الموضوع: الأصول العملية/ الاحتياط/ الاحتياط الشرعي
قد يُعترَض على تخريج المناقشة الثانية التي ذكرناها في الدرس السابق بأنّ نفس الكلام الذي تقولونه في أخبار البراءة يمكن أنْ يقال في أخبار التوقّف، فكما أنّ هناك شبهاتٍ قام الدليل على خروجها من أخبار البراءة، وعلى هذا الأساس تكون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف، كذلك قام الدليل على خروج بعض الشبهات من أخبار التوقّف، كالشبهة الموضوعيّة، والشبهة الحكميّة الوجوبيّة؛ لأنّ الإجماع قائم على عدم وجوب التوقّف في هذه الشبهات. إذن: هي خرجت عن أخبار التوقّف للإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها، وهذا يجعلها أخصّ مطلقاً من أخبار البراءة، ليست هناك أولويّة لافتراض أنّ أخبار البراءة أخصّ من أخبار التوقّف؛ بل قد نلحظ هذا الجانب، ونقول: أخبار التوقّف أيضاً خرجت منها بعض الشبهات، وهذه الشبهات مشمولة لأدلّة البراءة، كالشبهة الموضوعيّة، والشبهة الحكميّة الوجوبيّة، بينما خرجت من أخبار التوقّف، وبهذا الاعتبار تكون أخبار التوقّف أخصّ مطلقاً من أخبار البراءة.
وبعبارةٍ أخرى: بناءً على هذين التخصيصين، والإخراجين تكون النسبة بين أخبار البراءة وأخبار التوقّف هي العموم والخصوص من وجهٍ، فهما يجتمعان في محل الكلام، أي في الشبهة الحكميّة التحريميّة بعد الفحص، أخبار البراءة تختصّ بالشبهة الموضوعيّة، والشبهة الوجوبيّة؛ لأنّها خرجت من أخبار التوقّف، بينما تختصّ أخبار التوقّف بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، والشبهة قبل الفحص، والشبهة في الدماء والفروج، فأنّها غير مشمولة بأخبار البراءة، فتكون النسبة هي العموم والخصوص من وجهٍ، فلا داعي حينئذٍ للتقديم بالأخصيّة، فلا نستطيع حينئذٍ أنْ نقول أنّ أخبار البراءة تتقدّم على أخبار التوقّف بالأخصيّة؛ لأنّ النسبة بينهما ـــــ بناءً على هذا الكلام ــــــ سوف تكون هي نسبة العموم من وجه، ويحصل التعارض بينهما في مادّة الاجتماع التي هي محل الكلام.
لكن قد يُدفع هذا الاعتراض بما ذكره بعض المحققين من أنّ الإجماع القائم على خروج الشبهة الموضوعيّة، والشبهة الحكميّة الوجوبيّة من أخبار التوقّف ليس دليلاً مستقلاً في قِبال الأدلّة التي هي بأيدينا؛ بل هو يرجع إلى أخبار البراءة، بمعنى أنّ الأصوليين عندما يقولون بعدم وجوب الاحتياط والتوقّف في الشبهة الموضوعيّة، فأنّهم يتمسّكون بأخبار البراءة، باعتبار أنّ أخبار البراءة شاملة للشبهة الموضوعيّة وللشبهة الحكميّة الوجوبيّة، فدليل إخراج هذه الشبهات من أخبار التوقّف هي أخبار البراءة؛ بل الظاهر أنّ ذلك هو مستند الأخباريين عندما يلتزمون بعدم وجوب التوقّف في الشبهة الموضوعيّة، وعدم وجوب التوقّف في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة، الظاهر أنّه ليس لديهم دليل على عدم وجوب التوقّف بعد شمول أخبار التوقّف لهذه الشبهات، خصوصاً الشبهة الحكميّة الوجوبيّة؛ إذ لا فرق بينها وبين الشبهة الحكميّة التحريميّة، فالظاهر أنّه لا مستند لهم في هذا الإخراج إلاّ التمسّك بأخبار البراءة. فإذن: الإجماع ليس دليلاً مستقلاً في قِبال هذه الأدلّة؛ بل الصحيح هو ما ذُكر سابقاً في أصل المناقشة، وهو أنّ ما بأيدينا من الأخبار هو عبارة عن ثلاثة أخبار، أخبار البراءة والأخبار التي تأمر بالاحتياط في شبهاتٍ معيّنة، في الدماء، وفي الفروج، وفي الشبهة قبل الفحص ما يستدلّ به على ذلك مقرونة بالعلم الإجمالي وأخبار التوقّف، ولا يوجد لدينا دليل آخر. نعم، يُدّعى الإجماع، لكنّه إجماع مستند إلى أخبار البراءة، النسبة بين أخبار البراءة، وأخبار التوقّف وإنْ كانت هي التباين على ما ذكرنا، لكن بعد تخصيص أخبار البراءة بأخبار الاحتياط، بما دلّ على وجوب الاحتياط في شبهات معيّنة تنقلب النسبة، وتكون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف.
