الموضوع: الأصول العملية/ أدلّة البراءة الشرعية/ الاستصحاب
كان الكلام في الاعتراض الثاني وجواب السيد الخوئي(قدّس سرّه) عنه، وقبل أنْ ندخل في جواب السيد الخوئي(قدّس سرّه)، نشير إلى أصل الاعتراض الثاني، يبدو من كلمات المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّه يريد أنْ يقول: أنّ إجراء استصحاب عدم التكليف لإثبات البراءة يلزم منه تحصيل الحاصل. ويبدو من كلامه أنّه يرى أنّ الإشكال واردٌ، سواء قلنا أنّ الأثر يترتب على الشك فقط، أو أنّ الأثر يترتب على الجامع بين الشك والواقع، في كلا الموردين يلزم من إجراء الاستصحاب تحصيل الحاصل، بينما لا يلزم هذا الإشكال إذا كان الأثر الذي يُراد إثباته بالاستصحاب أثراً للواقع فقط كما لو فرضنا أنّ جواز الاقتداء من آثار العدالة الواقعية، فإذا شككنا في عدالة شخصٍ، وكان سابقاً عادلاً، يجري استصحاب العدالة لإثبات الأثر، وهو جواز الاقتداء به، ولا يلزم تحصيل الحاصل؛ لأنّ هذا الأثر ليس ثابتاً بقطع النظر عن الاستصحاب حتّى يقال أنّه بإجراء الاستصحاب لإثباته يلزم تحصيل الحاصل؛ لأنّ هذا الأثر ليس من آثار الشك حتّى يقال هو ثابت، فإجراء الاستصحاب لإثباته هو تحصيل للحاصل، وإنّما هو من آثار الواقع، فإذا جرى الاستصحاب وأحرزت الواقع أُرتّب هذا الأثر ولا يلزم منه تحصيل الحاصل، وأمّا إذا كان الأثر أثر للشك فقط، أو للجامع بين الشك والواقع؛ فحينئذٍ يلزم من إجراء الاستصحاب تحصيل الحاصل.
هذا ظاهر كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه)، والظاهر أنّ مقصوده في ترتّب هذا الإشكال في صورة فرض كون الأثر أثراً للشك فقط، أنّه على تقدير أنْ نجري الاستصحاب لإثبات ذلك الأثر، هذا يلزم منه تحصيل الحاصل؛ لأنّ ذلك الأثر من آثار الشك، والشك موجود، فالأثر موجود، فإجراء الاستصحاب لإثبات ذلك الأثر يكون تحصيلاً للحاصل، ولا يريد أنْ يقول أنّ الاستصحاب يجري، لكن يمنع منه مسألة تحصيل الحاصل، وإنّما القضية تقديرية؛ لأنّه قد يقال: أنّ إجراء الاستصحاب عندما يكون الأثر أثراً للشك فقط، أصلاً لا مجال له، بقطع النظر عن مسألة تحصيل الحاصل، أصلاً لا معنى لإجراء الاستصحاب في المقام؛ لأننّا نفترض أنّ الأثر أثر للشك فقط، وليس أثراً لعدم التكليف وللشك، فأنا لا أثبت الشك حتّى يقال أنّ الاستصحاب يثبت موضوع الأثر فيترتب الأثر، وإنّما أثبت عدم التكليف بأنْ أجري استصحاب عدم التكليف، والأثر ليس من آثار عدم التكليف، وإنّما هو من آثار الشك في التكليف، وليس من آثار عدم التكليف حتّى يتعقَل جريان استصحاب عدم التكليف لإثبات ذلك الأثر ثمّ بعد ذلك نشكل عليه بأنّ هذا تحصيل للحاصل، أساساً الاستصحاب لا معنى له عندما يكون الأثر أثراً للشك؛ لأنّك تأخذ أثراً لشيءٍ، وأنت تستصحب شيئاً آخراً لإثبات ذلك الأثر الذي هو ليس أثراً للمستصحب، هذا لا معنى له.
المحقق النائيني(قدّس سرّه) ليس ناظراً إلى هذا، وإنّما يريد أنْ يقول: من يريد إجراء الاستصحاب لإثبات هذا الأثر يلزم تحصيل الحاصل، سواء كان هذا الأثر اثراً للشك، أو كان أثراً للجامع بين الشك والواقع، وحتّى في صورة كون الأثر أثراً للشك فقط، من يصر على إجراء الاستصحاب لإثبات هذا الأثر، هذا تحصيل للحاصل؛ لأنّ الشك موجود، فالأثر ثابت، فيكون إجراء الاستصحاب لإثبات ذلك الأثر تحصيلاً للحاصل، وإنْ كان الاستصحاب في حدِّ نفسه لا معنى لجريانه لما قلنا.
