الموضوع: الأصول العملية/ أدلّة البراءة الشرعية/ الاستصحاب
كان الكلام في الجواب الثاني على الإشكال، وذكرنا أنّ الموارد التي ذكرها السيد الخوئي(قدّس سرّه) في هذا الجواب ليست كلّها ممّا لا يجري فيها الاستصحاب، بعضها لا يجري فيه الاستصحاب، فتجري فيه البراءة، ويصحّ ما ذكره، لكنّ الباقي ليس هكذا، قلنا أنّ المورد الثاني الذي ذكر فيه بأنّ في بعض الأحيان الأثر يترتّب على الإباحة بعنوانها، هنا لا فائدة في إجراء الاستصحاب؛ لأنّ استصحاب عدم المنع لا يثبت الإباحة بعنوانها، إلاّ بناءً على الأصل المثبت، وبالتالي لا يمكن ترتيب الأثر، وهنا تجري أصالة البراءة ويترتب ذلك الأثر، فيختصّ المورد بجريان البراءة، ولا يجري فيه الاستصحاب، فيُنزّل عليه دليل البراءة. قلنا أنّ هذا ليس تامّاً؛ لأنّه بالإمكان إجراء الاستصحاب في نفس الإباحة، وعليه: فكما تجري البراءة يجري استصحاب البراءة؛ لأنّ البراءة متيّقنة في الزمان السابق، سواء كان الزمان السابق هو زمان قبل البلوغ، أو كان زمان قبل الجعل، أو كان قبل تحققّ شرائط الحكم الخاصّة. إذن: هنا كما تجري البراءة يجري استصحاب البراءة، ولا نجري استصحاب عدم المنع حتّى يقال: هذا أصل مثبت، وإنّما يجري الاستصحاب في نفس البراءة المتيّقنة سابقاً.
وهكذا الحال في المورد الثالث الذي هو عبارة عن دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، هنا ذكر السيد الخوئي(قدّس سرّه) بأنّ هنا لا يجري الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب الذي يُتوقع جريانه لكي يثبت البراءة، والاكتفاء بالأقل هو عبارة عن استصحاب عدم التقييد، أنّ الأقل الواجب على كل حال لم يُقيّد بالجزء العاشر، فيكفي الإتيان بالأقلّ، وهذا هو عبارة عن نتيجة البراءة، فأنّ نتيجتها هي الاكتفاء بالأقلّ. قال: استصحاب عدم التقييد مُعارض باستصحاب عدم الإطلاق، فلا يجري الاستصحاب، ولكي نثبت الاكتفاء بالأقل لابدّ من إجراء أصالة البراءة.
هذا الكلام لا يتمّ بناءً على مبنى السيد الخوئي(قدّس سرّه) في أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل الضدّين؛ فحينئذٍ نقول أنّ كلامه لا يجري؛ لأنّ استصحاب عدم الإطلاق أصلاً لا يجري حتّى يكون معارضاً لاستصحاب عدم التقييد؛ لأنّه ماذا يُراد بإجراء استصحاب عدم الإطلاق ؟ هل يُراد به إثبات التقييد، ثمّ إثبات أثر التقييد، وهو عدم الاكتفاء بالأقل، ووجوب الإتيان بالزائد، هذا هو أثر التقييد، أنّ الأقلّ واجب مقيّد بالجزء العاشر، فيجب الإتيان بالجزء العاشر، هل المراد باستصحاب عدم الإطلاق إثبات التقييد، ثمّ إثبات أثره، أو المراد هو إثبات الأثر مباشرة ؟ وكلٌ منهما لا يمكن الالتزام به، أمّا إذا كان المقصود باستصحاب عدم الإطلاق إثبات التقييد، فهذا أصل مثبت، باعتبار أنّ التقييد لازم عقلي لعدم الإطلاق. وأمّا إذا أُريد باستصحاب عدم الإطلاق إثبات الأثر مباشرة، أي أننّا نجري استصحاب عدم الإطلاق لإثبات لزوم الإتيان بالأكثر، أي لزوم الإتيان بالجزء العاشر؛ فحينئذٍ نقول: أنّ هذا موضوع الأثر هو التقييد، وليس موضوعه عدم الإطلاق حتّى يترتّب هذا الأثر على عدم الإطلاق الثابت بالاستصحاب؛ بل هذا الأثر موضوعه التقييد، ومالم نثبت التقييد، لا يكون هذا الأثر ثابتاً، وقد عرفت أنّ التقييد لا يمكن إثباته باستصحاب عدم الإطلاق.
