرمة الأكل والنجاسة.
وأمّا إذا قلنا، كما هو الرأي المعروف والمشهور أنّ موضوع النجاسة ليس هو عدم التذكية وغير المذكى، وإنّما موضوع النجاسة هو الميتة، وفُسرّت الميتة بأنّها عبارة عن ما زهقت روحه من دون سببٍ محللٍ شرعي، فتشمل ما مات حتف أنفه، وتشمل ما مات بالضرب، أو بالشق، وتشمل ما ذُبح مع اختلال بعض الشرائط المعتبرة في التذكية، كلّ هذا يُعتبر ميتة؛ لأنّ الميتة بناءً على هذا التفسير هي عبارة عن كلّ ما زهقت روحه من دون سببٍ شرعي محللٍ، وفي كلّ هذه الحالات لا يوجد سبب محللّ، والتذكية بالمعنى الشرعي غير متحققّة، فتكون ميتة، هذا هو المراد بالميتة، إذا كان موضوع النجاسة هو الميتة، وفُسّرت الميتة بذلك، أي بالمعنى العام الذي لا يختصّ بما مات حتف أنّفه؛ بل يشمل كل ما مات من غير سبب محللّ، بناء على ذلك؛ حينئذٍ لا يمكن إثبات النجاسة باستصحاب عدم التذكية، إلاّ بناءً على القول بالأصل المثبت، باعتبار أنّ الميتة بهذا المعنى المتقدّم هي أمر وجودي(ما مات بدون سببٍ شرعي محلل) ملازم لعدم التذكية، ولا يمكن إثبات هذا الأمر الوجودي باستصحاب عدم التذكية، وإنْ كان بينهما ملازمة، لكن لمّا كان موضوع النجاسة هو الأمر الوجودي، فاستصحاب عدم التذكية لا يثبت به هذا الأمر الوجودي؛ لأنّ ما يثبت باستصحاب عدم التذكية هو عدم التذكية، ولازم عدم التذكية هو كونه ميتة، والأثر مترتّب على هذا اللّازم الذي هو أمر وجودي، وهو كونه ميتة، وهذا لا يثبت باستصحاب عدم التذكية، إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت؛ بل قد يقال في هذه الحالة ــــــ بناءً على هذا الذي ذكرناه ــــــ بجريان أصالة عدم كونه ميتة، ويكون هذا الأصل معارضاً لأصالة عدم التذكية؛ لأنّ كلاً منهما أمر وجودي مسبوق بالعدم، فالتذكية أمر وجودي مسبوق بالعدم، وكونه ميتة هو أيضاً أمر وجودي مسبوق بالعدم، فكما يجري استصحاب عدم كونه مذكّى يجري أيضاً استصحاب عدم كونه ميتة، وهذان أصلان متنافيان ومتعارضان، فيتساقطان، فإذا تساقطا؛ فحينئذٍ يمكن الرجوع إلى أصالة الطهارة عندما نشكّ في طهارة هذا الحيوان ونجاسته، وبذلك نفكّك بين حرمة الأكل وبين النجاسة، فنلتزم بحرمة أكل لحم هذا الحيوان اعتماداً على أصالة عدم التذكية؛ لأنّ موضوع الحرمة هو عدم التذكية، وهو يثبت بهذا الاستصحاب، ولا نلتزم بالنجاسة؛ بل نلتزم بالطهارة اعتماداً على قاعدة الطهارة، باعتبار أنّ أصالة عدم التذكية وأصالة عدم كونه ميتة تتعارضان وتتساقطان، فلا يوجد عندنا ما يثبت النجاسة، أو ينفي الطهارة؛ لأنّ استصحاب عدم كونه ميتة وإنْ كان ينفي النجاسة كما قلنا؛ لأنّ موضوع النجاسة هو كونه ميتة، واستصحاب عدم كونه ميتة ينفي النجاسة، لكنّ المفروض أنّ استصحاب عدم كونه ميتة سقط بالمعارضة مع استصحاب عدم التذكية؛ لأنّهما أصلان متنافيان، تعارضا فتساقطا، فبقينا نحن وهذا المشكوك الذي نشكّ في أنّه طاهر، أو نجس، فنرجع إلى قاعدة الطهارة لإثبات طهارته.
