الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

34/11/07

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العملية/ أدلّة البراءة الشرعية/ الاستصحاب
 تكلّمنا قبل التعطيل عن الاستدلال على بالبراءة بالاستصحاب، ولم نكمل هذا الموضوع، ذكرنا سابقاً أنّ الاستدلال على البراءة بالاستصحاب له ثلاثة تقريبات:
 التقريب الأوّل: أنْ نجري الاستصحاب بلحاظ ما قبل البلوغ؛ إذ لا إشكال في أنّه هناك يمكن استصحاب عدم الجعل وعدم الحرمة؛ لأنّها متيقنة سابقاً قبل البلوغ، فإذا شُكّ في ثبوتها بعد البلوغ يمكن إجراء استصحاب عدم الحرمة وعدم الجعل.
 التقريب الثاني: أنْ نجري الاستصحاب بلحاظ ما قبل الشريعة؛ إذ لا إشكال في عدم الجعل وعدم الحرمة، أو عدم الحكم المشكوك قبل ثبوت الشريعة، فإذا شككنا في الجعل بعد الشريعة؛ فحينئذٍ نجري استصحاب عدم الجعل، وعدم الحكم المشكوك.
 التقريب الثالث: أنْ نجري الاستصحاب بلحاظ ما قبل تحقق موضوع التكليف وقيوده، يعني شرائط التكليف الخاصّة، كالاستطاعة في باب وجوب الحج ـــــ مثلاً ـــــ فقبل الاستطاعة لم يكن التكليف ثابتاً، وبعد أنْ تتحقق، شيء نشكّ على ضوء تحققّه ـــــ مثلاً ـــــ بانتفاء التكليف، أو بقائه، فيمكن إجراء استصحاب عدم التكليف الثابت قطعاً قبل تحقق هذا الشرط؛ لأنّ هذا الشرط سواء كان معتبراً، أو لم يكن معتبراً، قبل تحققّه لم يكن هناك تكليف، وإنّما نشك في ثبوت التكليف على تقدير تحققّه، فنستصحب عدم التكليف المتيقن قبل تحقق الاستطاعة؛ وحينئذٍ هذا يثبت البراءة، ويثبت التأمين، وهذا هو المطلوب في المقام.
 وقد تقدّم الكلام في توضيح هذه التقريبات، فلا نعيد. وتقدّم الكلام أيضاً عن التقريب الأوّل، يعني إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل البلوغ، والاعتراضات الواردة عليه، وما يرتبط بهذه الاعتراضات.
 ثمّ تكلّمنا عن الاعتراضات الخاصّة على التقريب الثاني، وهو إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الشريعة، وذكرنا الاعتراض الأوّل على هذا التقريب، على التمسّك باستصحاب عدم الجعل، أو عدم الحرمة المشكوكة، وعدم الوجوب المشكوك بلحاظ ما قبل الشارع والشريعة. يطلب في المقام إجراء استصحاب عدم الجعل الآن، يعني بعد ثبوت الشريعة، وطبعاً إذا جرى الاستصحاب سوف يثبت به البراءة والتأمين، وهذا هو المقصود بالاستدلال على البراءة بالاستصحاب بهذا التقريب.
