الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

34/11/24

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العملية/ الاحتياط/ الاحتياط العقلي
 كان الكلام في الطائفة الأولى من الأخبار التي اُستدل بها على وجوب الاحتياط وهي ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة بلسان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وقلنا أنّ هذا الاستدلال واجه عدّة اعتراضات ومناقشات، وقد ذكرنا المناقشة الأولى في الدرس السابق، وكان حاصلها هو: أنّ هذه الأخبار مختصّة بغير موارد العلم بالترخيص الظاهري. يعني بعبارة أخرى: مختصّة بمن لا يعلم بالحكم الواقعي، ولا بالحكم الظاهري؛ لأنّ الوارد فيها هو عنوان(الشبهة) والشبهة يراد بها ما يكون الشيء مشتبهاً أو ملتبساً، سواء من ناحية الحكم الواقعي ، أو من ناحية الحكم الظاهري.
 إذن: هي لا تشمل محل الكلام، يعني لا تشمل ما إذا كان الترخيص الظاهري ثابتاً، وفي محل الكلام أدلّة البراءة السابقة تثبت الترخيص الظاهري، فلا تكون مشمولة لأدلّة التوقف.
 السيد الخوئي(قدّس سرّه) بعد أنْ ذكر هذا، حاول الاستدلال على اختصاص هذه الأخبار، أوقل عدم شمول هذه الأخبار لما إذا عُلم الترخيص الظاهري في الشبهة كما في محل الكلام، [1] استَدلّ على اختصاص الأخبار وعدم شمولها لمحل الكلام بأنّ الدليل هو: لا إشكال ولا خلاف في عدم وجوب التوقّف في الشبهات الموضوعية بالاتفاق، وكذلك الشبهات الحكمية الوجوبية بالاتفاق، وهذا معناه أنّ هناك اتفاقاً على أنّ الشبهات الموضوعية والوجوبية خارجة عن أخبار باب التوقّف، لا بدّ أن تكون خارجة عن أخبار باب التوقّف، وإلاّ، كيف اتُفق على عدم وجوب التوقف فيها. يقول(قدّس سرّه): هذا الخروج ـــــ خروج الشبهة الموضوعيّة والوجوبية ـــــ عن أخبار التوقف، ليس من باب التخصيص والإخراج الحكمي؛ لأنّ لسان هذه الروايات لسان آبٍ عن التخصيص، لسانها لسان أنّ الوقوف عند الشبهة خير من أنْ تقع في الهلكة، هنا لا معنى لأنْ يقال بأننّا نخصصّ هذا في موردٍ، ونلتزم بأنّ الوقوع في الهلكة هنا يجوز، وهنا لا يجوز، أي نرخّص في الوقوع في الهلكة، هذا هو معنى التخصيص الحكمي، فهو لسان يأبى عن التخصيص، فإذا كان آبياً عن التخصيص؛ فحينئذٍ يتعيّن أنْ يكون الخروج من باب التخصصّ، والإخراج الحكمي، والإخراج الموضوعي.
 بعبارة أخرى: إنّ ما دلّ على الترخيص في هذه الشبهات الموضوعيّة والوجوبيّة يكون مخرجاً لمورده عن موضوع أدلّة التوقّف، بمعنى أنّ هذه ليست شبهة، لا أنّه يقول أنّها شبهة لكن لا يجب التوقّف فيها الذي هو معنى التخصيص، الذي هو معنى الإخراج الحكمي، كلا، وإنّما أدلّة الترخيص تقول: هذه ليست شبهة، إخراجٌ من الموضوع، الشبهة الوجوبية، والشبهة الموضوعية ليست شبهة؛ لأنّه قام فيها دليل يدلّ على الترخيص الظاهري. إذن: هي تخرج عن موضوع أدلّة التوقّف. يقول(قدّس سرّه): نفس هذا الكلام ندّعيه في مقامنا، يعني في الشبهة الحكميّة التحريميّة بعد الفحص، الذي هو محل النزاع، فالمناقشة تدّعي بأنّ أدلّة الترخيص والبراءة المتقدّمة سابقاً تدلّ على أنّ هذه ليست شبهة، تُخرج موردها عن موضوع أدلّة التوقّف؛ لأنّ موضوع أدلّة التوقف هي الشبهة، والشبهة هي ما لا يُعلم حكمه الواقعي، ولا الظاهري، وأدلّة الترخيص تثبت الحكم الظاهري، فإذن: يخرج موردها عن كونه شبهة، وهذا معنى الإخراج الموضوعي، ومعنى التخصصّ. هذا كما هو موجود في الشبهات الوجوبيّة والموضوعيّة؛ لأنّه قال أنّ خروجها ليس من باب التخصيص، فهي ليست شبهة مع جواز اقتحام الهلكة فيها؛ لأنّ لسان اقتحام الهلكة لسان يأبى عن التخصيص، وإنّما مرجعه إلى أنّها ليست شبهة، أي إلى الإخراج الموضوعي، هذا نفسه ندّعيه في محل الكلام، أدلّة الترخيص كما تجري في الشبهات الوجوبيّة والموضوعيّة، أيضاً هي شاملة لمحل الكلام، فتكون مخرجة لمحل الكلام عن موضوع أدلّة التوقفّ، فإذن: لا يصح الاستدلال بأدلّة التوقّف على وجوب التوقّف في محل الكلام؛ لأنّها بأدلّة الترخيص خرجت عن موضوع أدلّة التوقّف.
