الموضوع: الأصول العملية/ الاحتياط/ الاحتياط العقلي
ذكرنا في الدرس السابق أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) أجاب عن الاعتراض على الانحلال الحكمي بجوابٍ مبنائي، لكنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) أجاب عن الاعتراض بإنكار الأصل الموضوعي الذي يبتني عليه الاعتراض وهو مسألة أنّ تنجيز الإمارات يكون بوصولها، هذا هو المبنى الذي بُني عليه الاعتراض؛ لأنّه يعني التفكيك بين زمان حصول العلم الإجمالي وبين ثبوت المنجِّز، فيكون المتنجِّز متأخّراً عن زمان حصول العلم الإجمالي، وهذا يؤدي إلى عدم انحلال العلم الإجمالي. هو يقول: أنّ منجّزيّة الإمارات لا تكون بوصولها، فالوصول ليس شرطاً في تنجّز الإمارة؛ بل كونها في معرض الوصول هو الذي يكون معتبراً في التنجيز، وكل إمارةٍ تكون في معرض الوصول، وإنْ لم تصل إلى المكلّف هي تنجِّز مؤدّاها ومضمونها؛ لأنّه يجب عليه الفحص، والشبهة حينئذٍ تكون شبهة قبل الفحص، ولا إشكال عندهم في أنّ الشبهة قبل الفحص تكون منَجّزة ولا تجري فيها الأصول المؤمّنة، وكون الإمارة في معرض الوصول هذا يحصل من حين حصول العلم الإجمالي، ومن حين البلوغ تكون الإمارة في معرض الوصول، بدليل أنّها وصلت إليه بعد ذلك، وهذا معناه أنّه لو فحص عنها لعثر عليها، فإذن هي في معرض الوصول من حين حصول العلم الإجمالي.
وعليه: لا يرد هذا الاعتراض؛ بل ينحل العلم الإجمالي حكماً على كلا المسلكين السابقين، مسلك الاقتضاء، ومسلك العلّيّة، باعتبار التعارض على مسلك الاقتضاء؛ لأنّه عندما حصل العلم الإجمالي كان هناك منجّز لبعض أطرافه، فهذا الطرف الذي ورد فيه المنجّز وهي الإمارة التي هي في معرض الوصول، لا تجري فيه البراءة، فتجري البراءة في الطرف الآخر بلا معارض، وبهذا يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز حكماً، وهو معنى الانحلال الحكمي. أو على مسلك العلّيّة، أنّ هذا العلم الإجمالي لا ينجّز معلومه على كلا التقديرين؛ بل ينجّزه على أحد التقديرين دون التقدير الآخر، هذا أيضاً يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، فيتم الاعتراض بناءً على هذا الكلام الذي ذكره السيد الخوئي (قدّس سرّه).
هذا هو الاعتراض على الانحلال الحكمي، وهذا هو جوابه، وهو جواب صحيح، والمسلك الصحيح من المسلكين المتقدّمين الذي بنا عليه تقريباً مشهور المتأخّرين هو مسلك الاقتضاء، وأنّ منجّزية العلم الإجمالي من آثار تعارض الأصول المؤمّنة في الأطراف، فإذا لم يجري اصلٌ مؤمّن في أحد الطرفين، جرى الأصل الآخر في الطرف الآخر بلا معارض، وبذلك يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، وهو معنى الانحلال الحكمي.
إذن: الجواب عن التقريب الثاني لوجوب الاحتياط عقلاً الذي يُستدل عليه بالعلم الإجمالي بوجود أحكام إلزاميّة في الشريعة، الجواب هو أنّ هذا العلم الإجمالي منحلٌ حكماً؛ لأنّ الانحلال الحقيقي في الجواب الأوّل فيه مناقشات كما أشرنا إليه في بحث تقدّم، لكن الانحلال الحكمي تام، فلا أثر لهذا العلم الإجمالي في التنجيز، فهو لا يمنع من إجراء الأصول المؤمّنة في الشبهات الحكمية التي لم ترد فيها إمارة معتبرة، وهذا هو المطلوب في المقام، حيث أننّا نريد أنْ نثبت أنّه عندما يشكّ المكلف بنحو الشبهة الحكمية في وجوب شيءٍ، أو حرمة شيءٍ، ولم تقم عنده إمارة معتبرة تدل على الوجوب، فبإمكانه أنْ يجري البراءة؛ لأنّ البراءة في هذه الشبهة وأمثالها ليست معارَضة بالبراءة في الشبهات التي وردت فيها الإمارة المعتبرة.
