الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

34/08/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العملية/ أدلّة البراءة الشرعية/ الاستصحاب
 الاعتراض الثاني على التقريب الأوّل للاستصحاب هو ما قيل من أنّ هذا الاستصحاب يواجه مشكلة تعددّ الموضوع، أو عدم وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة، وهما شرط في جريان الاستصحاب، حيث يعتبر في جريان الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة، والاستصحاب في محل الكلام ليس كذلك، فلا يجري لهذا السبب، والسر في ذلك هو أنّ خصوصيّة الصبا والصغر المتحققّة في الصبي قبل البلوغ هي حيثية تعليلية، حيثية مقوّمة للإباحة الثابتة قبل البلوغ، وليست من الحالات الطارئة التي قد يتصف بها الموضوع، أو قد لا يتصف بها؛ بل هي حيثية مقوّمة لموضوع الإباحة الثابتة في الزمان السابق، فإذا كانت من الحيثيات المقوّمة، ومن الحيثيات التقييدية؛ حينئذٍ بعد البلوغ ترتفع هذه الحيثية، وبارتفاعها لا يبقى موضوع الإباحة المتيقن سابقاً، وقهراً بطبيعة الحال سوف ترتفع الإباحة الثابتة سابقاً بارتفاع موضوعها، والإباحة، أو عدم التكليف الثابت بعد البلوغ، لو ثبت، فهو يعتبر إباحة أخرى غير الإباحة السابقة، وعدم تكليفٍ آخر غير عدم التكليف الذي كان ثابتاً في مرحلة ما قبل البلوغ، فهو شيء آخر غيره، ولا يعتبر استمراراً له، وعدم التكليف بعد البلوغ ليس استمراراً لعدم التكليف الثابت قبل البلوغ؛ لأنّ عدم التكليف الثابت قبل البلوغ هو كان مقيّد بحيثية الصغر والصبا، يعني أنّ الإباحة ثابتة لموضوعٍ متقوّمٍ بحيثية الصغر، فإذا ارتفعت هذه الحيثية يرتفع الموضوع، ويرتفع عدم التكليف، أو نعبّر عنه بالإباحة، فالإباحة التي لو ثبتت بعد البلوغ سوف تكون مغايرة لها، وهذا هو معنى عدم وحدة الموضوع، فليس الموضوع واحداً؛ بل متعدّد، والقضية التي كنّا على يقينٍ منها غير القضية التي نشك في ثبوتها بعد البلوغ، فالمتيقّن سابقاً هو الإباحة المتقوّمة بهذه الحيثية، والمشكوك فيها ليست متقوّمة بهذه الحيثية، وإنّما هي إباحة مع افتراض ارتفاع هذه الحيثية، فمن هنا لا يجري هذا الاستصحاب.
 هذا كلّه يُدّعى باعتبار النظر العرفي، أي أنّ العرف يرى تعدّد الموضوع، والعرف يرى أنّ الحيثية المتيقنة غير الحيثية المشكوكة، والعرف يرى أنّ الإباحة الثابتة قبل البلوغ متقوّمة بحيثية الصغر وحيثية الصبا، وأنّ حيثية الصغر والصبا من الحيثيات المقوّمة للموضوع، وليست من الحالات، فإذا كانت مقوّمة يرد هذا الإشكال حينئذٍ.
 أضاف السيد الخوئي(قدّس سرّه) إلى هذا الاعتراض بما حاصله: حتّى لو تنزّلنا، ولم نجزم بأنّ حيثية الصبا حيثية مقوّمة، وحيثية تقييديّة بنحوٍ توجب تعدّد الموضوع، فلا أقل من احتمال أنْ تكون هذه الحيثية مقوّمة، وبالتالي توجب عدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، واحتمال ذلك يكفي في عدم جريان الاستصحاب؛ لأنّه يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، فإذا احتملنا أنّ هذه الحيثية مقوّمة، يعني احتملنا تعدّد القضية المتيقّنة والمشكوكة، يعني لم نُحرز وحدة القضيتين، وإذا لم نحرز وحدة القضيتين؛ فحينئذٍ لا يمكن إجراء الاستصحاب.