هذا غاية ما يمكن أنْ يُقال في بيان هذه المناقشة. نعم هذه المناقشة مبنيّة على كبرى انقلاب النسبة، فإذا أنكرنا انقلاب النسبة كما هو الظاهر؛ فحينئذٍ لا تتمّ هذه المناقشة، ولا يصحّ أنْ يقال أنّ أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف، لا قبل الانقلاب، ولا بعد الانقلاب؛ لأننّا لا نقول بانقلاب النسبة، فهي مبنيّة على دعوى انقلاب النسبة.
المناقشة الثالثة: هي المناقشة المعروفة التي تكررّت في جملة من الأخبار بأنْ يدّعى أنّ المستفاد من هذه الأخبار هو فرض مضنّة الهلكة في مرتبةٍ سابقةٍ على هذه الأخبار، وبقطع النظر عنها؛ ولذا نجد أنّ هذه الأخبار عللّت وجوب التوقّف، أو ما يُفهم منها من حرمة الاقتحام في الشبهة بأنّ الاقتحام فيها هو اقتحام في ما فيه هلكة، أو ما فيه مظنّة الهلكة، فكأنّها فرضت أنّ هذه الشبهة فيها مظنّة الهلكة في مرتبةٍ سابقةٍ على أخبار التوقّف، أخبار التوقّف جاءت لتأمر بالتوقّف، وتنهى عن الاقتحام، عللّت ذلك بأنّ فيه مظنّة الهلكة. إذن: لكي تشمل هذه الأخبار مورداً، لابدّ من افتراض أنّ اقتحام الشبهة في هذا المورد فيها مظنّة الهلكة، وأنّ هذا شيء ثابت بقطع النظر عن هذه الأخبار. هذا واضح من أخبار التوقّف، فأخبار التوقّف تقول أنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة. لكنْ من قال أنّ اقتحام هذه الشبهة فيه هلكة ؟ إذن: أخبار التوقّف افترضت أنّ الشبهة التي تأمر بالتوقّف فيها هي شبهة في اقتحامها مظنّة الهلكة، فهي لا تشمل إلاّ الشبهات التي تكون من هذا القبيل، يعني الشبهات التي تنجّزت في مرتبةٍ سابقةٍ على هذه الأخبار، وبقطع النظر عنها، فإذا تنجّزت يكون فيها عقاب وهلكة، أخبار التوقف تقول بوجوب الوقوف عند هذه الشبهة، فهي تشمل الشبهات التي تنجّزت في مرتبةٍ سابقةٍ عليها، وفرغنا فيها عن المنجّزيّة، وأنّ الاقتحام فيها اقتحام في ما فيه مظنّة الهلكة، فتشملها الأخبار. وأمّا الشبهات التي لم نفرغ عن تنجّزها في مرتبةٍ سابقةٍ، وإنّما نحن الآن فعلاً نريد أنْ نتكلّم عن أنّها منجّزة، ويجب فيها الاحتياط، أو لا ؟ فتجري فيها البراءة. مثل هذه الأخبار لا تشملها أخبار التوقّف، وما نحن فيه من هذا القبيل، نحن نتكلّم عن شبهةٍ حكميّةٍ تحريميّةٍ بعد الفحص، لا قبله؛ لأنّ الاحتمال قبل الفحص يكون منجّزاً، وشبهة بدويّة غير مقرونة بالعلم الإجمالي حتّى يكون العلم الإجمالي هو المنجّز للواقع في مورد الشبهة، نتكلّم عن شبهةٍ من هذا القبيل، هذه لم نفرغ عن تنجّزها في مرتبةٍ سابقةٍ، مثل هذه الشبهة لا تشملها هذه الأخبار.