السيد الخوئي(قدّس سرّه) كما بيّنّا في الدرس السابق يقول: أنّ هذا الإشكال واردٌ في صورة ما إذا كان الأثر أثراً للشك فقط، يلزم تحصيل الحاصل. وأمّا إذا كان الأثر أثراً للجامع بين الشك وبين الواقع، فهنا لا يلزم من إجراء الاستصحاب تحصيل الحاصل؛ لأنّ المفروض أنّ الأثر أثر لكلٍ من الواقع والشك، فلا محذور من إجراء استصحاب عدم التكليف لغرض إثبات ذلك الأثر؛ لأنّ ذلك الأثر كما هو أثر للشك أيضاً هو أثر لعدم التكليف الواقعي، فلا مانع من إجراء استصحاب عدم التكليف لإثبات عدم التكليف الواقعي ظاهراً تعبّداً لكي يترتب عليه هذا الأثر.
فإنْ قلت: يلزم من هذا تحصيل الحاصل.
يقول(قدّس سرّه): هذا لا يلزم منه تحصيل الحاصل، فتحصيل الحاصل إنّما يلزم إذا لم يكن هذا الاستصحاب رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ الشك موجود، فالقاعدة موجودة وتثبت التأمين، فيكون إجراء الاستصحاب لإثبات التأمين تحصيلاً للحاصل. وأمّا حيث يكون الاستصحاب حاكماً على قاعدة البراءة العقلية، ورافعاً لموضوعها تعبّداً؛ لأنّك باستصحاب عدم التكليف تكون محرزاً لعدم التكليف، فلا يكون هناك شك بالتعبّد، فإذا ارتفع الشك ارتفع موضوع القاعدة، وإذا ارتفع موضوع القاعدة، فلا يكون هناك تأمين بالقاعدة، فالتأمين الذي يثبت ببركة جريان الاستصحاب لا يلزم منه تحصيل الحاصل . هذه خلاصة جواب السيد الخوئي(قدّس سرّه) عن الاعتراض الثاني، وهو يرى بأنّ ما نحن فيه هو من هذا القبيل، ما يُراد إثباته بالاستصحاب هو التأمين ونفي العقاب، وهذا ليس من آثار الشك فقط حتّى يلزم من إجراء الاستصحاب تحصيل الحاصل، وإنّما هو من آثار الجامع بين الشك وبين عدم التكليف، وعدم العقاب كما يترتب على الشك في التكليف بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، كذلك يترتب على عدم التكليف، فعدم التكليف أيضاً يثبت التأمين وعدم العقاب.
إذن: التأمين وعدم العقاب، وهو الأثر الذي يُراد إثباته بالاستصحاب هو من آثار الجامع بين عدم التكليف الواقعي ـــــــ وهو مقصودنا من الواقع عندما نقول الواقع في محل الكلام ـــــــ وبين الشك في التكليف، كل منهما يترتب عليه التأمين ونفي العقاب، وما نحن فيه هو من هذا القبيل. يقول (قدّس سرّه): وقد عرفت أنّ ما نحن فيه إذا كان من هذا القبيل لا يلزم من إجراء الاستصحاب لإثبات التأمين ونفي العقاب تحصيل الحاصل. لأنّه لا يوجد حاصل؛ لأنّ الاستصحاب حاكم على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ويظهر منه (قدّس سرّه) أنّه يريد أنْ يقول: الاستصحاب مع البراءة العقلية حاله حال الاستصحاب مع البراءة الشرعية، ومع قاعدة الطهارة، فلا نقول أننّا إذا أجرينا قاعدة الطهارة يلزم تحصيل الحاصل؛ لأنّ قاعدة الطهارة موجودة، والآثار تترتب بلا حاجة إلى ملاحظة الحالة السابقة، فقاعدة الطهارة هي التي تحكم بطهارة هذا الشيء، فلا يقال أننّا نستصحب الطهارة المتيقنة سابقاً لإثبات عدم العقاب، أو المعذرية؛ لأنّ المعذرية ثابتة بقاعدة الطهارة، فيلزم من إجراء استصحاب الطهارة تحصيل الحاصل واللّغوية؛ لأنّ طهارة الثوب ثابتة بقاعدة الطهارة، فيقول (قدّس سرّه): المانع منه هو من هذا القبيل، كما أنّه هناك لا إشكال في جريان الاستصحاب، ويكون حاكماً على قاعدة الطهارة، ورافعاً لموضوعها، ولم يستشكل أحدٌ في أنّه تحصيل للحاصل، فكذلك ما نحن فيه، كذلك الاستصحاب بالنسبة إلى قاعدة البراءة العقلية، وهكذا الحال بالنسبة للبراءة الشرعية، حيث لا أحد يستشكل في جريان الاستصحاب في موارد البراءة الشرعية، مع أنّ البراءة الشرعية أيضاً تثبت التأمين وعدم العقاب، لكن مع ذلك يجري الاستصحاب، ولا أحد يقول أنّ هذا الاستصحاب يلزم منه تحصيل الحاصل، وإنّما يجري الاستصحاب ويكون حاكماً على البراءة الشرعية، ورافعاً لموضوعها، وحاكماً على قاعدة الطهارة ورافعاً لموضوعها، وأيضاً في محل الكلام يكون حاكماً على البراءة العقلية ورافعاً لموضوعها، وفي كل هذه الحالات لا يلزم من جريان الاستصحاب تحصيل الحاصل.
