الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/01/15

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ الاحتياط/ الاحتياط الشرعي
كان الكلام في النحو الثالث من أنحاء الشكّ في حلّية الحيوان وحرمته، وهو ما إذا كان الشكّ ناشئاً من الشكّ في وجود المانع من التذكية، إمّا بنحو الشبهة الحكميّة التي كان فيها الكلام، وإمّا بنحو الشبهة الموضوعيّة، وكلامنا فعلاً هو في الشبهة الحكميّة، كما إذا شككنا في أنّ الجلل مانع، أو ليس بمانع، مع فرض إحراز أنّ هذا الحيوان الذي نشكّ في حلّيته وحرمته هو حيوان جلاّل، لكننّا نشكّ في أنّ الجلل مانع شرعاً، أو ليس بمانع.
قلنا أخيراً بأنّ الصحيح هو أننّا تارة نفترض وجود دليل اجتهادي يمكن الرجوع إليه لنفي اعتبار عدم الجلل في حلّية أكل لحم الحيوان، أو لنفي أنّ الشارع اعتبر الجلل مانعاً، فإذا كان هناك إطلاق دليل يثبت لنا أنّ الجلل ليس مانعاً، وأنّ عدم الجلل لم يؤخذ قيداً ولا جزءاً في التذكية والحلّية؛ حينئذٍ يمكن الرجوع إلى هذا الدليل لإثبات أنّ الجلل ليس مانعاً؛ وحينئذٍ يُلتزَم بتحقق التذكية في الحيوان، وبالتالي يكون مُحلّل الأكل.
وأمّا إذا فرضنا عدم وجود دليلٍ اجتهادي يمكن أنْ نتمسّك به لنفي اعتبار عدم الجلل، فبقي الشكّ على حاله، وبقينا نشكّ في أنّ الجلل هل هو مانع، أو ليس بمانع ؟ فإنْ كان مانعاً، فهذا الحيوان غير مُذكى، وبالتالي لا يكون حلالاً، وإنْ لم يكن مانعاً، فهذا الحيوان مُذكى، وبالتالي يكون حلالاً؛ حينئذٍ تصل النوبة إلى الأصول العملية، وفي مقام تحديد ما هو الأصل العملي الذي يجري في المقام يأتي هذا الكلام الذي أُشير إليه سابقاً، وهو أنّ هذا يختلف باختلاف ما نختاره في تفسير معنى التذكية، فتارة نفترض أنّ التذكية هي عبارة عن مجموعة من الأفعال والشروط الخاصّة، نفس الأفعال، فري الأوداج بالحديد، واستقبال القبلة، والتسميّة.... وهكذا. وأخرى نفترض أنّ التذكية هي عبارة عن أمرٍ بسيطٍ مُسَببّ عن هذه الأفعال، بمعنى أنّ هذه الأفعال تكون سبباً في تحققّ هذا المفهوم البسيط المُعبّر عنه بالتذكية، فبناءً على الأوّل وأنّ المراد بالتذكيّة هي نفس الأفعال الخاصّة الخارجيّة وما يعتبر فيها؛ حينئذٍ لا مجال لاستصحاب عدم التذكيّة، باعتبار أننّا لا نشكّ في التذكية بهذا المعنى؛ لأنّ المفروض أننّا نحرز تحقق كل الأفعال الخاصّة، كما لاشكّ في الجلل، فأننّا أيضاً نحرز تحقّقه في الخارج وأنّ هذا الحيوان هو حيوان جلاّل.
إذن: لا معنى لجريان استصحاب عدم التذكيّة بهذا المعنى؛ لعدم الشكّ في الأعمال والشرائط، فلا يوجد عندنا شكّ في الأعمال والشرائط حتّى يجري استصحاب عدم التذكيّة؛ بل الأعمال كلّها محرزة، والجلل أيضاً محرز ــــــ بحسب الفرض ــــــ فلا مجال في محل الكلام لاستصحاب عدم التذكيّة بهذا المعنى، بمعنى الأفعال الخاصّة الخارجيّة مع الشرائط المعتبرة.