وبعبارة أخرى: أنّ الأمر بالتوقّف في هذه الأخبار يتعيّن أنْ يكون أمراً إرشادياً، ولا يُعقل أنْ يكون مولوياً منجِّزاً للواقع في مورد الشبهة؛ لأنّ هذه الأخبار افترضت التنجيز في مرحلةٍ سابقةٍ عليها، فكيف يُعقل أنْ يكون الأمر بالتوقّف فيها أمراً مولوياً تترتّب عليه المنجّزيّة كما هو شأن الأوامر المولويّة ؟ الأوامر المولويّة تترتّب عليها المنجزيّة، ويترتّب عليها استحقاق العقاب على المخالفة، يأتي الأمر المولوي فيترتّب عليه التنجيز الواقع، واستحقاق العقاب على المخالفة، بينما هذه الأخبار فرضت التنجيز في مرحلةٍ سابقةٍ، فكيف تقول أنّه أمر مولوي ؟ المأخوذ في الأمر المولوي هو أنّ التنجيز واستحقاق العقاب على المخالفة هو في طول ذلك الأمر المولوي، بينما هذه الأخبار فرضت التنجيز، واستحقاق العقاب والهلكة على المخالفة في مرحلةٍ سابقةٍ عليها، فلا يُعقل أنْ تكون هذه الأوامر أوامر مولويّة ويتعيّن حملها على أنّها مجرّد إرشاد، والأوامر الإرشادية كما نعلم هي ليست أوامر في الحقيقة، وإنّما هي أخبار، ونُصْح، ولا يترتّب عليها أيّ إلزام سوى الإلزام الموجود في نفس المُرشَد إليه إذا كان بإلزام، وإذا لم يكن فيه إلزام، فلا يترتب عليه إلزام، فهو مجرّد إرشاد إلى أنّ هذا منجّز عليك بمنجِّزٍ سابقٍ، فلا تُقدِم عليه ولا تقتحمه، إرشاد إلى لزوم التوقّف عقلاً عندما يثبت المنجّز في مرحلةٍ سابقةٍ، فإذن: لا نستطيع أنْ نستدلّ بها على وجوب الاحتياط كما هو مدّعى الأخباريين؛ لأنّ معنى أننّا نستدلّ بها على وجوب الاحتياط هو أنّها أوامر مولوية يُستفاد منها وجوب الاحتياط،
[1]
فإذا لم تكن أوامر مولويّة؛ فحينئذٍ لا يمكن أنْ نستدلّ بها على وجوب الاحتياط؛ لأنّها ليست أوامر مولويّة، وإنّما هي ترشد إلى لزوم التوقّف في الشبهات المنجّزة بمنجّزٍ في مرتبةٍ سابقةٍ عليها، وليس فيها دلالة على وجوب الاحتياط في شبهةٍ لم تتنجّز، وإنّما نريد كما هو مُدّعى الأخباريين أنْ نثبت التنجيز، واستحقاق العقاب على المخالفة بنفس هذه الأخبار.
صياغة المناقشة بصياغةٍ أخرى
هذه المناقشة قد تُصاغ بصياغةٍ أخرى، لكن الروح واحدة، حيث هناك صياغة أخرى معروفة منقولة عنهم، وهي أنّ الأمر في أخبار التوقّف لا يخلو إمّا أنْ يكون أمراً نفسياً، أو أمراً طريقياً، أو أمراً إرشادياً.
أمّا الاحتمال الأوّل والذي هو أنْ يكون أمراً نفسيّاً، فهو مقطوع العدم؛ إذ لا نحتمل أنّ الأمر بالتوقّف هو أمر نفسي على غرار الأمر بالصلاة والصوم، قطعاً ليس أمراً نفسياً، وإنّما هو أمر ينظر به الواقع، هو ينجّز الواقع، يعني طريق لتنجيز الواقع، وهناك فرق بين الأمر بالصلاة، فهو ليس طريقاً لشيء؛ بل هو أمر بالصلاة لوجود ملاكٍ قائمٍ في نفس الصلاة، بينما الأمر بالاحتياط ليس لوجود ملاكٍ قائمٍ فيه، وإنّما لغرض إدراك الواقع، فهو أمر طريقي.