 ويُلاحظ على هذه المناقشة:
 الملاحظة الأوّلى: الظاهر أنّ وجوب التوقّف عندهم المستفاد من أخبار التوقّف هو حكم ظاهري مثل البراءة، والقضيّة واضحة عندهم أنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشكّ في الحكم الواقعي، أخبار البراءة تقول إذا شككت في حرمة شيءٍ واقعاً، أنا أجعل لك البراءة، وهذه الأخبار تقول إذا شككت في حرمة شيءٍ أنا أجعل لك وجوب التوقف. إذن: هي أحكام ظاهريّة، وينبغي أنْ يكون موضوعها هو الشك في الحكم الواقعي، فلا وجه لتعميم موضوعها للشك في الحكم الواقعي، والشكّ في الحكم الظاهري، وإنّما موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي، كل من يشكّ في الحكم الواقعي، هذه تجعل له وجوب التوقّف، وتلك تجعل له البراءة، فيقع التعارض بينهما، ولا نستطيع أنْ نقول أنّ موضوع أخبار التوقّف هو الأعم من الشكّ في الحكم الواقعي، والحكم الظاهري، يعني كما أنّ العلم بالحكم يخرج عن موضوعها، الحكم الظاهري أيضاً إذا ثبت بدليل أيضاً يخرج عن موضوعها. نعم، هناك دليلان، واحد يدلّ على أنّه عند الشكّ في الحكم الواقعي هناك براءة، والآخر يدلّ على أنّه عند الشكّ في الحكم الواقعي هناك احتياط، هنا يحصل تعارض بلا حكومة، ولا نستطيع القول أنّ أخبار البراءة تكون مخرجة لموردها عن أخبار التوقّف؛ لأنّ موضوع أخبار التوقّف هو الجهل بالحكم الواقعي، والحكم الظاهري؛ بل أخبار التوقّف محمولها حكم ظاهري، وموضوع الأحكام الظاهريّة هو الشكّ في الحكم الواقعي.
 الملاحظة الثانية: أنّ مرجع هذا الشيء الذي ذُكر في هذه المناقشة إلى دعوى أنّ أدلّة البراءة حاكمة أو واردة على أخبار التوقف، فأخبار البراءة عندما تجعل الترخيص في موردها، فأنها تكون رافعة لموضوع أدلّة وجوب التوقّف، سواء كان رفعاً تعبّدياً، أو رفعاً حقيقياً، هي إمّا حاكمة، أو واردة على أدلّة التوقّف، مرجع كل هذه المناقشة إلى أنّ أخبار التوقّف لمّا كان موضوعها هو الشكّ في الحكم الواقعي والظاهري، أخبار الترخيص تقول ليس هناك شكّ في الحكم الظاهري؛ لأنّها تجعل الترخيص كحكمٍ ظاهري، وبهذا تكون رافعة لموضوع أدلّة التوقّف، كالدليل الدال على الحكم الواقعي، كما أنّ الدليل الدال على الحكم الواقعي يكون رافعاً لموضوع أدلّة التوقّف، كذلك الدليل الدال على الترخيص أيضاً يكون رافعاً لموضوع أدلّة التوقّف، إمّا بالحكومة، وإمّا بالورود؛ حينئذٍ الملاحظة الثانية تقول: هذا ليس أولى من العكس؛ إذ يمكن أنْ ندّعي أنّ مفاد أدلّة البراءة هو البراءة عند الشكّ في الحكم الشرعي، هنا يمكن أنْ ندّعي بأنّ الجهل وعدم العلم والشكّ الذي أُخذ في موضوع دليل البراءة أعمّ من الشكّ في الحكم الواقعي والشكّ في الحكم الظاهري، بمعنى أنّ أدلّة البراءة لا تجعل البراءة لمن يعلم وجوب التوقّف في هذه الشبهة، أي لا تجعل البراءة لمن يعلم الحكم الظاهري في هذه الشبهة، كما لا تجعل البراءة لمن يعلم الحكم الواقعي في هذه الشبهة؛ لأنّ موضوعها الشكّ في الحكم الشرعي، وبالإمكان أنْ ندّعي أنّ الشكّ في الحكم الشرعي هو أعم من الحكم الواقعي والحكم الظاهري.