نعم، يمكن في المقام الرجوع إلى ما ذكرناه سابقاً وهو استصحاب عدم اعتبار الجلل مانعاً شرعاً، بمعنى استصحاب أنّ الشارع لم يعتبر الجلل مانعاً شرعاً من التذكيّة؛ لأنّ الشكّ هو في ذلك، فالشكّ ليس في تحققّ الجلل، المفروض أنّ الشكّ هو في مانعية هذا الشيء المتحققّ، هل هو مانع؟ أو ليس بمانع ؟ يعني هل اعتبره الشارع مانعاً من التذكية، أو لا ؟ وقلنا أنّه يجري استصحاب عدم المانع، يعني عدم اعتبار هذا الجلل مانعاً من التذكية، باعتباره أمراً مشكوكاً مسبوقاً بالعدم، كما هو الحال في استصحاب عدم الجعل الذي تكلّمنا عنه سابقاً، حيث أنّ استصحاب عدم الجعل لإثبات البراءة كان أحد الطرق لإثبات البراءة، والاستدلال عليها كان هو التمسّك باستصحاب عدم الجعل، بمعنى أننّا حينما نشكّ أنّ الشارع هل جعل هذا الحكم، أو لم يجعله ؟ نستصحب عدم جعل هذا الحكم الثابت قبل الشريعة، وهذا أيضاً جعل واعتبار، ونشكّ فيه، هل اعتبر الشارع الجلل مانعاً من التذكية أو لا ؟ هذا أمر مسبوق بالعدم، فيمكن إجراء الاستصحاب فيه؛ وحينئذٍ يكون الحكم هو الحلّية اعتماداً على هذا الاستصحاب، وهو استصحاب عدم كون الجلل مانعاً من التذكية، والمفروض أنّ بقية الأمور كلّها محرزة، فيُحكم بتذكية الحيوان، ويُحكم بحلّيته، ولو ناقشنا في هذا الاستصحاب، ومنعنا من جريانه؛ فحينئذٍ لا مشكلة في إثبات الحلّيّة؛ لأنّه يمكن حينئذٍ التمسّك بأصالة الإباحة؛ لأنّ هذا حيوان نشكّ في إباحته وحرمته، وأنّ لحمه هل هو مباح، أو ليس مباحاً ؟ وكل شيءٍ يُشكّ في حرمته وحلّيته، فالأصل فيه هو الإباحة، فيمكن الرجوع إلى أصالة الإباحة، باعتبار أنّ هذا الحيوان يُشكّ في حرمة أكل لحمه وإباحته؛ لأنّه إنْ كان الجلل مانعاً، فهو محرّم الأكل، وإلاّ، إذا لم يكن الجلل مانعاً، فلا يكون محرّم الأكل؛ بل يكون محلّل الأكل؛ لأنّه حاله حال سائر الأمور التي يُشكّ في حرمتها وحلّيتها. هذا كلّه إذا كانت التذكية عبارة عن نفس الأفعال الخاصّة الخارجيّة.
وأمّا إذا كانت التذكية عبارة عن أمر بسيط يترتّب على هذه الأفعال، فتكون هذه الأفعال سبباً لتحقّقه. في هذه الحال الظاهر أنّه لا مانع من إجراء استصحاب عدم التذكيّة؛ لأننّا نشكّ في تحققّ التذكية بهذا المعنى، بالمعنى السابق لم يكن عندنا شكّ في تحقق التذكية؛ لأنّ المعنى السابق كان يقول أنّ التذكية عبارة عن الأفعال، ولا شكّ في الأفعال، والشرائط أيضاً لا شكّ فيها، المحرزة والمحتملة، لكن عندما يكون المراد بالتذكية هو  النتيجة، الأمر الذي تكون هذه الأفعال سبباً لتحققّه، نحن بالوجدان نشكّ في تحققّ هذا الأمر البسيط، ولا ندري أنّ هذا الأمر البسيط متحققّ، أو غير متحقق ؟ لأنّه إنْ كان الجلل مانعاً، فهذا الأمر البسيط غير متحققّ، وإنْ لم يكن مانعاً، فالأمر البسيط متحققّ، فعندنا شكّ وجداني في تحققّ هذا الأمر البسيط، وإذا شككنا في تحققّ هذا الأمر البسيط، فالأصل عدمه؛ لأنّه أمر مسبوق بالعدم قطعاً، نشكّ في تحققّه، فنستصحب العدم المتيقّن سابقاً، وهذا هو معنى استصحاب عدم التذكيّة، لكن استصحاب عدم التذكيّة بناءً على أنّ المراد بالتذكية أمر بسيط مسَببّ عن هذه الأفعال، في قباله يوجد أمران:
الأمر الأوّل: ما ذكرناه من استصحاب عدم كون الجلل مانعاً من تحقق التذكيّة، باعتبار أنّ الشكّ في التذكية مسَببّ عن الشكّ في اعتبار الشارع الجلل مانعاً، أو عدم اعتباره، لماذا نشكّ في أنّ هذا الحيوان المذبوح  مذكى، أو غير مذكى ؟ لأننّا نشكّ في أنّ الجلل مانع، أو ليس بمانع، والأصل الجاري في الشكّ السببي يكون حاكماً على الأصل الجاري في الشكّ المسَببّي، فيكون استصحاب عدم التذكيّة ــــــ الذي قلنا لا مانع من جريانه أساساً ــــــ محكوماً باستصحابٍ هو عبارة عن نفس الاستصحاب السابق الذي هو استصحاب عدم كون الجلل مانعاً من التذكية شرعاً.