التقريب الثالث: لوجوب الاحتياط العقلي هو دعوى أنّ ارتكاب الشبهة فيه احتمال الوقوع في الضرر، والعقل يستقل بلزوم دفع الضرر المحتمَل. يتألف هذا التقريب من صغرى وكبرى:
أمّا الصغرى فهي أنّ مخالفة التكليف المحتمل فيه احتمال الضرر، وهي صغرى واضحة، باعتبار أنّ مخالفة التكاليف الشرعية توجب احتمال العقاب الأخروي، واحتمال الوقوع في المفسدة، المعبّر عنه بالضرر الدنيوي. إذن: العلم بالتكليف يستلزم العلم بالضرر الدنيوي والأخروي، ويستلزم الوقوع في العقاب، والمفسدة عند المخالفة، والظن بالتكليف يستلزم الظن بهما، واحتمال التكليف يستلزم احتمالهما، وكل درجات التصديق إذا ثبتت في أحد المتلازمين تثبت بنفس الدرجة فيما يلازمه؛ للملازمة الواقعية الثابتة بين نفس التكليف، وبين ترتّب العقاب على مخالفته، والوقوع في المفسدة عند مخالفته، هذه ملازمة واقعية ثابتة بينهما، فالعلم بأحدهما يستلزم العلم بالآخر، فإذا ظنّ المكلّف بالتكليف ظنّاً غير معتبر، إذا كان ظنّاً معتبراً فلا مشكلة، وليس هو محل كلامنا، وإنّما نحن نريد أنْ نجري البراءة، أو الاحتياط في الظنّ بالتكليف الذي يقم دليل على اعتباره، الذي حكمه حكم احتمال التكليف، وحكم الشكّ في التكليف، فإذا ظنّ بالتكليف ظنّاً غير معتبر، هذا الظنّ بالتكليف يلازم الظن بالضرر، والظن بالوقوع في المفسدة، وإذا احتمل التكليف، فهذا الاحتمال يلازم احتمال الضرر الأخروي، واحتمال الضرر الدنيوي.
وأمّا الكبرى: فهي ممّا يحكم بها العقل ويستقل بها العقل على ما قالوا، وذكر في الكفاية
[1]
بأنّ هذه الكبرى مسلّمة ويستقلّ بها العقل بقطع النظر عن مسألة التحسين والتقبيح العقليين؛ ولذا يؤمن باستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، أو المظنون حتّى من ينكر التحسين والتقبيح العقليين كالأشاعرة، وسرّه هو أنّه حكم عقلي فطري جِبِلّي غير مبتني على مسألة التحسين والتقبيح العقليين، فيستقلّ العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل أو المظنون، فتتم الكبرى والصغرى، وإذا تمّت الكبرى والصغرى؛ فحينئذٍ العقل يلزم المكلّف عندما يحتمل التكليف، أو يشكّ فيه، أو يظنّ به ظنّاً غير معتبر يلزم العقل المكلّف بأنْ يحتاط، فإذا كانت شبهة تحريمية فأنّه يلزمه بالترك، وإذا كانت شبهة وجوبية يلزمه بالفعل؛ لأنّه بذلك يتخلّص من الضرر المحتمل، والضرر المحتمل يجب دفعه بحكم العقل، ودفعه لا يكون إلاّ عن طريق الاحتياط. فيكون الاحتياط واجباً عقلاً.