لوحظ على هذا الكلام للسيد الخوئي(قدّس سرّه):
أولاً: ملاحظة اصطلاحية، أنّ الحكومة التي ذكرها لا تصح في محل الكلام، يعني في الاستصحاب بالنسبة إلى البراءة العقلية التي هي محل كلامنا. قد تصح في الاستصحاب بالنسبة إلى البراءة الشرعية، وفي الاستصحاب بالنسبة إلى قاعدة الطهارة، فيصح أنْ نقول أنّ الاستصحاب حاكم على هذه القواعد والأصول الشرعية، ورافع لمضمونها، والحكومة لها معنىً مقبول حينئذٍ؛ باعتبار أننّا نفترض أنّ هذه القواعد والأصول شرعية، وليست عقلية، فإذا كانت هذه القواعد والأصول شرعية، فهي بيد الشارع بما هو شارع، فيوسّع من موضوعها، أو يضيّق منه، فإذا رأى أنّ من المصلحة أنْ يضيّق من موضوعها، فأنّه يضيّق من موضوعها، وهذا هو معنى أنّ الاستصحاب يكون حاكماً على البراءة الشرعية، أو حاكماً على قاعدة الطهارة، بأنّ يرفع موضوعها، وهذا تضييق لموضوع قاعدة الطهارة، وهذا بيد الشارع؛ لأنّها قاعدة شرعية، فيجعل الشارع الدليل حاكماً على قاعدة الطهارة بأنْ يضيّق من موضوعها، ويجعل الاستصحاب حاكماً على قاعدة البراءة الشرعية بأنْ يضيّق من موضوعها، ويقول أنّها لا تشمل موارد وجود حالة سابقة، وهذا معناه أنّه يرفع موضوعها، هذه الحكومة معقولة، وهو معنى الرفع التعبّدي وتضييق دائرة الدليل المحكوم تعبّداً، فالحكومة تكون معقولة.
وأمّا بالنسبة للبراءة العقلية فلا معنى للحكومة فيها؛ لأنّها قاعدة عقلية صرفة ليس لها ارتباط بالشارع بما هو شارع، وليس موضوع هذه القاعدة بيد الشارع بما هو شارع، حتّى يوسّع من موضوعها، أو يضيّق منه، والحكومة تعني تضييق دائرة موضوع دائرة الدليل المحكوم، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقلية صرفة، وموضوعها ليس بيد الشارع حتّى نقول أنّ الشارع يجعل الاستصحاب حاكماً عليها، يعني رافعاً لموضوعها، لا معنى لهذا، فهذه قاعدة عقلية ولابدّ أنْ نرجع فيها للعقل، ونرى أنّ موضوع هذه القاعدة يرتفع بالاستصحاب أو لا ؟ فإذا كان لا يرتفع؛ فحينئذٍ لا يكون الاستصحاب مقدّماً على هذه القاعدة أصلاً، ويكون موضوعها محفوظاً حتّى مع جريان الاستصحاب، أمّا إذا أدرك العقل أنّ موضوع هذه القاعدة يرتفع بالاستصحاب؛ فحينئذٍ يكون الاستصحاب وارداً على القاعدة وليس حاكماً؛ ولذا قلنا أنّ هذه الملاحظة اصطلاحية، أنّ التعبير في المقام لا ينبغي أنْ يكون بالحكومة، وأنّ الاستصحاب يرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان تعبّداً، هذه الحكومة لا معنى لها؛ لأنّها قاعدة عقلية موضوعها ليس بيد الشارع بما هو شارع، وإنّما المعقول فيها الورود، على تقدير أنْ يكون موضوع القاعدة مرتفعاً بالاستصحاب، فإذا ارتفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالاستصحاب، فالاستصحاب يكون وارداً عليها وليس حاكماً. أمّا إذا قلنا بعدم ارتفاع موضوع القاعدة بالاستصحاب، فلا يكون الاستصحاب حاكماً، ولا وارداً عليها.