الأمر الثاني: يمكن إبراز استصحاب تعليقي أيضاً يكون مقدماً على استصحاب عدم التذكيّة على بعض الآراء، أو يكون معارضاً له، وعلى كلا التقديرين لا يجري استصحاب عدم التذكيّة، وهذا الاستصحاب التعليقي يكون باعتبار أنّ هذا الحيوان قبل الجلل تصدق في حقّه هذه القضية الشرطية، وهي أنّ هذا الحيوان لو ذُبح بالشرائط المعروفة لكان مذكى بلا إشكال، فنستصحب هذه القضية الشرطية، وهو معنى الاستصحاب التعليقي، فنقول: هذا الآن كما كان سابقاً، فكما أنّ هذا سابقاً لو ذُبح لكان مذكى، الآن أيضاً كذلك لو ذبح لكان مذكى، ونحن نحرز الذبح بحسب الفرض بالأفعال والشروط المعتبرة، فنقول أنّ هذا يكون مذكى، وهذا الاستصحاب التعليقي، إمّا أنْ يكون معارضاً لاستصحاب عدم التذكيّة، وإمّا أنْ يكون مقدّماً على استصحاب عدم التذكيّة بناءً على أنّ الاستصحاب التعليقي يكون حاكماً على الاستصحاب التنجيزي كما هو أحد الآراء في المسألة والذي اختاره صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، والاستصحاب التنجيزي في محل كلامنا هو استصحاب عدم التذكيّة؛ لأننّا قلنا لا مانع من جريانه، والاستصحاب التعليقي هو أنّ هذا لو ذُبح قبل الجلل لكان مذكى، وهو الآن كما كان.
إذن: على كل حال لا يمكن الالتزام بحرمة أكل لحم هذا الحيوان وبعدم كونه مذكّى، فالظاهر أنّه في الشبهة الحكمية بالنحو الثالث، على كلّ التقادير وعلى كلّ الاحتمالات لابدّ من الالتزام بالتذكية وبالحلّية، فيحكم بحلّية هذا الحيوان، في النحو الثالث بنحو الشبهة الحكمية.
وأمّا إذا كانت الشبهة موضوعية في النحو الثالث، كما إذا شككنا في أنّ هذا الحيوان جلاّل، أو لا، مع إحراز أنّ الجلل مانع من التذكية، ولا شكّ لدينا من ناحية الحكم الشرعي في أنّ الجلل مانع، لكن لا نعلم أنّ هذا الحيوان الذي زهقت روحه هل هو جلاّل ؟ حتّى يكون غير مذكّى ومحرّم الأكل، أو أنّه ليس بجلال ؟ حتّى يكون مذكّى ومحلّل الأكل.
هنا أيضاً نقول: تارة تكون التذكية هي عبارة عن نفس الأفعال الخاصّة الخارجيّة، التذكية مركّبة من مجموعة هذه الأمور الخارجية؛ حينئذٍ يمكن إجراء استصحاب عدم الجلل، وهذا استصحاب لا مانع من جريانه في المقام؛ لأنّ الجلل حالة مسبوقة بالعدم، فإذا شككنا في تحققّها، فالأصل عدمها.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ هذا الحيوان قطعاً مرّ عليه زمان لم يكن جلاّلاً، والآن نشكّ في أنّه صار جلاّلاً، أو لم يصر جلاّلاً، هل تعنون بعنوان(الجلاّل) أو لا ؟ الأصل هو عدم تحققّ الجلل، فيمكن إجراء استصحاب عدم الجلل، وبضم هذا الاستصحاب إلى ما نحرزه وجداناً ويقيناً من تحققّ الأفعال الخاصة والشروط المعتبرة في التذكية؛ حينئذٍ يمكن إثبات التذكية، وبالتالي إثبات حلّية اللّحم؛ لأنّ التذكية بحسب الفرض هي عبارة عن مجموعة الأفعال زائداً عدم الجلل؛ لأنّ المفروض أننّا نعلم بأنّ الجلل مانع.
إذن: التذكية هي عبارة عن مجموعة الأفعال الخاصّة زائداً عدم الجلل، الأفعال الخاصّة والشروط الأخرى غير عدم الجلل نحرزها بالوجدان، وبحسب الفرض ليس لدينا شكّ فيها، وعدم الجلل المعتبر في التذكية بحسب الفرض نحرزه بالاستصحاب، وبذلك نحرز التذكية بضمّ الوجدان إلى التعبّد(الاستصحاب) فنحرز التذكية، وبالتالي حلّية أكل لحم هذا الحيوان، فيجري استصحاب عدم الجلل وبضمّه إلى الوجدان يمكن إحراز التذكية وبالتالي حلّية الأكل. هذا إذا كانت التذكية عبارة عن نفس الأفعال الخاصّة والشروط المعتبرة فيها.
وأمّا إذا قلنا أنّ التذكية أمر بسيط مسَببّ عن الأفعال الخاصّة؛ حينئذٍ يمكن إثبات نفس الكلام السابق الذي قلناه في الاحتمال السابق، لكن فيما إذا فرضنا أنّ هذا الأمر البسيط هو عبارة حكمٍ شرعي، صحيح أنّ التذكية هي أمر مسَببّ عن الأفعال الخاصّة، لكنّ هذا الأمر البسيط المسَببّ عن الأفعال الخاصّة هو جعل شرعي يتمثّل في حكم شرعي، الشارع يحكم بالتذكية عندما تتحققّ الأفعال الخاصّة، التذكية غير الأفعال الخاصّة، مترتّب على الأفعال الخاصّة، لكنه عبارة عن حكم شرعي، وجعل شرعي يُعبّر عنه بالتذكية. بناءً على هذا الكلام هو نفس الكلام السابق؛ لأنّ معنى هذا الكلام هو أنّ هناك جعلاً وحكماً شرعيّاً وهو التذكية، نفترض أنّ التذكية حكم شرعي، وموضوع هذا الحكم الشرعي الذي يترتّب عليه ترتّب الحكم على موضوعه هو عبارة عن الأفعال الخاصّة زائداً عدم الجلل الذي هو بمثابة الموضوع للتذكية التي هي حكم شرعي، والتذكية تترتّب على الأفعال الخاصّة زائداً عدم الجلل ترتّب الحكم على موضوعه؛ حينئذٍ يمكن إحراز هذا الحكم الشرعي بنفس ما قلناه سابقاً، بضمّ الوجدان إلى الاستصحاب؛ لأنّ موضوع هذا الحكم الشرعي هو الأفعال الخاصّة زائداً عدم الجلل، الأفعال والشرائط الخاصّة محرزة بالوجدان، وبحسب الفرض، وعدم الجلل يمكن إحرازه بالاستصحاب، فبضمّ استصحاب عدم الجلل إلى ما نحرزه وجداناً، نحرز موضوع هذا الحكم الخاص وهو التذكية، فالتذكية بناءً على هذا تكون حكماً شرعياً موضوعه مركّب من هذين الجزئين، أحد الجزئين نحرزه بالوجدان، والآخر نحرزه بالاستصحاب، فنحرز موضوع الحكم الشرعي، فيترتب الحكم الشرعي على موضوعه بعد إحرازه، فيجري استصحاب عدم الجلل، ويترتّب عليه بعد ضمّه إلى الوجدان هذا الحكم الشرعي. غاية الأمر أنّ الفرق بينه وبين ما تقدّم هو أنّه فيما تقدّم لم نقل أنّ التذكية حكم شرعي يترتّب على الأفعال؛ بل التذكية هي نفس الأفعال، فيمكن إحرازها بضم الوجدان إلى التعبّد، هنا نقول أنّ التذكية حكم شرعي موضوعه مركّب من الأفعال زائداً عدم الجلل، فنستطيع أنْ نحرز موضوع هذا الحكم الشرعي بضمّ الوجدان إلى التعبّد.