الجواب المعروف عن هذا التقريب، هو: تقدّم في بحث الانسداد أنّ أحد الأدلّة على حجّيّة مطلق الظن هو هذا الدليل، والجواب عنه هو، ما هو المقصود بالضرر في هذا الدليل ؟ هل المراد به الضرر الأخروي، أو المراد به الضرر الدنيوي ؟ إذا كان المراد بالضرر هو الضرر الأخروي، فالكبرى مسلّمة؛ إذ لا إشكال في وجوب دفع الضرر الأخروي المحتمل، أو المظنون، والعقل يحكم بوجوب دفع العقاب الإلهي حتّى لو كان محتملاً، أو مظنوناً، فيجب دفعه، لكنّ الكلام في الصغرى، وهي أنّ الظن بالتكليف هل يلازم الظنّ بالعقاب الأخروي، والضرر الأخروي ؟ هذه الصغرى محل كلامٍ ومناقشةٍ، باعتبار أنّ هذه الصغرى مبنيّة على دعوى الملازمة الواقعية بين التكليف الواقعي، وبين استحقاق العقاب على مخالفته حتّى يكون الظنّ بالتكليف مستلزماً للظن باستحقاق العقاب على المخالفة، وللظنّ بالضرر الأخروي، واحتمال التكليف يكون ملازماً لاحتمال الضرر الأخروي، ودعوى الملازمة هذه غير تامّة.
وأجيب عنها:
أوّلاً: بما ذكروه من أنّ افتراض الملازمة يقتضي البناء على وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية، كما هو الحال في الشبهات الحكميّة حتّى بعد الفحص، باعتبار أنّ التكليف فيها محتمل، والفحص يورث العلم بعدم ثبوت التكليف، فيبقى التكليف محتملاً، فإذا بقي التكليف محتملاً، والمفروض أنّ الملازمة ثابتة بين التكليف الواقعي، وبين استحقاق العقاب على المخالفة، فاحتمال التكليف يستلزم احتمال الضرر الأخروي، ولا إشكال في أنّ العقل يستقل بلزوم دفع الضرر الأخروي. إذن: يجب الاحتياط حتّى في الشبهات البدوية بعد الفحص.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ الاحتياط لا يختص بالشبهات البدوية قبل الفحص؛ بل حتّى بعد الفحص أيضاً يجب الاحتياط فيها، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، وإنّما يمكن الالتزام بوجوب الاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، أو الشبهات البدوية قبل الفحص، لكن بعد الفحص وعدم العثور على ما يثبت التكليف في تلك الشبهة، مقتضى هذا الدليل أنْ نلتزم بوجوب الاحتياط حتّى في هذا المورد، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.
ثانياً: أنّ أصل الملازمة بين التكليف الواقعي وبين استحقاق العقاب على المخالفة غير ثابت، وإنّما الملازمة التي ندركها هي ملازمة بين التكليف المنجّز وبين استحقاق العقاب على المخالفة، وليس كل تكليف مطلقاً، وإنْ لم يكن منجَزاً يلازم استحقاق العقاب على المخالفة، فاستحقاق العقاب على المخالفة من لوازم تنجّز التكليف، فالتكليف إذا تنجّز بأيّ منجّزٍ كان، يلازم استحقاق العقاب على المخالفة، واستحقاق العقاب على المخالفة هو من لوازم مرتبةٍ خاصّةٍ من التكليف، وهو أنْ يصل التكليف إلى مرتبة المنجّزية، تنجّز التكليف يلازمه استحقاق العقاب على المخالفة. إذن: الملازمة ليست بين ذات التكليف الواقعي، ولو لم يكن منجّزاً، وبين استحقاق العقاب على المخالفة، وإنّما الملازمة التي نؤمن بها هي ملازمة بين التكليف المنجّز، وبين استحقاق العقاب على المخالفة، وحيث أننّا نتكلّم عن شبهةٍ بدويةٍ لم يتنجّز فيها التكليفٍ بأيّ منجّزٍ، فلا نستطيع أنْ نقول أنّ احتمال التكليف يلازم احتمال الضرر الأخروي حتّى نتمّم الصغرى، أو أنّ الظنّ بالتكليف يلازم الظنّ بالضرر الأخروي؛ لأنّ هذا مبني على افتراض الملازمة بين التكليف الواقعي، وبين استحقاق العقاب على المخالفة، وقد عرفت أنّه لا ملازمة بينهما.
هذا الجواب الثاني الذي ذُكر عن تمامية الصغرى، بناءً على أنْ يكون المقصود بالضرر هو الضرر الأخروي، والكبرى تامّة، لكن الصغرى غير تامّة؛ لهذين الوجهين.