 اعتُرض على هذا التقريب باعتراضات:
 الاعتراض الأوّل: وحاصله: أنّ استصحاب عدم الجعل في محل الكلام؛ بل استصحاب الجعل في غير محل الكلام هو أصل مثبت، فلا يكون معتبراً، ولا يكون صحيحاً، فلا يصح إجراء الاستصحاب، باعتبار أنّ الأثر الذي يُراد إثباته في المقام لا يترتّب على نفس الجعل، وإنّما يترتب على الفعلية والمجعول، ومن الواضح أنّ المجعول يتحقق بتحقق الموضوع، فعندما يتحقق الموضوع يكون الحكم فعلياً، وهو الذي يُعبّر عنه بالمجعول، ولذلك لا أثر ـــــ كما يقول المعترض ـــــ لجعل وجوب الحج على المستطيع بالنسبة للمكلّف الذي ليس مستطيعاً، وإنّما يكون له أثر إذا تحققّت الاستطاعة بالنسبة إليه، وتحقق الموضوع؛ فحينئذٍ يصبح لهذا المجعول أثر، فالأثر ليس لجعل التكليف، وإنّما للتكليف الفعلي الذي لا يكون فعلياً، إلاّ بعد تحقق الموضوع، فالجعل ليس له أثر، وإنّما تمام الأثر هو للمجعول ولفعلية التكليف؛ حينئذٍ يقول المعترض: إذا أُريد باستصحاب الجعل في غير المقام ـــــ لأنّ اعتراض المعترض هو على استصحاب الجعل ثبوتاً وعدماً ــــــ أو استصحاب عدم الجعل كما في محل الكلام، إذا أُريد به مجرّد إثبات الجعل من دون أن نثبت المجعول، أو أُريد به مجرّد نفي الجعل من دون أن ننفي المجعول؛ فحينئذٍ هذا ليس له أثر حتّى يجري الاستصحاب بلحاظه، الجعل ليس أثراً، فلا معنى لإجراء الاستصحاب لإثبات شيءٍ لا أثر له، ونفي الجعل ليس له أثر؛ لأنّ الأثر هو للمجعول وللفعلية، أمّا نفس الجعل، فليس له أثر، فإن كان المقصود بالاستصحاب الجاري في الجعل نفياً، أو إثباتاً هو إثبات مجرّد الجعل، أو نفي مجرّد الجعل، فهذا لا يجري فيه الاستصحاب؛ لأنّه لا يترتب عليه أثر، وأمّا إذا أُريد باستصحاب الجعل، أو استصحاب عدم الجعل كما في محل الكلام، إثبات المجعول في الأول، أو نفي المجعول في الثاني؛ فحينئذٍ سوف يكون الاستصحاب أصلاً مثبتاً؛ لأنّ لازم بقاء الجعل مع فرض تحقق الموضوع هو ثبوت المجعول، هذا لازم عقلي، فإثبات المجعول باستصحاب الجعل أو نفي المجعول باستصحاب عدم الجعل يجعل الاستصحاب من الأصول المثبتة؛ لأنّ إثبات المجعول باستصحاب الجعل هو من لوازم بقاء الجعل مع فرض تحقق الموضوع يصبح المجعول فعلياً، فيثبت المجعول، لكن هذا لازم، ولا يمكن أنْ نثبت المجعول بمجرّد استصحاب الجعل مع الشكّ فيه. كما أنّه لا يمكن نفي المجعول باستصحاب عدم الجعل؛ لأنّ استصحاب عدم الجعل لا يثبت نفي المجعول إلاّ باعتبار الملازمة العقلية بين نفي الجعل وبين نفي المجعول.