 والفرق بين هذا الاعتراض والاعتراض السابق هو أنّ من يُنكر الاعتراض السابق ويلتزم بوحدة العدم، حيث الاعتراض السابق كان يقول أنّ العدم متعدّد، وعدم التكليف الثابت بملاك اللاحرجية العقلية غير عدم التكليف الثابت مع قابلية المحل للتكليف، وإنّما ينشأ العدم من رفع الشارع للتكليف عنه، باعتبار الامتنان ونحوه بحديث رفع القلم ونحوه، هذا العدم غير هذا العدم، فهناك تعدّد في العدم، في الموضوع، هناك كان يُدّعى أنّ هذا التعدّد تعدّد حقيقي بالنظر الدقّي وبالتحليل، فمن ينكر ذاك ويدّعي أنّ هناك وحدة موضوع؛ لأنّ الاعدام لا تتعدّد إلاّ بتعدّد ما تُضاف إليه، أمّا إذا كان ما يُضاف إليه العدم شيئاً واحداً، لكن تعدّدَ الملاك، بأنْ كان العدم في البداية ثابتاً بملاك، وفي النهايةٍ ثابت بملاكٍ آخرٍ، لكن مع إضافته إلى شيءٍ واحدٍ، هذا لا يوجب تعدّد حتّى حقيقي في هذا العدم؛ بل العدم عدم واحد حقيقة وواقعاً. من يلتزم بذلك يدّعي أنّ التعدّد في المقام تعدّد بنظر العرف، وليس بالنظر الدقّي التحليلي؛ لأنّ العرف يرى أنّ حيثية الصبا حيثية مقوّمة لعدم التكليف، فإذا كانت مقوّمة لعدم التكليف؛ فحينئذٍ كأنّه يتعدّد العدم بالنظر العرفي المسامحي، وإنْ كان العدم لا يتعدّد بالنظر الدقّي التحليلي. فنرجع هذا الاعتراض إلى دعوى أنّ العرف يرى أنّ حيثية الصبا والصغر حيثية مقوّمة لعدم التكليف الثابت قبل البلوغ، فإذا ارتفعت هذه الحيثية فكأنّه ارتفع العدم الثابت قبل البلوغ وحلّ محلّه عدم تكليفٍ آخر غير ذلك العدم، ولو بالنظر العرفي.
 لكن يمكن التشكيك في صدق هذه الدعوى، وإدّعاء أنّ العرف لا يرى التعدّد في المقام؛ بل يرى أنّ هذا هو استمرار لذاك بالنظر العرفي المسامحي؛ ولذا يصح للإنسان البالغ أنْ يقول بأنّ هذا الشيء لم يكن حراماً عليّ قبل البلوغ، والآن كما كان، وهذا الكلام مقبولٌ عرفاً، وهذا معناه أنّ هذا استمرار لعدم التكليف الثابت سابقاً، هذا لم يكن حراماً عليّ، هو بنفسه يثبته الآن، لا أنْ يثبت عدم التكليف بنحوٍ آخر غير عدم التكليف الثابت عليه سابقاً، هذا تعبير عرفي، وهو صحيح بنظر العرف، وهذا معناه أنّ العرف يعتبر أنّ عدم التكليف الثابت بعد البلوغ هو استمرار لعدم التكليف الثابت قبل البلوغ، وليس شيئاً غيره، المُدّعى في الاعتراض أنّ العرف يرى أنّه شيء آخر، وأنّ هناك تعدّد في عدم التكليف، وتعدّد في الإباحة، فتلك إباحة وهذه إباحة أخرى، والإباحة الثانية ليست استمراراً لتلك الإباحة؛ ولذا يختل هذا الشرط من شرائط الاستصحاب، بينما عندما نراجع وجداننا العرفي نجد أنّ العرف لا يرى التعدّد؛ بل يرى أنّها استمرار لتلك الإباحة بالنظر المسامحي، وإنْ كان بالنظر الدقّي ليس هكذا، لكن بالنظر المسامحي يراه استمرار لعدم التكليف الأوّل، كما أنّه على رأيٍ أنّه بالنظر الدقّي أيضاً هو واحد وليس متعدّداً، لكن على كلا التقديرين النظر العرفي المسامحي كأنّه يراه امتداداً لذاك، وليس شيئاً آخر، هو نفس عدم التكليف الثابت سابقاً هو يثبته بعد البلوغ، لا أنّه يثبت شيئاً آخراً جديداً بعد ارتفاع الأوّل يثبت شيء جديد بعد البلوغ؛ بل الظاهر أنّ النظر العرفي بحسب ما يدركه الإنسان ليس هكذا.