 إذن: أدلّة التوقّف عندما تجعل الحكم الظاهري في موردها تكون رافعة لموضوع أدلّة البراءة؛ لأنّ موضوع أدلّة البراءة هو الشكّ في الحكم الشرعي الأعم من الحكم الواقعي والحكم الظاهري، وأدلّة التوقّف تجعل حكماً ظاهرياً في موردها، وبذلك ترفع موضوع أدلّة البراءة، فتكون حاكمة، أو واردة عليها، كما أدُعي أنّ أدلة البراءة تكون حاكمة على أدلّة التوقّف؛ لأنّ موضوع أدلّة التوقّف هو الأعم، يمكن دعوى ذلك نفسه في أدلّة البراءة؛ لأنّ موضوع أدلّة البراءة هو عدم العلم مطلقاً،(ما كنّا معذبين حتّى نبعث رسولا)، كناية عن البيان، والبيان أعم من بيان الحكم الواقعي، أو بيان الحكم الظاهري، ايضاً تُدّعى هذه الدعوى، وعلى هذا تكون أخبار التوقّف حاكمة أو واردة على أدلّة البراءة، بينما هو يدّعي أنّ أدلّة البراءة هي التي تكون حاكمة، أو واردة على أخبار التوقّف، فلا داعي لترجيح هذا على هذا، إذا كان البناء على أنْ نقول بأنّ هذه الأحكام الظاهريّة في هذه الأدلّة ليس موضوعها هو الشكّ في الحكم الواقعي، وإنّما موضوعها هو الأعم من الشكّ في الحكم الواقعي، والشكّ في الحكم الظاهري، فهذا يرفع موضوع هذا، وهذا يرفع موضوع هذا. الالتزام بأنّ أدلّة البراءة هي التي تكون حاكمة، أو واردة، وبالتالي نلتزم في محل الكلام بالبراءة وعدم وجوب التوقّف خلافاً للأخباريين لا وجه له بهذا البيان.
 الملاحظة الثالثة: أنّه لماذا لا يُلتزم بالتخصيص ؟ بأنْ يُدّعى بأنّ أدلّة البراءة تتقدّم، كمناقشةٍ لما ذكره في الاستدلال بأخبار التوقّف على وجوب الاحتياط في محل كلامنا، المناقشة تكون بأنها لا تشمل محل الكلام؛ لأنّ محل الكلام خرج بالتخصيص، يعني أدلّة البراءة تتقدّم على أدلّة التوقّف بالتخصيص، والمحذور الذي ذكره هو أنّ أخبار التوقّف تأبى عن التخصيص؛ ولذا لابدّ أنْ يكون الخروج خروجاً من الموضوع الذي يستلزم الحكومة، فالخروج من الموضوع يعني أنّ هذه ليست شبهة، ومورد دليل البراءة أصلاً هو ليس شبهة، فإذا قلنا أنّ دليل البراءة يشمل محل الكلام، ففي محل كلامنا لا توجد شبهة، فلا تشمله أخبار التوقّف لخروجه عن موضوعه. هذا اللّسان هل يأبى عن التخصيص ؟ صحيح أنّ مسألة الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، هذا اللّسان يأبى عن التخصيص، فلا معنى لأنْ نفرّق بين موردٍ وموردٍ، فنقول هنا الوقوف عند الشبهة خبر من الاقتحام في الهلكة، وهنا الوقوف عند الشبهة ليس خيراً من الاقتحام في الهلكة؛ بل لعلّ الاقتحام في الهلكة يكون خيراً من الوقوف عند الشبهة، لكن الذي يُلاحظ هو أنّ تقريب الاستدلال بأدلّة التوقّف كان بهذا الشكل: يُستفاد منها صغرى وكبرى، الصغرى بمضمون أنّ الاقتحام في الشبهة فيه مضنّة الوقوع في الهلكة، والمقصود بالهلكة عندهم، الهلاك