إذن: استصحاب عدم الإطلاق لا يجري في حدّ نفسه لعدم ترتّب الأثر عليه، بخلاف أصالة عدم التقييد، فأنّها تنفي هذا الأثر، يعني تنفي وجوب الإتيان بالجزء العاشر؛ لأنّ وجوب الإتيان بالجزء العاشر موضوعه التقييد، فإذا نفينا التقييد بالأصل، فسوف ينتفي أثره، فلا يجب الإتيان بالجزء العاشر، فيثبت بأصالة عدم التقييد عدم وجوب الإتيان بالجزء العاشر، بينما اصالة عدم الإطلاق لا يمكن أنْ تجري لما ذكرناه.
إذن: لا مانع من جريان استصحاب عدم التقييد، فيكون هذا من الموارد التي تجري فيها البراءة والاستصحاب، فيعود الإشكال السابق، وهو أنّ الاستصحاب يكون حاكماً على البراءة، ورافعاً لموضوعها، وبالتالي يكون موجباً لإلغاء دليل البراءة.
الصحيح في الجواب هو أنْ يقال: أنّ الموارد التي لا يجري فيها الاستصحاب، وتجري فيها البراءة فقط موارد نادرة جدّاً ولا معنى لتنزيل أدلّة البراءة الكثيرة جدّاً، وذات السعة جدّاً على هذه الموارد النادرة. مضافاً إلى أنّ ظاهر كلامه في الجواب الثاني هو الالتزام بالإشكال في غير هذه الموارد التي ذكرها، وهي عبارة عن معظم حالات الشكّ في التكليف، يعني لابدّ أنْ يلتزم بأنّ معظم حالات الشكّ في التكليف لا تجري البراءة الشرعية فيها، فهل يلتزم بذلك ؟ في الحالات الاعتيادية غير هذه الحالات الأربعة، إذا سلّمناها، كما لو شكّ في حرمة أكل لحم الأرنب، أو شكّ في حرمة شرب التتن، فهل يلتزم هنا بعدم جريان البراءة الشرعيّة ؟ كما هو ظاهر كلامه في الجواب الثاني، حيث تخلّص من الإشكال في هذه الموارد التي تجري فيها البراءة، ولا يجري فيها الاستصحاب، كأنّه الموارد الأخرى، وهي جلّ الموارد من الشكّ في التكليف يلتزم فيها بالإشكال، يعني يجري الاستصحاب، ويلغي البراءة، ويرفع موضوعها، فهل يلتزم بعدم جريان البراءة الشرعيّة في هذه الموارد ؟ لا أظنّه يلتزم بذلك.
الصحيح في الجواب عن أصل الإشكال هو ما ذكره السيّد الشهيد (قدّس سرّه)، حيث أجاب عن أصل الإشكال بأجوبة عديدة :
[1]
الجواب الأوّل: أننّا حتّى لو سلّمنا أنّ دليل الاستصحاب حاكم على دليل البراءة، ورافع لموضوعه، حتّى لو سلّمنا بالحكومة التي ستأتي المناقشة فيها، لكن هذا لا يوجب إلغاء دليل البراءة؛ إذ يبقى دليل البراءة مؤثراً في حقّ من لم يصل إليه دليل الاستصحاب، ويكون له أثر، وفائدة، ولا يمكن أنْ نقول أنّ دليل البراءة يُلغى؛ بل يُجعل دليل البراءة ويكون مؤثراً في حقّ من لم يصل إليه دليل الاستصحاب. وبعبارة أخرى: يكون نظير الحكم الواقعي مع البراءة؛ إذ لا إشكال أنّ الحكم الواقعي إذا وصل إلى المكلّف يرفع موضوع البراءة؛ لأنّ موضوع البراءة هو الشكّ في الحكم الواقعي، فإذا وصل الحكم الواقعي إلى المكلّف يرتفع موضوع البراءة، لكن هذا لا يعني إلغاء دليل البراءة؛ بل يبقى دليل البراءة على حاله ويكون مؤثراً في حقّ من لم يصل إليه الحكم الواقعي، ويثبت له البراءة، لكن كون الحكم الواقعي بوصوله رافعاً لموضوع البراءة لا يعني إلغاء دليل البراءة. دليل الاستصحاب من هذا القبيل، دليل الاستصحاب لو سلّمنا الحكومة، وأنّه يرفع موضوع البراءة لا يوجب إلغاء دليل البراءة؛ لأنّ دليل البراءة يبقى مؤثراً في حقّ من لم يصل إليه دليل الاستصحاب، وما أكثر الناس الذين لم يصل إليهم دليل الاستصحاب، لا من العوام؛ بل من العلماء، وربما مرّ عليكم أنّ أوّل من استدلّ على الاستصحاب بالأخبار هو والد الشيخ البهائي الشيخ حسين عبد الصمد، وقبله لم يكن قد وصل إليهم دليل الاستصحاب، فيكون دليل البراءة مؤثراً في حقّهم، وكون دليل الاستصحاب إذا وصل حاكماً على دليل البراءة، ورافعاً لموضوعه لا يعني إلغاء دليل البراءة، وبقائه بلا فائدة، وبلا مورد.