وأمّا إذا كان المقصود بالضرر في الدليل هو الضرر الدنيوي، أي أنّ احتمال التكليف يلازم احتمال الضرر الدنيوي عند المخالفة، والظنّ بالتكليف يلازم الظنّ بالوقوع في الضرر الدنيوي عند المخالفة، ويُعبّر عنه بالوقوع في المفسدة؛ حينئذٍ قالوا: أنّ كلتا المقدّمتين، الصغرى والكبرى ممنوعتان على تقدير، والكبرى ممنوعة فقط على تقديرٍ آخر.
توضيح ذلك: قالوا بأنّ الشبهة تارةً تكون شبهةً وجوبية، وأخرى تكون شبهةً تحريميّة، والشبهة التحريميّة تارةً ينشأ التحريم فيها من مفاسد نوعيّة كلّيّة راجعة إلى اختلال النظام من قبيل حرمة قتل النفس المحترمة، فهذا التحريم لا ينشأ من ضررٍ يلحق شخص المرتكب عندما يُقدِم على هذا العمل، وإنّما ينشأ من مفسدةٍ نوعيّةٍ ترجع إلى حفظ النظام، وعدم جواز الإخلال به، فتوضع جملة من التشريعات لأجل حفظ النظام وعدم الإخلال به، وإلاّ القاتل لا يلحقه ضرر شخصي ومفسدة شخصية تعود إليه، ولعله من هذا الباب الغصب أيضاً. إذن: هذا نوع من التحريمات لم ينشأ من ضرر شخصي يلحق المرتكب عند ارتكابه ، وإنّما ينشأ من مفاسد نوعيّة كلّية تؤثر في حفظ النظام وتوجب اختلاله. وأخرى تنشأ من ضررٍ شخصي، ومفسدةٍ شخصيّة موجودة في نفس من يرتكبه، هو إذا ارتكب هذا الفعل الحرام سوف يتضررّ، ومن هذا القبيل شرب الخمر، هناك مفسدة شخصية فيه، هو يتضررّ ويصيبه ـــــ مثلاً ـــــ الداء الفلاني، وأكل السم أيضاً مفسدة شخصية وضرر شخصي يلحق ويعود إلى شخص المرتكب.
قالوا: لأنّ الشبهات الوجوبية عندما نشكّ في وجوب شيء، لا معنى لأنْ نقول أنّ في مخالفتها يترتب الضرر الدنيوي، ففي مخالفة التكاليف الوجوبية فوات مصلحة؛ لأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، والتحريم في بعض الأحيان كما عرفت ينشأ من مفسدة في المتعلّق، والوجوب ينشأ من مصلحة في المتعلّق، فلا نستطيع أنْ نقول أنّ مخالفة الوجوب توجب الوقوع في الضرر الدنيوي، وإنّما هي توجب فوات المصلحة وفوات الملاك على المكلف، وهناك فرق بين أنْ تفوت المصلحة على المكلّف عند المخالفة، وبين أنْ يقع في الضرر عند المخالفة، في التكاليف الوجوبية لا يُتصَوّر معنىً للوقوع في الضرر عند مخالفتها، وإنّما المتصَوّر هو أنّ المصالح تفوت، والملاك يفوت عندما يخالف التكليف الوجوبي، وفوات المصلحة غير الوقوع في الضرر. إذن: هذا الدليل لا يمكن تطبيقه في محل الكلام، فهو غير تام صغرىً وكبرىً في الشبهات الوجوبية.
أمّا عدم تماميته صغرىً؛ فلأنّ احتمال الوجوب لا يلازم احتمال الوقوع في الضرر الدنيوي، وإنّما يلازم فوات المصلحة والملاك، وفوات المصلحة والملاك ليس ضرراً.