الأخروي، يعني العذاب، أمّا الكبرى فهي بمضمون أنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، فنستفيد من هذا وجوب التوقّف عند الشبهة؛ لأنّ الاقتحام في الشبهة مضنّة للهلكة، والوقوف عند الشبهة خير، فيتعيّن الوقوف عند الشبهة وعدم الاقتحام في الهلكة، في دليل الترخيص عندما يقوم دليل الترخيص على البراءة والترخيص في محل الكلام، هذا ليس تخصيصاً للكبرى حتّى يقال أنّ هذه الكبرى تأبى عن التخصيص، فلا يمكن الالتزام بالتخصيص، دليل الترخيص لا يريد أنْ يقول بأنّ هذه الشبهة التي هي محل الكلام، الوقوف في الشبهة ليس خيراً من الاقتحام في الهلكة، وإنّما هو تخصيص من الصغرى؛ لأنّ الترخيص يجعل التأمين والبراءة، يعني يقول للمكلّف في اقتحامك لهذه الشبهة لا مضنّة للهلكة، أدلّة البراءة كلّها بلسان قبح العقاب بلا بيان، فهو يؤمّن من ناحية الهلاك، كأنّه يريد أنْ يقول أنّ الاقتحام في هذه الشبهة ليس فيه مضنّة للهلاك والعقاب الأخروي؛ لأنّه يؤمّن من ناحيته، وهذه الصغرى قابلة للتخصيص، وليست آبيةً عن التخصيص، ولا محذور في أنْ نقول أنّه ورد أنّ الاقتحام في الشبهة مضنّة للوقوع في الهلكة، إلاّ هذه الشبهة، فأنّ الاقتحام فيها ليس فيه مضنّة للهلكة، الكبرى لسانها لسان يأبى عن التخصيص، أمّا الصغرى فلسانها لا يأبى عن التخصيص، والمدّعى في المقام بناءً على التخصيص، ــــــ وسيأتي طرح هذا الشيء في ما بعد ــــــ بناءً على أنّ أدلّة البراءة تتقدّم على أدلّة التوقّف بالتخصيص، هذا لا يمكن دفعه بالقول أنّ أدلّة التوقّف آبية عن التخصيص؛ لأنّ تقديم دليل البراءة بالتخصيص على دليل التوقّف لا يستلزم تخصيص الكبرى الآبية عن التخصيص، وإنّما هو يستلزم تخصيص الصغرى الغير آبية عن التخصيص.
 وبهذا نصل إلى المناقشة الثانية في أصل الاستدلال: ممّا تبيّن أنّ ادّعاء التقديم على أساس الورود، أو الحكومة بالبيان الذي ذُكر من أنّ أدلّة البراءة تكون رافعة للشبهة في محل الكلام ومُخرجة لمحل الكلام عن أدلّة وجوب التوقّف، فلا يصح الاستدلال بأدلّة وجوب التوقّف على وجوب التوقّف في محل الكلام، هذه المناقشة ليست تامّة.
 المناقشة الثانية: ادّعاء التخصيص في المقام، بأنْ يقال: أنّ دليل البراءة يتقدّم على أدلّة التوقّف بالتخصيص، بمعنى أنّ محل الكلام وإنْ كان مشمولاً لإطلاق أدلّة التوقّف، إلاّ أنّه يخرج عنها بأدلّة البراءة من باب التخصيص؛ وحينئذٍ يبطل الاستدلال؛ لأنّ محل الكلام خرج عن أخبار التوقّف. إذن: النتيجة واحدة، وهي عدم صحة الاستدلال بأخبار التوقّف في محل الكلام؛ لأنّ محل الكلام حسب المناقشة الأولى خرج موضوعاً عن أخبار التوقّف، وحسب هذه المناقشة خرج حكماً عن أخبار التوقّف، فبالنتيجة لا يجري التوقّف في محل الكلام، وهو المطلوب.