السيد الخوئي(قدّس سرّه)[4] ذكر في هذا المقام بأنّه لا داعي لإيقاع التعارض بين هذين الأصلين والتنافي؛ بل من الممكن الالتزام بجريانهما معاً، فتجري أصالة عدم التذكية وتجري أصالة عدم كونه ميتة، كلّ منهما يجري؛ لأنّ كلاً منهما حادث مسبوق بالعدم، فيجريان معاً ولا مانع من ذلك، ونلتزم بمقتضى كلٍ منهما، فأصالة عدم التذكية يترتّب عليها حرمة الأكل، وأصالة عدم كونه ميتة يترتّب عليها الطهارة، أو قل بعبارة أخرى: يترتّب عليها نفي النجاسة؛ لأنّ موضوع النجاسة هو الميتة، وأصالة عدم كونه ميتة ينفي النجاسة بنفي موضوعها، فنلتزم بأنّ هذا يحرم أكله، لكنّه في نفس الوقت هو ليس نجساً، أو نقول أنّه طاهر، فنلتزم بالطهارة وحرمة الأكل. ويقول: لا مانع من الالتزام بذلك وإجراء الاستصحابين؛ إذ لا يلزم من ذلك إلاّ التفكيك بين أمرين بينهما تلازم واقعي، يعني نفكك بين حرمة الأكل والنجاسة، والحال أنّ حرمة الأكل والنجاسة أمران متلازمان في الواقع، بلحاظ الواقع هذا الحيوان المشكوك إنْ كان مذكّى، فهو حلال الأكل وطاهر، وإنْ لم يكن مذكّى، فهو حرام الأكل ونجس، أمّا أنْ نلتزم بحرمة أكله وبطهارته، فهذا تفكيك بين أمرين بينهما تلازم في الواقع. يقول: لا مشكلة في ذلك؛ لأنّ هذا التفكيك تفكيكاً ظاهريّاً وبحسب الأدلّة الظاهرية، وبحسب الأصول العملية، هذا التفكيك الظاهري بين أمرين بينهما تلازم واقعي لا محذور فيه ولا مانع منه، فبحسب الظاهر أننّا نلتزم بذلك للأدلّة التي دلّت على أنّ هذا حرام الأكل وفي نفس الوقت هو طاهر، أو ليس نجساً، وقد ثبت هذا في جملة من الموارد، ومثّل لذلك بما إذا توضأ بمايع مرددّ بين كونه ماءً، أو بولاً، هنا يُحكم عليه بالطهارة من الخبث، ولكن يُحكم عليه ببقاء الحدث اعتماداً على الاستصحاب الجاري في كلٍ منهما، فبلحاظ بدنه كان البدن قبل أنْ يتوضأ بهذا المايع طاهراً، وبعد أنْ توضأ بهذا المايع المرددّ بين البول والماء يشكّ في أنْ بدنه هل تنجّس بنجاسة خبثية، أو لا ؟ فيستصحب بقاء الطهارة من الخبث بالنسبة إلى بدنه، فيحكم بأنّ بدنه طاهر، لكن بالنسبة إلى الحدث كانت حالته السابقة هي أنّه محدث فكان يريد أنْ يتوضأ بهذا المايع، فيشكّ في أنّ حدثه ارتفع، أو لا ؟ فيستصحب بقاء الحدث، فيُلتزَم بأنّ البدن طاهر، ويُلتزَم ببقاء الحدث مع أنّ هذين الأمرين بينهما تلازم واقعي، فبلحاظ الواقع هو إنْ توضأ بالماء، فبدنه طاهر وحدثه مرتفع، وإنْ توضأ بالبول، فحدثه باقٍ وبدنه نجس، وأمّا أنْ يُلتزم بطهارة البدن وبقاء الحدث، فهذا تفكيك بين أمرين لا يمكن التفكيك بينهما واقعاً. يقول: لا محذور في أنْ نفكك بينهما بحسب الظاهر باعتبار جريان الأدلّة والأصول العملية.