كما أنّه ــــــ أي الأمر في أخبار التوقّف ــــــ ليس أمراً مولوياً طريقيّاً؛ للنكتة المتقدّمة المذكورة في البيان السابق؛ إذ لا يُعقل أنْ يكون أمراً مولويّاً أصلاً، حتّى لو كان طريقياً؛ لأنّ الأمر المولوي من شأنه أنْ تكون المنجّزيّة واستحقاق العقاب في طوله، بينما هذه الأخبار ظاهرة في أنّ الأمر بالتوقّف هو في طول المنجزية، الأمر بالتوقّف هو معلول للمنجّزية المفروضة في مرتبةٍ سابقةٍ. إذن: لا يُعقل أنْ يكون الأمر بالتوقّف أمراً طريقياً مولوياً؛ لأنّ الأمر الطريقي المولوي تترتّب عليه المنجّزيّة، لا أنّه يترتب على فرض التنجيز في مرتبةٍ سابقةٍ كما هو ظاهر هذه الأخبار، فيتعيّن أنْ يكون الأمر بالتوقّف أمراً إرشادياً، وكونه أمراً إرشادياً يعني أنّه إرشاد إلى لزوم التوقّف والنهي عن اقتحام الشبهة المنجّزة في مرتبةٍ سابقةٍ، ومثل هذا اللّسان لا يشمل محل الكلام، وإنّما يشمل الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، أي المنجّزة، يشمل الشبهات قبل الفحص؛ لأنّها تنجّزت بمنجّزٍ سابقٍ، ولا يشمل محل الكلام ممّا لم يُفرض فيه التنجيز في مرتبةٍ سابقةٍ، فلا يصحّ الاستدلال بها في محل الكلام.
من الواضح أنّ هذه المناقشة تفترق عن المناقشتين السابقتين في شيءٍ وهو أنّ كلاً من المناقشتين السابقتين تفترض، أو تعترف ضمناً بأنّ أخبار التوقّف تشمل محل الكلام، بإطلاقها، أو بعمومها تشمل محل الكلام، يعني تشمل الشبهة البدويّة التحريميّة بعد الفحص، لكنّ المناقشة الأولى تدّعي أنّها خارجة عنها بالحكومة، والمناقشة الثانية تدّعي أنّها خارجة عنها بالتخصيص، لكنّ أساساً هي تعترف بأنّ أخبار التوقّف شاملة بإطلاقها لمحل الكلام، لكنّها خارجة عنها بالحكومة، أو بالتخصيص، بينما المناقشة الثالثة أساساً لا تعترف بشمول أخبار التوقّف لمحل الكلام، وإنّما هي تشمل خصوص الشبهات المنجّزة في مرتبةٍ سابقةٍ على أخبار التوقّف، وبقطع النظر عنها، فهي لا تشمل محل الكلام؛ لأننّا في محل الكلام لم نفترض التنجيز، ثمّ نأتي إلى أخبار التوقّف.
المناقشة الثالثة هي المناقشة المهمّة في الحقيقة للاستدلال بأخبار التوقّف؛ ولذا صار هناك نوع من العناية بها.
أجيب عن هذه المناقشة بعدّة أجوبة:
الجواب الأوّل: هو ما في الكفاية. حيث أجاب الشيخ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) عن هذه المناقشة بأننّا نستكشف من الأمر بالوقوف في هذه الأخبار بنحو الإن، يعني استكشاف العلّة من المعلول، والملزوم من الّلازم، نستكشف إيجاب الاحتياط من قبل أخبار التوقّف، وبقطع النظر عنها، لتصحّ به العقوبة على المخالفة؛ لأنّ العقوبة على المخالفة ليست من أخبار التوقّف، وإنّما على مخالفة ما استكشفناه من أخبار التوقّف من إيجاب الاحتياط، فيكون ما استكشفناه، وهو وجوب الاحتياط هو المنجّز لهذه الشبهة، وهو المصححّ للعقوبة والهلكة على تقدير المخالفة.
[2]
هذا الكلام يحتاج إلى شيءٍ من التوضيح: إنّ مقصوده بهذا الكلام كما فُسّر في كلماتهم هو: أنّ هناك أمرين مستفادين من أخبار التوقّف:
الأمر الأوّل: هو إطلاق أخبار التوقّف لمحل الكلام، بمعنى أنّ أخبار التوقّف بإطلاقها هي شاملة للشبهة، فتشمل الشبهة في محل الكلام، قبل أنْ نُعمل هذا التفسير حتّى نخرج الشبهة في محل الكلام عن هذه الأخبار هي بإطلاقها تشمله.