ثانياً: أنْ يقال أنّ الصحيح في المقام هو أنّ الاستصحاب ليس حاكماً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا وارداً عليها. أمّا أنّه ليس حاكماً فلِما تقدّم من انّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقلية وليست شرعية، وموضوعها ليس بيد الشارع بما هو شارع حتّى يجعل الاستصحاب رافعاً لهذا الموضوع تعبّداً، فالاستصحاب ليس حاكماً على القاعدة. كما أنّه ليس وارداً على القاعدة، بمعنى أنّ موضوع القاعدة يبقى محفوظاً بالرغم من جريان الاستصحاب، باعتبار أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان يمكن أنْ يُفسّر بتفسيرين، مرّة نقول أنّ موضوع القاعدة هو عدم البيان مطلقاً، يعني عدم البيان على التكليف، وعدم البيان على عدم التكليف، وهذا معناه أنّ البيان على التكليف يرفع موضوع القاعدة رفعاً حقيقياً، وليس تعبّدياً، فهنا الورود يتحقق، كما أنّ البيان على عدم التكليف أيضاً يكون رافعاً لموضوع القاعدة؛ لأنّ موضوع القاعدة هو عدم البيان مطلقاً، فالبيان مطلقاً يكون رافعاً لعدم البيان مطلقاً، سواء كان هذا البيان بياناً للتكليف، أو بياناً لعدم التكليف. بناءً على هذا يكون الاستصحاب وارداً؛ لأنّ استصحاب عدم التكليف الحجّة المعتبر يعتبر إحرازاً وبياناً لعدم التكليف، فيكون رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأننّا قلنا أنّ موضوعها كما يرتفع ببيان التكليف، يرتفع أيضاً ببيان عدم التكليف.
ومرّة نقول: أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو عدم بيان التكليف، أي كلّما لم يتم عندك بيان على التكليف فالبراءة العقلية تكون ثابتة، فإذا قلنا هكذا؛ فحينئذٍ تأتي الملاحظة الثانية التي تقول بأنّ هذا الموضوع لا يرتفع بالاستصحاب، وذلك أنّ موضوع القاعدة الذي هو عدم بيان التكليف يرتفع فقط ببيان التكليف، ولا يرتفع ببيان عدم التكليف؛ بل يبقى عدم بيان التكليف محفوظاً بالرغم من قيام البيان على عدم التكليف، فيصح أنْ نقول لم يتم البيان على التكليف، فبالرغم من جريان الاستصحاب، وبالرغم من أنّ الاستصحاب يعتبر بياناً على عدم التكليف يبقى موضوع القاعدة محفوظاً ولا يرتفع بجريان الاستصحاب، وهذا معناه أنّ الاستصحاب على هذا الوجه الثاني كما لا يكون حاكماً على البراءة كما قلنا، كذلك لا يكون وارداً عليها ورافعاً لموضوعها.
