الموضوع: الأصول العملية/ أدلّة البراءة الشرعية/ الاستصحاب
لازال الكلام في استصحاب عدم الجعل لإثبات التأمين والبراءة، وانتهى الكلام إلى الاعتراض الثالث على هذا الاستصحاب، وهو الذي أشار إليه السيّد الخوئي(قدّس سرّه) في تقريراته، وحاصله: أنّ استصحاب عدم جعل التكليف المشكوك مُعارَض باستصحاب عدم جعل الترخيص والإباحة والحلّيّة. والوجه في هذه المعارضة هو أننّا نعلم إجمالاً بأنّ هذا الشيء الذي نشك في حرمته وحلّيّته في الشبهات التحريميّة، هو إمّا حرام وإمّا حلال، ولا يمكن نفي كلا الاحتمالين فيه بأنْ نجري استصحاب عدم التحريم فننفي التحريم، ونجري استصحاب عدم الحلّيّة فننفي الحلّيّة، لا يمكن ذلك؛ لأننّا نعلم إجمالاً بثبوت أحدهما، وهذا العلم الإجمالي بثبوت أحدهما يوجب وقوع المعارضة والتكاذب بين استصحاب عدم جعل التحريم، الذي هو المقصود إثباته في المقام، وبين استصحاب عدم جعل الحجّيّة. إذن: لا يجري استصحاب عدم جعل التحريم، وذلك بسبب المعارضة.
السيّد الخوئي(قدّس سرّه) أجاب عن هذا الاعتراض بجوابين:
الجواب الأوّل: أنّ هذا الاعتراض إنّما يتم إذا كان المراد بالإباحة الواقعة طرفاً للعلم الإجمالي هي الإباحة الخاصّة الثابتة للشيء بعنوانه الأوّلي، نظير التحريم المحتمل الطرف الآخر للعلم الإجمالي أيضاً يثبت للشيء بعنوانه الأوّلي، الإباحة المحتملة إذا كانت ثابتة للشيء بعنوانه الأوّلي، فحينئذٍ يتمّ هذا الاعتراض، فيقع التعارض بين استصحاب عدم جعل التحريم، واستصحاب عدم جعل الإباحة، والوجه في تمامية الاعتراض هو لأنّ هذا الشيء، أكل لحم الأرنب ـــــ مثلاً ـــــ هو بعنوانه الأوّلي إمّا حرام، وإمّا حلال، ولا يمكن نفيهما معاً، فيقع التعارض بين الاستصحابين.
وأمّا إذا فرضنا أنّ الإباحة الواقعة طرفاً للعلم الإجمالي هي إباحة ثابتة بملاك أنّه لم يرِد فيه نهي، الإباحة المحتملة في هذا الشيء ليست إباحة خاصّة، وإنّما هي ثابتة بملاك إنّه لم يرِد فيه نهي، يقول: إذا كانت الإباحة من هذا القبيل؛ فحينئذٍ نجيب عن إشكال الاعتراض بأنّ استصحاب عدم جعل التحريم يجري ولا يُعارَض باستصحاب عدم جعل الترخيص والإباحة؛ لأنّ استصحاب عدم جعل التحريم حينئذٍ يكون حاكماً على استصحاب عدم جعل الإباحة؛ لأنّه أصل موضوعي بالنسبة إليه؛ لأنّ هذا الفرض معناه في الحقيقة أنّ ملاك الحلّيّة وموضوعها هو الترخيص، وملاكه وموضوعه هو عدم جعل التحريم؛ لأنّه ثابت بملاك لم يرِد فيه نهي، فموضوعها هو ما لم يرد فيه نهي، كل ما لم يرِد فيه نهي فهو مباح، فإذا جاء استصحاب عدم جعل التحريم وأثبت عدم ورود النهي؛ فأنّه حينئذٍ يكون حاكماً على استصحاب عدم جعل الحلّيّة؛ لأنّه ينقّح موضوع الحلّيّة الذي هو(لم يرد فيه نهي)، وهذا الاستصحاب يثبت عدم ورود النهي، وهو ينقّح موضوع الحليّة، وبالتالي يثبت الحلّيّة، وبالتالي يرفع الشكّ الذي هو موضوع استصحاب عدم جعل الإباحة، فمن الواضح أنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ، وعندما تشكّ في الإباحة وعدمها تستصحب عدم الإباحة، هذا الاستصحاب ـــــ استصحاب عدم التحريم ـــــ يرفع الشكّ تعبّداً؛ لأنّه ينقّح موضوع الترخيص والإباحة، فلا معنى لجريان استصحاب عدم الترخيص، واستصحاب عدم الإباحة؛ بل يكون استصحاب عدم جعل التحريم حاكماً على استصحاب عدم جعل الإباحة. فيقول: هذه المعارضة مبنيّة على افتراض أنْ تكون الإباحة المحتملة إباحة خاصّة، ثابتة بالعنوان الأوّلي للشيء، وإلاّ إذا كانت ثابتة بملاك أنّه لم يرد فيه نهي، فلا معارضة بين الاستصحابين؛ لأنّ استصحاب عدم جعل التحريم ينقّح موضوع الإباحة ويثبتها، وإذا أثبت الإباحة تعبّداً؛ فحينئذٍ لا شكّ حتّى يجري استصحاب عدم الإباحة.