 هذا المطلب الذي يذكره المعترض مطلبٌ عام، ذكره المحققّ النائيني(قدّس سرّه) [1] وبه دفع إشكال المعارضة المعروف بين استصحاب عدم الجعل وبين استصحاب المجعول في الشبهات الحكمية. وهناك مسألة معروفة، وهي أنّه في الشبهات الحكمية ومثالها الذي يذكروه هو ما إذا شكّ في حرمة الوطء بعد النقاء وقبل الغسل، فيراد في المقام إجراء الاستصحاب في الشبهة الحكمية، فيقال أنّه لا إشكال في حرمة الوطء قبل النقاء، فإذا شك بعد النقاء وقبل الغسل في بقاء الحرمة، أو ارتفاعها، فيستصحب الحرمة التي كانت ثابتة قبل النقاء، وهذا استصحاب حكمي، هنا اعترض على هذا الاستصحاب باعتراض معروف، وهو أنّ استصحاب بقاء المجعول معارض باستصحاب عدم الجعل الزائد، بمعنى أننّا إذا لاحظنا ناحية الجعل، ليس لدينا علم بجعل الحرمة بعد النقاء وقبل الغسل، وإنّما لدينا علم بجعل الحرمة قبل النقاء، لكن هل جُعلت الحرمة شرعاً بعد النقاء أيضاً وقبل الغسل، أو لا؟ ليس لدينا علم بهذا الجعل، فيجري استصحاب عدم هذا الجعل الزائد، فما معنى جعل الحرمة بعد النقاء وقبل الغسل ؟ هذا يكون معارضاً لاستصحاب الحرمة المتيقنة بعد النقاء وقبل الغسل، استصحابان متعارضان، الأوّل يثبت الحرمة، والثاني ينفي الحرمة؛ لأنّه يقول لا جعل للحرمة بعد النقاء وقبل الغسل، الاستصحاب يقول ذلك؛ لأنّ أركان الاستصحاب متوفّرة، قبل النقاء هناك علم بالجعل، لكن ما أعلمه من الجعل هو جعل الحرمة قبل النقاء، حيث قبل النقاء قطعاً الحرمة مجعولة، لكن هل جعل الله الحرمة بعد النقاء أيضاً وقبل الغسل، أو لا؟ لا أعلم بذلك، والمتيقن سابقاً ولو قبل الشريعة هو عدم الجعل، فيستصحب عدم جعل الحرمة الزائد على القدر المتيقن، ويكون معارضاً لاستصحاب المجعول، أي الحرمة المتيقنة قبل النقاء.
 مرّة نعتني بهذا التعارض ونتممّه، كما هو رأي السيد الخوئي(قدّس سرّه) يقول:( استصحاب بقاء المجعول يعارضه باستصحاب عدم الجعل في المقدار الزائد على المتيقن). [2] فيتعارضان ويتساقطان، فلا يمكن إجراء استصحاب المجعول)، وبذلك نفى صحة إجراء الاستصحاب في الشبهات الحكمية، واختار هذا التفصيل المعروف الذي هو جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية، وعدم جريانه في الشبهات الحكميّة؛ لأنّه دائماً استصحاب الحكم، الذي نُعبّر عنه باستصحاب المجعول يكون مُعارضاً لاستصحاب عدم الجعل الزائد.
 أمّا المحقق النائيني(قدّس سرّه)، فلا يرضى بذلك، يقول:(إنّ إشكال المعارضة يندفع بما ذكره من الاعتراض، وهو أنّ استصحاب عدم الجعل لا يجري أساساً حتّى يكون معارضاً لاستصحاب المجعول؛ وذلك لأنّه أصل مثبت). لأنّه إذا كان الغرض من استصحاب عدم الجعل هو فقط نفي الجعل؟ فهذا لا أثر له. وإن كان الغرض منه نفي الجعل استطراقاً إلى نفي المجعول، فهذا يجعل الاستصحاب أصلاً مثبتاً؛ لأنّ نفي المجعول باستصحاب عدم الجعل هو من اللوازم العقلية التي لا تثبت بالاستصحاب؛ ولذا دفع المحقق النائيني(قدّس سرّه) إشكال المعارضة بهذا الاعتراض الذي ذكرناه، وهو أنّ الأصول الجارية في الجعل نفياً، أو إثباتاً هي أصول مثبتة.