إذا تمّت هذه النتيجة؛ فحينئذٍ يسجّل هذا كاعتراضٍ على السيد الخوئي(قدّس سرّه) نفسه؛ لأنّ الاستصحاب لا يرفع موضوع القاعدة؛ بل موضوع القاعدة محفوظ، وهو عدم بيان التكليف، فإذا كان محفوظاً فلا معنى لأنْ نقول أنّ الاستصحاب يرفع موضوع القاعدة، ويرفع التأمين، فلا يلزم من إثبات التأمين بالاستصحاب تحصيل الحاصل، كيف ؟ وقد أثبتنا أنّ موضوع القاعدة محفوظ، فالقاعدة تجري، ويثبت بها التأمين، فترِد شبهة المحقق النائيني(قدّس سرّه) من أنّه مع ثبوت التأمين يكون إجراء الاستصحاب لإثباته تحصيلاً للحاصل. السيد الخوئي(قدّس سرّه) كان يريد أنْ يدفع هذه الشبهة بأنّ القاعدة ارتفعت، وأنّ موضوعها ارتفع، فالقاعدة لا تجري، فتكون محكومة للاستصحاب، وبالتالي لا يوجد تأمين مستفاد من القاعدة، فلا يلزم من إثبات التأمين بالاستصحاب تحصيل الحاصل، لكن الصحيح هو أنّ الاستصحاب لا يرفع موضوع القاعدة؛ لأنّ هذا الارتفاع مبني على افتراض أنّ موضوع القاعدة هو اللا بيان مطلقاً الذي يرتفع بالبيان على عدم التكليف كما يرتفع بالبيان على التكليف، بينما موضوع القاعدة هو عدم البيان على التكليف، والتأمين يثبت عند عدم البيان على التكليف، وهذا لا يرتفع بالاستصحاب الذي هو بيان على عدم التكليف، فيعود إشكال المحقق النائيني(قدّس سرّه) كما كان في السابق من أنّه يلزم من إجراء الاستصحاب تحصيل الحاصل.
والدليل على أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو عدم بيان التكليف، لا عدم البيان مطلقاً، هو أننّا نرجع إلى عقولنا؛ لأنّ هذه القاعدة هي قاعدة عقلية، وملاك هذه القاعدة هو حقّ الطاعة للمولى، في كل موردٍ يثبت له حق الطاعة؛ حينئذٍ يقول العقل لا مانع من العقاب، فالعقاب حينئذٍ لا يكون قبيحاً، وفي كل موردٍ ليس له حق الطاعة، فالعقل يقول بأنّ العقاب يكون قبيحاً، أي أنّ التكليف إذا لم يثبت للمولى حق الطاعة بالنسبة إليه، فهذا التكليف لا يوجب استحقاق العقاب، والعقاب عليه يكون عقاباً قبيحاً؛ لأنّ المولى ليس له حق الطاعة في مثل هذا التكليف، بقطع النظر عن التفاصيل، عندما نرجع إلى حق الطاعة باعتباره من مدركات العقل، حق الطاعة منوط بالوصول، فإذا وصل التكليف فأنّ حق الطاعة يكون ثابتاً، وبالتالي لا يكون العقاب على مخالفته عقاباً قبيحاً، أمّا إذا لم يصل التكليف، فحق الطاعة لا يكون ثابتاً، وبالتالي يكون العقاب على مخالفته عقاباً قبيحاً.
إذن: موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي هي مبنيّة على حق الطاعة هو عدم وصول التكليف وبيانه، التكليف الواصل فيه حق الطاعة، ويحق للمولى العقاب على مخالفته، والتكليف غير الواصل ليس فيه حق الطاعة، ويقبح العقاب على مخالفته. فموضوع القاعدة هو عدم بيان التكليف، وليس عدم البيان مطلقاً، بحيث يكون بيان عدم التكليف رافعاً لموضوع القاعدة، كلا، وإنّما موضوع القاعدة يبقى على حاله، ويقول: لم يصلك التكليف، وإنْ أحرزت عدمه، فإذا لم يصلك التكليف فأنا أحكم بالتأمين. غاية الأمر أنّ الاستصحاب إذا جرى، وقطعنا النظر عن مشكلة تحصيل الحاصل، فسوف يثبت تأميناً إضافياً غير التأمين الذي يثبت بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فيكون التأمين من جانبين، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان تثبت التأمين؛ لأنّ موضوعها محفوظ، وهو عدم وصول التكليف، واستصحاب عدم التكليف أيضاً يثبت تأميناً، هذا شيءٌ، وادعاء بأنّ الاستصحاب يرفع موضوع القاعدة شيءٌ آخر، والذي كان يقوله السيد الخوئي(قدّس سرّه) بأنّ الاستصحاب يرفع موضوع القاعدة، كلا؛ بل نقول أنّ موضوع القاعدة محفوظ، والاستصحاب يجري ـــــ بقطع النظر عن إشكال تحصيل الحاصل ـــــ ولا مانع من جريانه، والقاعدة محفوظة، فيثبت التأمين من طرفين، من جهة قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومن جهة استصحاب عدم التكليف. لكن هذا كما قلنا شيءٌ آخر غير ما يقوله من أنّ الاستصحاب يكون رافعاً لموضوع القاعدة حقيقة بحيث يكون وارداً على القاعدة.