الجواب الثاني:
[2]
أنّ الحكومة على تقدير تسليمها هي واقعاً ولبّاً وروحاً مرجعها إلى التخصيص، لكن الّلسان هو لسان رفع الموضوع، وإلاّ هي في الواقع تخصيصٌ، يعني إخراجٌ من الحكم من دون الإخراج من الموضوع، لا ترفع الموضوع، وإنّما هي تخرج من الحكم. هذه النظرية يؤمن بها السيّد الشهيد(قدّس سرّه)، ويقيم القرائن عليها، ويقول أنّ الحكومة إذا ثبتت في مواردها فهي في روحها التخصيص، لا ربا بين الوالد والولد، صحيح هو ورد بلسان رفع الموضوع، أي بلسان(لا ربا)، لكن هو في الواقع إخراجٌ من الحكم، يقول هذا الربا الواقع بين الوالد والولد ليس حراماً، وناظر إلى الآية(حرّم الربا) فيقول هذا الربا الواقع بين الوالد والولد ليس حراماً، لكن بُيّن هذا الإخراج من الحكم بلسان رفع الموضوع. هذا إذا سلّمنا أنّ الحكومة في واقعها بحسب اللّب والواقع هي تخصيص؛ حينئذٍ في المقام لا يمكن أنْ نقول أنّ دليل الاستصحاب حاكم على دليل البراءة؛ لأنّ التخصيص إنّما يمكن الالتزام به إذا كان بين الدليلين تنافٍ وتعارض، ولو بدوي، بين الدليل العام، وبين التخصيص يوجد تنافٍ، هذا يقول أكرم العلماء، وذاك يقول فسّاق العلماء، فهناك تنافٍ بينهما، فيأتي التخصيص ويقول هذا خارج من الحكم. أمّا غذا كان الدليلان متوافقين، ولا تنافي ولا تعارض بينهما إطلاقاً؛ فحينئذٍ لا معنى للتخصيص، أي لا معنى للحكومة، كما هو الحال في محل الكلام؛ إذ أنّه في محل الكلام لا يوجد تنافٍ بين دليل البراءة ودليل الاستصحاب النافي للتكليف؛ لأننّا نتكلّم عن استصحاب عدم التحريم، هذا يوافق بحسب النتيجة مع البراءة، فلماذا نلتزم بالتخصيص، والحال أنّه لا يوجد تنافٍ بين الدليلين ؟ ويمكن أنْ نأخذ بكلٍ منهما كما لو قال(أكرم كل العلماء)، ثمّ قال(أكرم زيد العالم)، هنا لا معنى لتخصيص العام؛ لأنّ التخصيص فرع التنافي والتعارض بين مدلولي الدليلين، ولو كان تعارضاً غير مستقرّ، أمّا حينما يتوافق الدليلان في مدلوليهما، لامعنى للتخصيص، وبالتالي لا معنى للحكومة؛ لأنّ الحكومة حسب هذا المبنى مرجعها بحسب الحقيقة إلى التخصيص.
إذن: الحكومة في المقام غير صحيحة؛ لعدم التنافي بينهما.