هناك تعليقان على هذا الكلام:
التعليق الأوّل: مسألة تفسير الميتة بما تقدّم من زهاق الروح الغير المستند إلى سبب شرعي بحيث أنّ عنوان(الميتة) لا يختصّ بما مات حتف أنفه، وإنّما يعمّ حتى ما ذُبح ولكن مع اختلال بعض الشرائط، وما مات بشقّ بطنه، أو بإلقائه من شاهق وأمثال هذه الأمور. الظاهر أنّ هذا التفسير ليس هو باعتبار أنّ عنوان(الميتة) ظاهر في ذلك، فالظاهر أنّ عنوان(الميتة) ليس له ظهور في ذلك، وإنّما الظاهر منه أنّه ما مات حتف أنفه كما يشهد لذلك عطف المترديّة والنطيحة والموقوذة على الميتة في الآية الشريفة:﴿ حُرّمت عليكم المِيْتة والدمَ ولحمَ الخنزير وما أُهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما ذكّيتم ﴾.[5] هذا العطف لا وجه له إذا كان المراد بالميتة هذا المعنى العام؛ لأنّ هذا المعنى العام يشمل المترديّة والنطيحة والموقوذة، النطيحة يعني ما ماتت بالنطح، والمتردّية ما ماتت بالتردّي، الميتة بناءً على هذا المعنى، يعني كل ما مات بلا سبب شرعي محلل، وإنّما تكون هذه في قبال الميتة إذا أردنا بالميتة ما مات حتف أنّفه، وبالمتردّية ما مات بالتردي، وبالنطيحة ما مات بالنطح.....وهكذا، وهذا يشهد لأنّ المراد بالميتة هو ما مات حتف أنفه، والذي دعاهم إلى القول بأنّ المراد بالميتة هو هذا المعنى العام، في أدلّة النجاسة، باعتبار أنّهم ذكروا أنّ موضوع دليل النجاسة هو الميتة، وفسّروا الميتة بهذا المعنى العام، الذي دعاهم إلى ذلك هو عدم إمكان الالتزام باختصاص النجاسة بخصوص ما مات حتف أنفه؛ إذ لا إشكال فقهياً في أنّ النجاسة لا تختصّ بخصوص ذلك، وإنّما هي كما تشمل ما مات حتف أنفه كذلك تشمل المتردية والنطيحة وكل ما مات بغير سببٍ شرعي، وكل ما مات بغير تذكية فهو نجس، فتفسير الميتة بهذا المعنى العام إنّما هو بهذا الاعتبار لا على أساس أنّه هو المعنى اللّغوي للميتة، وإلاّ فالمعنى اللّغوي للميتة كما قلنا بشهادة الآية الشريفة ليس هو هذا، وإنّما هو عبارة عن ما مات حتف أنفه.
التعليق الثاني: أنّ مسألة كون موضوع حرمة الأكل هو غير المُذكّى، الظاهر أنّه أمر ليس مسلّماً عند الجميع، فهناك من يرى أنّ حرمة الأكل كما رُتـّبت في بعض الأدلّة على غير المذكّى، رُتّبت أيضاً في بعض الأدلّة الأخرى على عنوان(الميتة)، ولا نريد أنْ ندخل في البحث الفقهي ونستعرض الروايات، هناك روايات التزم بعضهم بأنّ حرمة الأكل كما هي مرتّبة على غير المذكّى هي مرتّبة أيضاً على عنوان(الميتة) بمعنى أنّ موضوع حرمة الأكل هو الميتة، وموضوع حلّية الأكل هو المذكّى، وليس موضوع حرمة الأكل نقيض المذكّى(عدم التذكية)، أو(غير المذكّى)، وإنّما موضوعها هو عنوان وجودي وهو عبارة عن الميتة.
إذن: ليس مُسلّماً أنّ موضوع حرمة الأكل هو غير المذكّى حتّى نقول لا إشكال في أنّ الحرمة تثبت باستصحاب عدم التذكية، وإلاّ بناءً على أنّ موضوعها الميتة فأننّا سوف نواجه نفس المشكلة التي واجهناها في النجاسة بناءً على أنّ موضوعها هو الميتة؛ لأنّ استصحاب عدم التذكية يعجز عن إثبات الحرمة والنجاسة إذا كان موضوعهما الميتة، إلاّ بناءً على القول بالأصل المثبت. ومن هنا قيل بوقوع التعارض بين استصحاب عدم التذكية وبين استصحاب عدم كونه ميتة؛ لأنّ استصحاب عدم التذكية ينفي الحلّية، واستصحاب عدم كونه ميتة ينفي الحرمة؛ لأنّ موضوع الحرمة بحسب هذا الفرض، والاحتمال الأخير هو الميتة، فاستصحاب عدم كونه ميتة ينفي الحرمة، موضوع الحلّية هو المُذكّى، فاستصحاب عدم كونه مذكّى ينفى الحلّية، وهذان استصحابا متعارضان؛ لأنّ أحدهما ينفي الحرمة، والآخر ينفي الحلّية، فيقع التعارض بينهما، فقد يقال بتساقطهما والرجوع إلى أصالة الحلّية، وأصالة البراءة. هذا التعارض بهذا النحو كلّه مبني على أنْ يكون موضوع حرمة الأكل هو الميتة، وموضوع حلّية الأكل هو المذكّى، فيجري استصحاب عدم التذكية، واستصحاب عدم كونه ميتة، ويقع بينهما التعارض فيتساقطان، فيُرجع إلى أصالة الحلّية.