وأمّا إذا قلنا أنّ التذكية أمر بسيط مسَببّ عن الأفعال الخاصّة، لكنها ليست حكماً شرعياً، وإنّما هي أمر تكويني واقعي يترتّب على الأفعال الخاصّة، حالة من الحالات التكوينية الواقعية تترتّب على هذه الأفعال الخاصّة من قبيل ترتّب الموت على إطلاق النار، فالموت أمر تكويني واقعي وليس جعلاً شرعياً، التذكية هي من هذا القبيل، أمر تكويني واقعي يترتّب على هذه الأفعال الخاصّة، إذا قلنا بذلك؛ حينئذٍ تختلف المسألة، في هذه الحالة لا يمكن إجراء استصحاب عدم الجلل لإثبات الحلّية كما هو المطلوب في المقام، لا يمكن إجراء استصحاب عدم الجلل إلاّ بناءً على القول بحجّية الأصل المثبت، باعتبار أنّ التذكية ليست من اللّوازم الشرعية لعدم الجلل حتّى يمكن إثباتها باستصحاب عدم الجلل، وإنّما هي من اللّوازم المترتبة على عدم الجلل، لازم تكويني، حيث قلنا أنّها مسَببّ تكويني لهذه الأفعال الخاصّة بما فيها عدم الجلل. إذن: هي أمر تكويني يترتّب على عدم الجلل زائداً الأفعال الخاصّة، فهل يمكن بإجراء استصحاب عدم الجلل أنْ نثبت هذا الأمر التكويني ثمّ نثبت الأثر الشرعي الذي هو حلّيّة الأكل ؟ فحلّية الأكل تترتّب على التذكية، والتذكية بحسب الفرض تترتب على الأفعال الخاصّة زائداً عدم الجلل، باستصحاب عدم الجلل لا يمكن إثبات هذا الأمر التكويني ثمّ الانتقال إلى الأثر الشرعي؛ لأنّ هذا اصل مثبت، إثبات الحلّية اعتماداً على استصحاب عدم الجلل لا يكون تامّاً، إلاّ بناءً على القول بحجّية الأصل المثبت، فالاستصحاب لا تثبت به الأمور التي تترتب عليه عقلاً وتكويناً، وإنّما تترتّب عليه خصوص الأمور التي تترتّب عليه شرعاً، يعني تترتّب عليه آثاره الشرعية، عدم الجلل إذا كانت له آثار شرعية تترتّب على الاستصحاب، ولا يكون الاستصحاب مثبتاً، أمّا آثاره العقلية والتكوينية فهي لا تترتّب على استصحاب عدم الجلل، ومن هنا لا يمكن إجراء استصحاب عدم الجلل لإثبات حلّية الأكل في محل الكلام؛ وحينئذٍ الظاهر أنّ الأصل الجاري في المقام هو استصحاب عدم التذكية، باعتبار أننّا نشكّ في تحققّ هذا الأمر التكويني المسَببّ عن الأفعال الخاصّة، ليس لدينا أصل يحرز لنا تحققّه، فنشكّ في تحققّه، والأصل عدم تحققّه، وهو عبارة عن استصحاب عدم التذكيّة، والمفروض أنّ الشبهة في المقام موضوعيّة وليست حكميّة حتّى يجري استصحاب عدم جعل الشارع هذا مانعاً، ليس لدينا شكّ في ذلك، قطعاً الجلل مانع شرعاً، وإنّما الشكّ في تحققّه خارجاً، فتصل النوبة إلى استصحاب عدم التذكيّة، يعني عدم الأمر المسَببّ، التذكيّة مسبوقة بالعدم، ونشكّ في تحققّها والأصل عدم تحققّها.
إذن: لا يجري استصحاب عدم الجلل لغرض إثبات الحلّية؛ لأنّه أصل مثبت، وتصل النوبة إلى استصحاب عدم التذكية، باعتبار أنّ التذكية حينئذٍ تكون أمراً مشكوكاً مسبوقاً بالعدم، فيجري استصحاب عدمها.
هذا تمام الكلام في النحو الثالث.