هذا الجواب كما هو قال أيضاً، مبني على هذا الافتراض، لكنّه في الواقع، وفيما نشكّ فيه، الإباحة المحتملة ليست من هذا القبيل، الإباحة المحتملة هي إباحة خاصّة ثابتة في هذا الشيء بعنوانه الأوّلي، ومثلنا بأكل لحم الأرنب وأنّه يحتمل فيه التحريم وتُحتمَل فيه الإباحة، كما أنّ التحريم المحتمل ثابت لأكل لحم الأرنب بعنوانه الأوّلي كذلك الإباحة المحتملة ثابتة لأكل لحم الأرنب بعنوانه الأولي، وليست ثابتة له بعنوان أنّه(لم يرِد فيه نهي) هذا يحتاج إلى دليل، وهو ذكر بعض الأدلّة، لكنّها كلّها ليست ناهضة لإثبات ذلك، وإنّما ما نشك فيه في الخارج، أكل لحم الأرنب، أو شرب التتن أو غيرها من الشبهات الحكمية التي تُذكر كأمثلة للشبهات الحكمية، الإباحة المحتملة فيها إباحة خاصّة ثابتة لأكل لحم الأرنب بعنوان أنّه(أكل لحم الأرنب) ، وليس بعنوان أنّه(لم يرِد فيه نهي) حتّى تثبت الحكومة ويندفع الإشكال كما ذكر.
إذن: الجواب الأوّل عن الاعتراض الثالث ليس تامّاً.
الجواب الثاني: من قال أنّ الاستصحابين متعارضان ؟ لا مانع من إجراء كلا الاستصحابين لعدم أدائهما إلى المخالفة العملية القطعيّة للتكليف الإلزامي، فلو أجرينا استصحاب عدم التحريم، وأجرينا استصحاب عدم الإباحة، هذا لا يؤدي إلى المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال، والسبب واضح، وهو أنّ علمنا الإجمالي المُدّعى في المقام هو ليس علماً بالتكليف على كل تقدير كما في الأمثلة المعروفة، هل أنّ صلاة الظهر واجبة عليه، أو صلاة الجمعة؟ أو مثال من لا يعلم أنّ هذا الإناء فيه خمر، أو أن ذاك الإناء فيه خمر؟ فهنا يوجد علم بالتكليف على كلا التقديرين، فسواء كانت صلاة الظهر هي الواجبة عليه فهي تكليف، أو كانت الجمعة هي الواجبة عليه فهي أيضاً تكليف. وسواء كان هذا خمر يوجد تكليف، أو كان ذاك خمر فأيضاً يوجد تكليف. إذن: هناك علم إجمالي بالتكليف على كل تقدير، مثل هذا العلم الإجمالي لا يجوز إجراء الأصول النافية والمؤمنة في أطرافه؛ لأنّ إجراء الأصول النافية والمؤمنة يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف الإلزامي المعلوم بالإجمال، فلا تجري الأصول في أطرافه. بينما في محل الكلام الأمر ليس كذلك؛ لأنّه في محل الكلام لا يوجد عندنا علم بالتكليف على كل تقدير، وإنّما عندنا علم بالتكليف على تقدير، وأمّا على التقدير الآخر لا يوجد تكليف؛ لأنّ التقدير الآخر هو الترخيص والإباحة، وفي الترخيص والإباحة لا يوجد تكليف. إذن: هناك تكليف على أحد التقديرين لوضوح أنّ المحتمل في المقام أنّ الأمر دائر بين الحرمة والإباحة في الشبهات التحريمية، وبين الوجوب والإباحة في الشبهات الوجوبية. إذن: على أحد التقديرين يوجد تكليف، وعلى التقدير الآخر أصلاً لا يجد تكليف.