وقد يُستدل على ذلك بالآية الشريفة، ويقال بأنّ ظاهر الآية الشريفة أنّ الميتة هي موضوع لحرمة الأكل كما هو الحال بالنسبة إلى الدم ولحم الخنزير، وقلنا بأنّ المراد بالآية بحسب الظاهر هو ما مات حتف أنفه، حرّمت عليكم الميتة والدم، فالدم هو نفسه موضوع لحرمة الأكل، ولحم الخنزير أيضاً موضوع لحرمة الأكل، والميتة هي أيضاً موضوع لحرمة الأكل، فيكون ظاهر الآية هو أنّ موضوع حرمة الأكل هو الميتة.إذن: ليس من الأمور المسلّمة أنّ كلّ الأدلّة التي ذُكرَت فيها الحرمة رُتبت فيها الحرمة على غير المذكّى؛ بل هناك من الأدلّة ما رُتّبت فيه الحرمة على عنوان(الميتة).
وأمّا قوله تعالى في ذيل الآية:﴿إلاّ ما ذكّيتم﴾ يمكن أنْ يقال بأنّ هذا ليس استثناءً من الميتة، ولا من الدم، ولا من لحم الخنزير، وإنّما هو استثناء ممّا أكل السبع، ويمكن أنْ يقال بأنّه يرجع إلى المتردّية والنطيحة أيضاً، بمعنى المتردّية يحرم أكلها إلاّ ما ذكّيتم، وما أكل السبع يحرم أكله إلاّ ما ذكّيتم، أمّا أنّ الميتة يحرم أكلها إلاّ ما ذكّيتم، فهذا لا وجه له، كما لا وجه إلى الرجوع إلى الدم وإلى لحم الخنزير، فهو استثناء يرتبط بالأمور الأخيرة، وعلى كلّ حال يمكن أنْ يُدّعى بأنّ حرمة الأكل في بعض الأدلّة رُتّبت على عنوان(الميتة) كما رُتّبت في أدلّةٍ أخرى على عنوان(غير المذكّى).
لكن يمكن أنْ يقال في قبال ذلك: أنّ الآية الشريفة وإنْ جُعل عنوان(الميتة) فيها موضوعاً للحرمة، لكن يبدو أنّ ذلك باعتبار كونه مصداقاً لعنوان(غير المذكّى)، يعني أنّ موضوع الحرمة هو غير المذكّى، والميتة ذُكرت في الآية، أو في أدلّة أخرى إنّما هو باعتبار أنّ الميتة هي مصداق لغير المذكّى بقرينة ذيل الآية الذي يقول(إلاّ ما ذكّيتم) والذي فُهم منه أنّ موضوع الحرمة هو غير المذكى، وأنّ موضوع الحلّية هو المذكّى، فيقول يحرم عليكم ما أكل السبع ـــــ مثلاً ـــــ إلاّ ما ذكيتم، أخرج المذكّى وحكم عليه بالحلّية، فيبقى غير المذكّى وهو موضوع الحرمة الذي هو غير ما خرج بالاستثناء، فالذي فُهم من الاستثناء في ذيل الآية هو أنّ موضوع الحرمة هو غير المذكّى، ونحن نعلم من الخارج أنّ الحرمة حرمة واحدة، وليس لدينا حرمتان، موضوع أحداهما هو غير المذكّى، وموضوع الأخرى هو الميتة بمعنى ما مات حتف أنفه كما في الآية، هذه الحرمة إمّا أنْ يكون موضوعها غير المذكّى الذي هو أعمّ من الميتة، وأمّا أنْ يكون موضوعها الميتة، وإلاّ لا توجد عندنا حرمتان، وفي حالة من هذا القبيل، مقتضى الجمع بين الدليلين، ومقتضى الأخذ بكلا الدليلين هو الالتزام بأنّ موضوع الحرمة هو العنوان الأعمّ، والالتزام بأنّ العنوان الأخص إنّما ذُكر موضوعاً للحرمة باعتباره مصداقاً للموضوع الأعم؛ لأنّه بهذا يتحقق العمل بكلا الدليلين، وأمّا إذا لم نلتزم بذلك؛ فحينئذٍ قد يلزم من ذلك طرح وإلغاء أحد الدليلين إذا قلنا أنّ الموضوع هو الميتة، يعني ما مات حتف أنفه، مقتضى الجمع بين الدليلين هو أنّ يُحمل الأوّل ــــــ ذكر العنوان الخاص ــــــ على أنّه مصداق للعنوان العام، وأنّ الاعتبار بالعنوان العام، ولا محذور في أنْ يفرض مصداقاً للعنوان العام ويجعله موضوعاً للحرمة، فلا محذور في ذلك كما لو فرضنا أنّ وجوب الإكرام رُتّب في دليلٍ على الفقيه(أكرم الفقيه)، وفي دليل آخر رُتّب على مطلق العالم(أكرم العالم) في حالةٍ من هذا القبيل واضح أنّ مقتضى الجمع بينهما هو حمل الفقيه على أنّه ذُكر باعتباره مصداقاً لمطلق العالم، ولا خصوصيّة له في قبال سائر أفراد العالم، وإنّما باعتباره مصداقاً للعالم؛ لأنّه بذلك يمكن الجمع بين الدليلين، والأخذ بكليهما، بينما إذا قلنا بأنّ موضوع الحكم هو خصوص الفقيه يلزم إلغاء الدليل الآخر، وهذا بلا وجه، الجمع العرفي بينهما يقتضي الالتزام بأنّ موضوع الحكم هو الأعم، ففي محل الكلام يُلتزم بأنّ موضوع الحكم هو غير المذكّى، والميتة وإنْ ذُكرت في الآية، أو حتّى في الروايات الأخرى، لكن الظاهر أنّها ذُكرت باعتبار أنّها مصداق لغير المذكّى، فيكون موضوع الحكم بالحرمة هو عبارة عن غير المذكّى. هذا كلّه إذا أريد بالميتة الواردة في الآية كما هو الظاهر، أو الواردة في الروايات كما أشار إليه القائل الذي يقول بأنّه ورد في بعض الروايات أنّ الحكم بالحرمة مرتّب على عنوان(الميتة) إذا أريد بالميتة ما مات حتف أنفه، فيرد فيه الكلام السابق.
وأمّا إذا كان المراد بالميتة المعنى العام كما فُسّرت به، يعني ما مات بلا سببٍ شرعي محلّل الذي هو أعمّ ممّا مات حتف أنّفه، إذا كان هذا المراد؛ فحينئذٍ هكذا يكون الحال: في بعض الأدلّة الحرمة مرتّبة على غير المذكّى، وفي بعض الأدلّة الحرمة مرتّبة على عنوان( الميتة) والمراد بالميتة المعنى العام، هنا لا يرِد فيه الكلام السابق؛ لأنّ الميتة بهذا المعنى هي مساوية لغير المُذكّى، وليست أخص منه؛ لأنّ المراد بالسبب الشرعي الذي أُخذ عدمه في معنى الميتة هو التذكية، والميتة ه ما مات بلا سببٍ شرعي، يعني بلا تذكية، فإذن: بحسب الروح معناهما واحد، غير المذكّى والميتة بهذا المعنى الواسع، لا يكون هذا أخص من هذا، وإنّما هو مساوي له.
نعم هذا الفرق يؤثّر في مقام الإثبات وكيفيّة التعامل مع الأدلّة، يؤثّر في أنّه إذا كان موضوع حرمة الأكل هو غير المذكّى، فهذا عنوان عدمي يمكن إثباته باستصحاب عدم التذكية، ولا يكون بلحاظه أصلاً مثبتاً؛ لأننّا نثبت نفس العنوان، أي عنوان(غير المذكّى)، فيترتّب عليه الحكم بالحرمة؛ لأنّ موضوع الحرمة هو غير المذكّى، فلا يكون الأصل الجاري ـــــ اصالة عدم التذكية ـــــ لإثبات حرمة الأكل بناءً على أنّ الموضوع يكون هو غير المذكّى لا يكون مثبتاً، بينما إذا كان الموضوع هو الميتة، ولو بالعنوان العام وهو عنوان وجودي، يكون استصحاب عدم التذكية لإثبات الحرمة يكون بلحاظه أصلاً مثبتاً؛ لأنّ استصحاب عدم التذكية يعجز عن إثبات الحرمة، إلاّ باعتبار التلازم الموجود بين عدم التذكية وبين عنوان الميتة، والمفروض أنّ موضوع الحرمة هو عنوان(الميتة).