 الجواب عن هذا الاعتراض: ما هو الأثر الذي يُراد إثباته عندما نجري الاستصحاب في الجعل نفياً أو إثباتاً؟ لنرى أنّ هذا الأثر هل هو أثر للمجعول، أو هو أثر للجعل نفياً أو إثباتاً؟ في محل الكلام عندما يُطرَح هذا التقريب لإجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الشريعة باستصحاب عدم الجعل، عدم جعل الحرمة المشكوكة ــــ مثلاً ــــ الأثر الذي يُراد إثباته هو عبارة عن التأمين، نريد إثبات التأمين لهذا المكلف الشاك، أنت في أمان إذا تركت هذا الفعل الذي تشكّ في وجوبه، أو فعلت الفعل الذي تشكّ في حرمته. هذا التأمين هل يتوقف على إثبات المجعول ؟ تقدّم في أبحاث سابقة أنّه يكفي في إثبات التأمين وإثبات التنجيز وصول الجعل، أو نفيه، فإذا فرضنا أنّ الجعل وصل للمكلّف، بأي طريق من الطرق، علم بالجعل، أو ثبت عنده تعبّداً، وضُمّ إلى ذلك تحقق الموضوع هذا يكفي في إثبات التنجيز، كما أنّ عدم الجعل إذا وصل إلى المكلّف بالعلم الوجداني، أو بالعلم التعبّدي كما إذا قام عليه الاستصحاب، فأنّه يترتّب عليه التأمين، ولا يتوقف ترتّب التأمين على نفي المجعول، كما أنّ التنجيز لا يتوقف على إثبات المجعول، التنجيز يترتّب على وصول الجعل إلى المكلّف مع تحقق الموضوع، إذا علم المكلّف بحرمة شرب الخمر، وتحقق الموضوع خارجاً؛ فحينئذٍ يكون منجّزاً عليه، وتكون المنجّزية ثابتة بالعلم بالجعل، أو وصول الجعل مع فرض تحقق الموضوع، ويكفي في التأمين ــــــ الذي هو محل كلامنا ــــــ وصول عدم الجعل إلى المكلّف، من يعلم بعدم الجعل ـــــ العلم الأعم من العلم الوجداني، أو التعبّدي ـــــ يكون مؤمّناً، إذا علم بعدم الجعل ولو تعبّداً هذا يترتّب عليه التأمين، التأمين والمعذّرية والبراءة لا تتوقف على نفي المجعول حتّى نقول أنّ نفي المجعول باستصحاب عدم الجعل يكون من الأصول المثبتة؛ بل يكفي في إثبات التأمين والبراءة وصول عدم الجعل ولو كان وصوله عن طريق التعبّد الاستصحابي. فالاشتباه كان في أنّه فُرض أنّ الأثر ليس هو التأمين، وإنّما هو الاثار الأخرى التي تترتب على المجعول، وفعلية التكليف، فيرد هذا الإشكال، أمّا إذا قلنا أنّ الأثر هو إثبات التأمين، فمن الواضح أنّ غرضنا في محل الكلام هو إثبات البراءة والتأمين، وهذا شيء يترتب على نفي الجعل، أي على وصول عدم الجعل، فإذا أجرى المكلّف الاستصحاب في عدم الجعل، فهذا يعني أنّه وصل إليه عدم الجعل، أي أصبح عالماً تعبّداً بعدم الجعل، ومع عدم الجعل هناك تأمين بلا إشكال، عندما يثبت شرعاً، ويقال للمكلّف لم يجعل الشارع الحرمة في هذا الظرف، ويثبت هذا شرعاً، فهذا معناه أنّه يترتب على ذلك التأمين، فالأثر الذي يُراد إثباته هو عبارة عن المعذريّة والتأمين، وهذه لا تتوقف على نفي المجعول في محل الكلام، وإنّما يكفي فيها نفي الجعل، فإذا وصل نفي الجعل، فأنّه يكفي في إثبات التأمين بلا مثبتية؛ لأننّا لا نريد أن نثبت لازم عدم الجعل، ونفي الجعل، أي نفي المجعول؛ بل نكتفي بنفي الجعل نفسه، وتترتّب عليه المعذرية والتأمين والبراءة.
 


[1] أجود التقريرات، تقرير بحث النائيني للسيد الخوئي، ج 2، ص 216.
[2] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيّد الشاهرودي، ج 4، ص 65.