يقول: مثل هذا العلم الإجمالي الذي لا يتحقق فيه العلم بالتكليف على كل تقدير لا يمنع من إجراء الأصول المؤّمنة في أطرافه، فلا محذور في إجراء كلا الاستصحابين، استصحاب عدم التحريم، واستصحاب عدم الإباحة. صحيح أنا أعلم بثبوت أحدهما، لكن لا محذور في جريان الأصلين معاً؛ لأنّه لا يؤدّي إلى المخالفة القطعية للتكليف بالإلزام المعلوم، فإذا صحّ إجراء استصحاب عدم جعل التحريم ـــــ بحسب الفرض ــــــ كفى هذا الاستصحاب لإثبات التأمين والبراءة، وهو المقصود في المقام؛ لأنّ البراءة والتأمين يكفي فيها نفي التحريم، يكفي للتأمين من جهة أكل لحم الأرنب أن تقوم الحجّة على نفي التحريم، وهذا لا يتوقّف على إثبات الإباحة حتّى يقال أنّ استصحاب عدم التحريم لا يثبت الإباحة إلاّ على القول بالأصل المثبت، لا نحتاج إلى إثبات الإباحة لإثبات التأمين؛ بل يكفي لإثبات التأمين نفي التحريم، استصحاب عدم جعل التحريم يتكفّل نفي التحريم ويترتب عليه إثبات التأمين والبراءة.
ويُلاحظ على هذا الجواب: أنّه لا وجه للتنزّل وتسليم جريان الاستصحابين في المقام، حيث هناك مشكلة في إجراء أحد الاستصحابين بقطع النظر عن الجواب الأوّل، قلنا أنّ الجواب الأوّل غير تام؛ لأنّه مبني على افتراض أنّ الإباحة ثابتة بملاك عدم ورود النهي، وقلنا أنّ هذا خلاف الظاهر في الأمثلة التي تُذكر في هذا المقام، لكن هناك شيء آخر يمنع من إجراء استصحاب عدم الترخيص، وهذا الشيء هو أنّ استصحاب عدم الترخيص لا اثر له، فلا يجري لأنّه لا يترتّب عليه أثر، ومن الواضح أنّ من شروط جريان الاستصحاب هو أنْ يترتب عليه أثر، استصحاب عدم التحريم يترتب عليه أثر، فيجري، وأثره هو التأمين والبراءة؛ لأننّا قلنا أنّ البراءة والتأمين لا تتوقّف على إثبات الإباحة؛ بل يكفي فيها نفي التحريم، بينما استصحاب عدم الترخيص لا أثر له، ولا يستطيع أن يثبت المنجزيّة؛ لأنّ المنجزيّة من آثار التحريم والمنع والنهي، ومن الواضح أنّ التحريم والمنع والنهي لا يثبت باستصحاب عدم الإباحة، إلاّ بناءً على القول بالأصل المثبت؛ إذ لازم عدم الإباحة ـــــ فرضاً ـــــ التحريم. إذن: استصحاب عدم الإباحة لا يستطيع أن يثبت المنجزيّة مباشرة حتّى يجري بلحاظه؛ إذ لا يكفي في التنجيز عدم الإباحة، ولا يستطيع أنْ يثبت موضوع المنجزيّة الذي هو التحريم والمنع، إلاّ بناءً على القول بالأصل المثبت، فالصحيح أنّ استصحاب عدم الإباحة لا يجري في حدّ نفسه، لا أنْ نقول أنّه يجري ويعارض استصحاب عدم جعل التحريم، لكن نقول لا مانع من جريانهما؛ لأنّ هذا لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة والتكليف الإلزامي، في مرحلة سابقة يوجد مانع يمنع من جريان استصحاب عدم الترخيص وعدم الإباحة.
هذا هو الجواب الصحيح عن الاعتراض الثالث. وبهذا يتمّ الكلام عن الصيغة الثانية لتقريب الاستصحاب، الصيغة الأولى كانت هي إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل البلوغ، وتكلّمنا عنها كثيراً، والصيغة الثانية هي إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الشرع والشريعة.
الصيغة الثالثة التي طرحناها في بداية البحث هي أنْ يجري الاستصحاب بلحاظ ما قبل تحقق بعض الأمور التي يُحتمَل أنّها شرائط في التكليف، هناك شيء معيّن، قبل تحققّه قطعاً لا يوجد تكليف، وبعد تحققّه نحتمل حدوث التكليف، فنلتفت إلى فترة ما قبل تحققّ ذلك الشيء، ونقول: قطعاً الحكم لم يكن ثابتاً، فنستصحب عدم الحكم الثابت قبل تحققّ هذا الشيء. نفترض أننّا شككنا أنّ الاستطاعة البذليّة هل تحققّ وجوب الحج ؟ فنقول : هل يكفي في وجوب الحج الاستطاعة البذليّة أو لا ؟ يمكن ببساطة إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل تحققّ الاستطاعة البذليّة، فنقول: هذا قبل تحقق البذل لم يجب عليه الحج قطعاً، والآن بعد تحققّ البذل نشكّ في أنّه وجب عليه الحج، أو لا ؟ فنستصحب عدم وجوب الحج المتيّقن قبل تحققّ البذل. أو صلاة الجمعة ــــــ مثلاً ــــــ هي على تقدير وجوبها هي مشروطة بالزوال، وبعد الزوال نشكّ في أنّه هل وجبت صلاة الجمعة في زمان الغيبة، أو لا ؟ فيمكن إجراء استصحاب عدم الوجوب الثابت قبل الزوال.