الأمر الثاني: ثبوت مظنّة الهلكة في موارد الشبهة، وأنّ الاقتحام في كل شبهةٍ هو اقتحام في الهلكة، أو ما فيه مظنّة الهلكة. إذن: أخبار التوقّف تقول: إنّ كل شبهةٍ فيها مظنّة الهلكة، وأنّ الاقتحام فيها هو اقتحام في ما فيه مظنّة الهلكة، وأنّ أخبار التوقّف بإطلاقها تشمل الشبهة البدويّة بعد الفحص التي هي محل كلامنا، فإذا شملتها بإطلاقها، إذن: هي تدل على أنّه حتّى شبهتنا في محل الكلام الاقتحام فيها اقتحام في ما فيه مظنّة الهلكة، من قبيل أنْ يقول(لا تأكل الرمّان لأنّه حامض) هذا مطلق يشمل كلّ رمّان، ويدلّ على أنّ هذه العلّة، وهي الحموضة موجودة في كل فردٍ من أفراد الرمّان، بقطع النظر عن أننّا نعلم في الخارج بوجود رمّان ليس حامضاً، ظاهر الدليل أنّ هذا يشمل كل الرمّان، وأنّ العلّة موجودة في كل أفراد الرمّان، ما نحن فيه من هذا القبيل، الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، الشبهة مطلقة، وتشمل محل الكلام، وأخبار التوقّف تدلّ على وجود العلّة في كلّ شبهةٍ، والعلّة هي مظنّة الهلكة، واحتمال الهلكة. إذن: الشبهة في محل كلامنا، أيضاً الاقتحام فيها هو اقتحام في ما فيه مظنّة الهلكة كسائر الشبهات الأخرى.
إذا استفدنا هذا في محل كلامنا، فسوف نستكشف من وجود الهلكة في اقتحام هذه الشبهة أنّ الشارع جعل وجوب الاحتياط فيها، وإلاّ، كيف يمكن تصحيح الهلاك واستحقاق العقاب على تقدير المخالفة ؟ وكيف يمكن إثبات أنّ الاقتحام في هذه الشبهة اقتحامٌ في ما فيه الهلاك، لو لم تتنجّز هذه الشبهة بمنجّزٍ في مرحلةٍ سابقةٍ على هذه الأخبار ؟ غاية الأمر أننّا نستكشف وجوب الاحتياط المجعول شرعاً من ما دلّت عليه أخبار التوقّف من أنّه في شبهتنا أيضاً بالإطلاق يوجد هلاك، من باب استكشاف العلّة من المعلول؛ لأنّ الهلاك واستحقاق العقاب معلول للتنجيز، فإذا دلّ دليل على ثبوت المعلول نستكشف بطريق الإنْ أنّ العلّة موجودة، والعلّة هي إيجاب الاحتياط؛ لأنّه في شبهتنا لا يوجد ما يُنجّز هذه الشبهة سوى إيجاب الاحتياط، فلو لم تكن هذه الشبهة منجّزة، فلا مجال لاستحقاق العقاب على تقدير المخالفة، مع عدم التنجيز تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فتؤمّن من ناحية العقاب والهلاك، بينما هذه الأخبار تقول يوجد هلاك في اقتحام هذه الشبهة، وهذا لا يُعقل أنْ يكون إلاّ مع افتراض وجود علّة موجبة لهذا، وهي عبارة عن التنجيز، فمن المعلول نستكشف العلّة وهي التنجيز، من اللازم وهو الهلاك والعقاب نستكشف الملزوم الذي هو عبارة عن التنجيز، والتنجيز لا يُتصوّر في شبهةٍ من هذا القبيل، إلاّ بإيجاب الاحتياط، فيُستكشَف أنّ الشارع جعل وجوب الاحتياط في محل كلامنا من أخبار التوقّف.
[1]
طبعاً الأوامر المولويّة أعمّ من أنْ تكون نفسية، أو طريقيّة، كل منهما أوامر مولويّة، فإذا دلّ دليلٌ على وجوب الاحتياط في الدماء، فهو أمر مولوي، لكنّه طريقي غرضه تنجيز الواقع.
[2]
كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص 346.