وأمّا الكبرى: فواضح؛ لأنّ الأضرار الدنيوية لا يستقل العقل بوجوب دفعها، خصوصاً إذا كانت من قبيل فوات المصلحة، وسوف نقول أنّها إذا كانت من قبيل الأضرار الشخصيّة التي تلحق المكلّف لا دليل على وجوب دفعها عقلاً، فما ظنّك إذا كان المقصود بالضرر هو فوات المصلحة ؟ لا يستقلّ العقل هنا بأنّه يجب على المكلّف تحصيل المصلحة، ويحرم عليه تفويت تلك المصلحة. ونفس الكلام يقال إذا كانت الشبهة تحريمية وكان التحريم ناشئ من مفسدة نوعيّة ترجع إلى لزوم حفظ النظام، وعدم الإخلال به، من قبيل تحريم القتل، أيضاً يقال نفس الشيء، كلتا المقدّمتين ممنوعتان، أمّا الصغرى؛ فلأنّ الظنّ بحرمة فعلٍ، إذا كانت حرمته من هذا القبيل، أو تنشأ من مفسدةٍ نوعيةٍ، لا من مفسدة تعود إلى شخص المرتكب، أنّ الظنّ بالتحريم لا يلازم الظنّ بالضرر الدنيوي؛ بل بالعكس في بعض الأحيان قد يكون نفعاً دنيوياً بالنسبة له، هذا الذي يغصب مال الغير ينتفع دنيوياً، ولا يلحقه ضرر دنيوي عندما يرتكب ذلك الشيء، وإنّما هناك مفاسد نوعية لاحظها الشارع عند التحريم، فلا نستطيع أنْ نقول أنّ الظنّ بتحريم من هذا القبيل يلازم الظنّ بالضرر الدنيوي، أو أنّ احتمال من هذا القبيل يلازم احتمال الضرر الدنيوي، فهنا الصغرى غير تامّة، والكبرى أيضاً غير تامّة، فلا يستقل العقل بلزوم دفع الضرر بهذا المعنى، يعني لا يستقل العقل بلزوم تحصيل تلك المصالح النوعية، وأنّه يجب تحصيلها، فلابدّ من الاحتياط.
نعم، فيما إذا كان التحريم في الشبهة التحريمية ناشئ من ضررٍ شخصي من قبيل شرب الخمر، إذا كان ناشئاً من ضررٍ شخصي، هنا الصغرى تكون تامّة؛ لأنّ الظنّ بتحريم من هذا القبيل يلازم الظنّ بالوقوع في الضرر الدنيوي، والمفسدة الدنيوية، احتمال التحريم من هذا القبيل أيضاً يلازم احتمال الوقوع في الضرر الدنيوي، لكنّ الكبرى غير مسلّمة؛ إذ لا دليل على وجوب دفع الضرر الدنيوي المظنون، فضلاً عن المحتمل؛ بل قالوا أنّه لا دليل على تحريم ارتكاب ما فيه ضرر دنيوي حتّى لو كان مقطوعاً به، فضلاً عمّا إذا كان مظنوناً أو محتملاً، العقل لا يحكم بذلك. نعم، العقل قد يمنع عن الإقدام على ما فيه ضرر كبير جدّاً بحيث يصدق عليه إلقاء النفس في التهلكة، وإهلاك النفس وأمثاله، امّا الأضرار الدنيوية الأخرى كحمّى يومٍ مثلاً، أو يصيبه الزكام، وأضرار من هذا القبيل إذا كانت أضراراً، العقل لا يستقلّ بلزوم دفعها، وحرمة الإقدام على ما فيه ضرر من هذا القبيل. نعم، قلنا إذا وصل إلى مرحلة إهلاك النفس، أو إلقاء النفس في التهلكة، هناك أدلّة تدل على حرمته، أمّا إذا لم يصل إلى هذه المرحلة، فلا دليل على حرمة ذلك. قالوا: ثبت في موارد خاصّة الإقدام على ما فيه ضرر، من قبيل الانتحار، دلّ دليل على حرمة الإقدام على هذا الضرر، في موارد خاصّة أيضاً ثبت حرمة ارتكاب ما يُخاف ضرره في موارد خاصّة كالصوم، والوضوء، والغُسل، إذا كان فيها ضرر، قالوا ورد حرمة ارتكاب ما يُخاف ضرره في هذه الموارد، لكنّه يٌقتصَر عليها ولا نستفيد منها قاعدة عامّة بحيث نعممّ هذا الحكم، ونقول: كل ما يُخاف فيه الضرر لا يجوز ارتكابه.
هذا غاية ما يقال في مناقشة التقريب الثالث لإثبات وجوب الاحتياط عقلاً.
[1]
كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص 308.