هذا التقريب جيد، وكثير من الملاحظات السابقة لا ترِد عليه. نعم يُلاحظ عليه شيء واحد، وهو أنّه في بعض الأحيان قد يكون هذا الأمر، وهذه الخصوصيّة التي نحتمل أنّها محققّة للتكليف، قد تكون في بعض الأحيان مقوّمة للمستصحب، بحيث أنّ الأمر بعد حصولها هو غير الأمر قبل حصولها، نظير ما تقدّم في الاستصحاب بلحاظ ما قبل البلوغ، حيث طُرح هذا الإشكال هناك، وهو أنّ عدم الوجوب كان ثابتاً للشخص بعنوان أنّه غير بالغ، بينما عدم الوجوب لو ثبت بعد البلوغ، فأنّه يثبت بعنوان آخر، بعنوان أنّه بالغ، فهنا أيضاً يُطرح هذا الأمر، أنّه قبل البذل لم يجب عليه الحج باعتبار عدم وجود الاستطاعة البذليّة أصلاً، لكن بعد البذل تحققّ شيء، وهذا الشيء قد يكون مقوّماً للحالة، وموجباً لتعدّد الموضوع، أو تعدّد القضيّة المتيّقنة، والقضيّة المشكوكة، وهذا لابدّ من الالتفات إليه، فإنْ لم يكن كذلك، كما لعلّه في بعض الأمثلة، الظاهر أنّه لا مانع من إجراء هذا الاستصحاب.
وبهذا يتمّ الكلام عن التقريبات الثلاثة للاستصحاب، وما قيل من الاعتراض عليها، وأجوبة ذلك، وقد تبيّن من خلال هذا الاستعراض الطويل أنّ الظاهر أنّه لا مانع من إجراء الاستصحاب، ولو ببعض تقريباته؛ لأننّا قلنا أنّ الاعتراضات المطروحة غير واردة على استصحاب عدم الجعل، أمّا استصحاب عدم التكليف قبل البلوغ، فالظاهر أنّ الخصوصية التي يُحتمل كونها موجبة لثبوت التكليف لا تمنع من إجرائه.
إذن: لا مانع من إجراء الاستصحاب ببعض تقريباته وإثبات البراءة، ولو عجزنا عن إثبات البراءة بالكتاب، والسُنّة، والإجماع، والعقل ـــــ مثلاً كما ذكروا ـــــ يمكن إثبات البراءة استناداً إلى الاستصحاب.
بعد ذلك ندخل في بعض الأمور المتعلّقة بهذا المطلب:
الأمر الأوّل: قد يقال: بأنّ التزامكم بجريان الاستصحاب لإثبات البراءة يلغي مورد البراءة، وأنّه في كل موردٍ من موارد البراءة يجري فيه الاستصحاب، وهذا معناه عملاً إلغاء للبراءة، فلا يبقى للبراءة مورد تختصّ به بحيث لا يجري فيه الاستصحاب. الإلغاء مبني على فكرة أنّ الاستصحاب مقدّم على البراءة، وذكروا، وسيأتي أنّ تقديم الاستصحاب على البراءة بالحكومة، أو بالورود، أو بأيّ شيءٍ كان لا يُفرّق فيه بين أنْ يكون مفاد الاستصحاب متّفقاً مع البراءة، أو يكون مختلفاً معها، على كل حالٍ هو مقدّم على البراءة حتّى في صورة اتّحاد المفاد، كما في محل الكلام، حيث الاستصحاب في محل الكلام يثبت التأمين، وأدلّة البراءة أيضاً تثبت التأمين، حتّى في هذه الحالة يقدّم الاستصحاب على البراءة، ويكون حاكماً عليها، ورافعاً لموضوعها، فلا يبقى للبراءة شيء، وفي كل مورد نريد أنْ نتمسّك بالبراءة يجري فيه الاستصحاب، ويكون حاكماً على البراءة، ورافعاً لموضوعها؛ وحينئذٍ أي فائدة في أدلّة البراءة الكثيرة الدالّة على البراءة، وبعبارة أخرى: سوف تبقى البراءة بلا مورد؛ لأنّ الاستصحاب يكون مقدّماً عليها، ويرفع موضوعها؛ وحينئذٍ لابدّ من الإجابة عن هذا الإشكال.