 وبعبارة أكثر وضوحاً: لا يرى أنّ حيثية الصغر والصبا إلاّ من الحالات التي تطرأ على الموضوع الواحد، هو الموضوع الواحد نفسه تطرأ عليه حالتان، مرة يتغيّر ومرّة يرتفع عنه التغيّر، مرّة يكون عالماً، ومرّة يكون جاهلاً، هو نفس الموضوع الواحد، هذا من الحالات الطارئة غير المقوّمة للموضوع، والبلوغ وعدم البلوغ أيضاً هو بنظر العرف من الحالات الطارئة وليس من الحيثيات المقوّمة. وهذا هو الجواب عن الاعتراض الثاني.
 يُضاف إلى هذا أنّ الكلام في المقام ليس عن الإباحة حتّى يقال أنّ موضوعها متعدّد، أو غير متعدّد، الكلام ليس عن الإباحة الثابتة في حال الصغر، وإباحة تثبت بعد البلوغ حتّى نتحدّث عن أنّ موضوعهما واحد، أو متعدّد، و هل الصغر حيثية تقييدية في الإباحة الثابتة قبل البلوغ، أو أنّه حيثية تعليلية ؟ فإذا كانت تقييدية فمعناها أنّ الموضوع متعدّد، والإباحة بعد البلوغ تختلف، وأنّها غير الإباحة قبل البلوغ، وإذا كانت حيثيّة تعليلية فالموضوع واحد، ليس الكلام عن الإباحة، وإنّما الكلام في عدم التكليف، وكل الكلام الذي تكلّمنا به سابقاً وإنْ استخدموا لفظة الإباحة في كلماتهم، لكن ليس المقصود هو الإباحة، وإنّما المقصود هو عدم التكليف، والمتيقّن سابقاً هو عدم التكليف في زمان الصغر، ونستصحب عدم التكليف الثابت قبل البلوغ، ولو بنحو العدم الأزلي، وعدم التكليف ولو بنحو العدم الأزلي لا يحتاج إلى موضوع أصلاً، حتّى نقول أنّ موضوع عدم التكليف قبل البلوغ، وعدم التكليف بعد البلوغ واحد، أو متعدّد؟ هو استصحاب عدم، أي استصحاب عدم التكليف ولو بنحو العدم الأزلي كما هو الظاهر كذلك، فنقول أنّ هذا في حال صغره لم يكن مكلّفاً، ولو بنحو استصحاب العدم الأزلي، وهذا العدم لا يحتاج إلى موضوع، حتّى يُبحث عن أنّ هذا الموضوع متّحد، أو متعدّد، هذا إنّما نحتاجه عندما يكون الحكم من قبيل الإباحة، والوجوب؛ حينئذٍ نبحث عن أنّ الإباحة قبل البلوغ، والإباحة بعد البلوغ موضوعهما واحد، أو أنّ تلك الإباحة موضوعها الصبي، والصبا حيثية تقييدية، والإباحة الثانية موضوعها البالغ، بعد ارتفاع تلك الحيثية، فتكون إباحة أخرى غير الإباحة السابقة، هذا معقول، وكذلك الوجوب والحرمة....وهكذا. في محل كلامنا نحن لا نتكلّم عن الإباحة، وإنّما نتكلّم عن عدم التكليف، ولو بنحو العدم الأزلي، عدم التكليف متيقن في حال الصبا، وهو أمر عدمي لا يحتاج إلى موضوع حتّى ندخل في بحث أنّه موضوع واحد، أو متعدّد. وهذا هو الجواب عن الاعتراض الثاني على التقريب الأوّل للاستصحاب.
 
 48، 10