 لكن يقال: أنّ التقديم بالتخصيص يتوقّف على أنْ تكون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف، على أنْ تكون النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص المطلق، أنْ تكون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف فتتقدّم عليها بالتخصيص، لكن كيف يمكن إثبات هذا ؟ وما هو الدليل على اختصاص أخبار البراءة في محل الكلام حتىّ يقال أنّ أخبار التوقّف تشمل محل الكلام بالإطلاق، بينما أخبار البراءة مختصّة بمحل الكلام، فتكون أخصّ مطلقاً ؟ مع أنّ لسانها لسان عام، كما أنّ أخبار التوقّف تشمل كل الشبهات، أخبار البراءة أيضاً تشمل كل الشبهات، وليست مختصّة بمحل الكلام، (رُفع ما لا يعلمون)، و(ما كنّا معذبين حتى نبعث رسولاً)....الخ من الأدلّة التي تقدّم الاستدلال بها على البراءة، فهي ليست مختصّة بمحل الكلام، بالشبهة الحكميّة التحريميّة التي يقع فيها الكلام؛ بل أنّها تشمل كل الشبهات، وكل شيء لا يُعلم حكمه الواقعي، ولا يختصّ بالشبهة التحريميّة دون الوجوبية، لسانها لسان عام؛ وحينئذٍ تكون النسبة بينهما هي التباين، لا العموم والخصوص المطلق حتّى نقدّم أخبار البراءة على أخبار التوقّف بالتخصيص كما يُدّعى في المناقشة، ومن هنا لابدّ من توجيه هذه المناقشة، أي التقديم على أساس التخصيص لابدّ من توجيهه بتوجيهٍ يعتمد على كبرى انقلاب النسبة حتّى تكون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف، فتتقدّم عليها بالتخصيص، وذلك بأنْ يقال أنّ أخبار البراءة خرج منها الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، وخرج منها الشبهة قبل الفحص، وخرج منها شبهات أخرى كما في الموارد التي قام الدليل فيها على وجوب الاحتياط، كالدماء، والفروج؛ بل حتّى الأموال، هذه شبهات خرجت عن أخبار البراءة، بمعنى أنّه قام الدليل على وجوب الاحتياط فيها. إذن: هذه شبهات خرجت عن أخبار البراءة.
 حينئذٍ يقال: بعد خروج هذه الشبهات عن أخبار البراءة؛ حينئذٍ تنقلب النسبة؛ حينئذٍ تكون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف؛ لأنّ هذه الشبهات التي خرجت من أخبار البراءة باقية على دخولها تحت أدلّة التوقّف، فلا مانع من شمول أخبار التوقف للشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، وأخبار التوقّف أيضاً تشمل محل الكلام، وتشمل هذه الشبهات، بينما هذه الشبهات خرجت عن أخبار البراءة، وعليه: سوف تكون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف، فتتقدّم عليها بالتخصيص بناءً على كبرى انقلاب النسبة.
  وبعبارةٍ أكثر وضوحاً: في المقام، بناءً على هذا الكلام يوجد عندنا ثلاثة أدلّة، ولابدّ أنْ نتعامل مع هذه الأدلة الثلاث، لدينا دليل يدلّ على البراءة، ودليل ثانٍ يدلّ على وجوب الاحتياط في شبهات معيّنة مقرونة بالعلم الإجمالي، في الدماء، وفي الفروج، وقبل الفحص، وثالثاً لدينا أخبار التوقّف. النسبة بين أخبار البراءة وأخبار التوقّف قبل تخصيص أخبار البراءة بأخبار الاحتياط هي نسبة التباين، لكن عندما نخصصّ أخبار البراءة بأخبار الاحتياط في الشبهات المذكورة المعيّنة، ونخرج منها الشبهات المذكورة؛ حينئذٍ تنقلب النسبة بين أخبار البراءة، وأخبار التوقّف من التباين إلى العموم والخصوص المطلق، بمعنى أنّ أخبار البراءة تكون أخص مطلقاً من أخبار التوقّف، فتتقدّم عليها بالتخصيص.


[1] مصباح الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للبهسودي، ج 2، ص 299.