الجواب الثالث:
[3]
وهو أيضاً مبني على مبنىً يؤمن به هو (قدّس سرّه)، وحاصله: أنّ تقديم الأدلّة التي يقال أنّ فيها حكومة ليس قائماً على أساس الحكومة؛ بل هو قائم على نكتة الأظهريّة، أو الجمع العرفي بين الدليلين، حتّى بين(لا ربا بين الوالد والولد) وبين أدلّة تحريم الربا. وبعبارة أخرى: هو لا يتعامل مع الدليل الحاكم والمحكوم معاملة دليل حاكم ومحكوم، وإنّما يتعامل معهما معاملة الدليلين المتعارضين، في موارد التنافي التعامل مع الدليلين يكون تعامل مع دليلين متعارضين، كأي دليلين متعارضين، فلابدّ من تقديم الأقوى والأظهر، هو يرى، كما أثبت، واستدل على ذلك بقرائن أنّ دليل الاستصحاب فيه نكتة الأظهرية، فيُقدّم على دليل البراءة على أساس الأظهرية، وليس على أساس الحكومة ورفع الموضوع، ومن الواضح بناءً على هذا المعنى أنّ هذا التقديم على أساس الأظهرية، أو على أساس الجمع العرفي أيضاً فرع التنافي، كما في (لا ربا بين الوالد والولد) حيث يوجد تنافٍ بينه وبين (حرّم الربا)، أمّا حيث لا يكون تنافي بين الدليلين، وكانا متوافقين بالنتيجة؛ فحينئذٍ لا معنى للتقديم؛ بل نلتزم بكلٍ منهما في مورده، وأيّ ضير في أنْ تتكثّر التأمينات على المكلّف، فهذا يثبت التأمين بملاكٍ، وذاك أيضاً يثبت التأمين، ولكن بملاكٍ آخر، تعدّد الخطابات المثبتة للتأمينات بملاكات متعدّدة لا محذور فيه، فليكن دليل البراءة المثبت للتأمين بملاك الشكّ في التكليف، ودليل الاستصحاب مثبت للتأمين أيضاً بملاك اليقين بالحالة السابقة، وهذا لا ضير فيه، فنأخذ بكلٍ منهما، أصلاً لا يوجد في المقام أنّ هذا رافع لموضوع ذاك، أو أنّه يلغي دليل الآخر، وإنّما يوجد دليلان، وكلٌ منهما مثبت للتأمين، ولا معنى لتقديم أحدهما على الآخر؛ لأنّ هذا التقديم، ولو بملاك الأظهرية، أو الجمع العرفي، إنّما يكون في حالات التنافي والتعارض، وفي المقام ليس ثمّة تنافٍ، أو تعارض؛ بل نأخذ بكلا الدليلين. غاية الأمر أنّ التأمينات تكون متعدّدة، لكن من دون أن يكون الأخذ بالاستصحاب لإثبات التأمين بملاك اليقين بالحالة السابقة يلغي موضوع البراءة؛ بل يبقى دليل البراءة على حاله، ويجري، ونأخذ به، ونثبت تأميناً قائماً على أساس دليل البراءة، وبهذا نتخلّص من أصل الإشكال؛ لأنّ فكرة الإشكال قائمة على أساس الحكومة بمعنى إلغاء دليل الاستصحاب، ورفعه لموضوع البراءة، فإذا رفع موضوع البراءة؛ فحينئذٍ تُلغى البراءة، وتكون أدلّة البراءة بلا فائدة، حيث في كلّ موردٍ تجري فيه البراءة يجري فيه الاستصحاب، وهو حاكم على البراءة، ورافع لموضوعها، فلا يبقى موردٌ للبراءة. الإشكال قائم على هذه الفكرة، وهذه الأجوبة تجيب عن هذه الفكرة على تقدير تسليم الحكومة، وعلى تقدير إنكار الحكومة بمعنى رفع الموضوع.
السرّ في إنكار السيّد الشهيد(قدّس سرّه) للحكومة، ودائماً يقول أنّ التقديم إنّما يكون في موارد التنافي، حيث أنّه في موارد عدم التنافي يقول أصلاً لا داعي للتقديم، وإنّما نعمل بكلا الدليلين كما في محل الكلام، فيكون خارجاً عن محل كلامنا، لكن في موارد التنافي بين الدليلين، السبب الذي جعله لا يقول بالحكومة، وإنّما يقول بأنّ التقديم قائم على أساس الأظهرية والجمع العرفي، السر هو أنّ حكومة دليل الاستصحاب على دليل البراءة مبتنية على الفكرة المعروفة، والمسلك الذي يؤمن به المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وهو مسلك الطريقيّة في باب الإمارات والأصول، بمعنى أنّ الإمارة تجعل الظنّ علماً، وتتمم كشف الدليل الناقص، وتعتبره طريقاً تامّاً، الشارع يعتبر الظنّ علماً، فإذا اعتبره علما،ً في أدلة البراءة لاحظنا أنّ البراءة مُغيّاة بالعلم(الناس في سعة حتّى يعلموا) وهذا قد لا يُصرّح به في بعض أدلّة البراءة، لكن هو مقصود بلا إشكال، فعند حصول العلم لا معنى للبراءة، وذلك لارتفاع موضوعها. إذن: البراءة مغيّاة بالعلم، وترتفع عند العلم بالحكم الواقعي، ودليل الاستصحاب يقول أنّ الاستصحاب علم، وبهذا يكون رافعاً لموضوع البراءة؛ لأنّ موضوع البراءة هو عدم العلم؛ لأنّها مغيّاة تنتهي عند حصول العلم، معناه أنّها تثبت عند عدم العلم، أي عند الشكّ، يعني موضوعها الشكّ أو عدم العلم، الاستصحاب، بناءً على مسلك جعل الطريقية، واعتبار الاستصحاب علماً، يكون بجعله الاستصحاب علماً رافعاً لموضوع البراءة؛ لأنّ موضوعه الشكّ، وعندما يعتبر الاستصحاب علماً، يعني يرفع موضوع البراءة تعبّداً، وهو معنى الحكومة، لكنّ هذا مبني على مسلك جعل الطريقيّة في الإمارات والاستصحاب، لكنّه(قدّس سرّه) يرفض هذا المسلك؛ إذ لا يستفاد من أدلّة اعتبار الإمارة جعلها علماً، واعتبارها طريقاً تامّاً. نعم، يُستفاد منها المعذريّة والمنجّزية، والحجّيّة، لكن اعتبارها علماً، هذا لا يُستفاد منها في الإمارات، فضلاً عن الاستصحاب الذي هو محل كلامنا. على تقدير التسليم بالطريقيّة، فهي ناظرة إلى تنزيل هذه الأمور منزلة القطع الطريقي، وليست ناظرة إلى تنزيل هذه الأمور منزلة القطع الذي يقع موضوعاً للحكم الشرعي، والذي يُسمّى بالقطع الموضوعي، هي تقوم مقام القطع الطريقي، لا أنّها تقوم مقام القطع الموضوعي، فيما نحن فيه العلم الذي جُعل الاستصحاب رافعاً لموضوع البراءة المقيّد بعدمه هو علم موضوعي، البراءة جُعلت مقيّدة بعدم العلم(الناس في سعةٍ مالم يعلموا)، فالعلم أُخذ قيداً في هذا الحكم، فهو موضوع لهذا الحكم، عدم العلم موضوع للبراءة، فالعلم يكون علماً موضوعيّاً، حتّى لو آمنا بالطريقية، فالطريقيّة تُنزّل على أنْ تقوم الإمارة أو الاستصحاب مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة، كما أنّ القطع الطريقي منجّز ومعذّر، الاستصحاب أيضاً يكون منجّزاً ومعذراً، أمّا إذا كان هناك حكم شرعي موضوعه العلم أيضاً دليل حجّيّة الإمارة أو الاستصحاب ينزّل الاستصحاب أو الإمارة منزلة العلم في ترتيب ذلك الحكم الشرعي بحيث يصبح موضوع ذلك الأثر الشرعي العلم والاستصحاب، كما أنّ العلم يحققّ موضوع ذلك الأثر، الاستصحاب أيضاً يحققّ موضوع ذلك الأثر، هذا لا يُستفاد من جعل الطريقية، ما يفهم من جعل الطريقية هو تنزيله منزلة القطع الطريقي والعلم الطريقي لا تنزيله منزلة العلم الموضوعي كما هو الحال في محل الكلام.
[1]
بحوث في علم الأصول، تقرير بحث السيّد محمد باقر الصدر للسيد محمود الشاهرودي، ج 5، ص 73.
[2]
بحوث في علم الأصول، تقرير بحث السيّد محمد باقر الصدر للسيد محمود الشاهرودي، ج 5، ص 73.
[3]
بحوث في علم الأصول، تقرير بحث السيّد محمد باقر الصدر للسيد محمود الشاهرودي، ج 5، ص 73.