الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

34/07/23

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية/ حديث السعة
 كان الكلام في حديث السعة وتطرّقنا إلى الرأي الأخير الذي يرى بأنّ التفصيل ينبغي أنْ يكون بين كون الإضافة المصرّح بها، بناءً على أنّ (ما) اسم موصول، أو المقدّرة بناءً على أنّ (ما) ظرفية زمانية، وينبغي أنْ يكون التفصيل بين كون الإضافة موردية، وبين كونها سببيّة، فإذا كانت الإضافة موردية، فالبراءة المستفادة من الحديث تكون معارِضة لأدلّة وجوب الاحتياط؛ لأنّها تجعل السعة والتأمين في مورد الحكم المجهول، بينما أدلّة الاحتياط تجعل الضيق ووجوب الاحتياط في نفس هذا المورد، وهو مورد الشك في الحكم الواقعي، فيتعارضان، وهذا هو المطلوب في البراءة في محل الكلام. وأمّا إذا كانت الإضافة سببيّة والتي تفسّر بأنّ الناس في سعةٍ من ناحية الحكم المجهول، فيكون مفادها نفي الضيق من ناحية الحكم المجهول، وهذا لا ينافي أنْ يكون هناك ضيق بأدلّةٍ أخرى، هذا ليس ضيقاً من ناحية الحكم الواقعي، وإنّما هو ضيق نشأ من قيام أدلّةٍ تدلّ على وجوب الاحتياط، فعليه لا يكون منافياً لأدلّة وجوب الاحتياط.
 ويمكن أن يلاحظ عليه: قد يقال أنّ التفريق بين كون الإضافة سببيّة، أو موردية خلاف ظاهر الحديث، باعتبار أنّ الحديث حسب ظاهره ينافي أدلّة وجوب الاحتياط، يعني السعة المستفادة من الحديث على كلا التقديرين، سواء كانت إضافة سببيّة، أو موردية، ينافي أدلّة وجوب الاحتياط. أمّا إذا كانت(ما) موصولة، والإضافة موردية، فبنفس البيان الذي ذُكر في الوجه السابق. وأمّا بناءً على أنّ (ما) أسم موصول والإضافة سببيّة، هنا ذُكر في الوجه السابق أنّ البراءة المستفادة من الحديث لا تنافي دليل الاحتياط؛ لأنّ البراءة المجعولة هي براءة من ناحية التكليف الواقعي المشكوك، وجعل السعة من ناحية التكليف الواقعي المشكوك لا ينافي دليل وجوب الاحتياط، هل صحيح أنّ دليل وجوب الاحتياط يجعل الاحتياط لا من ناحية الحكم الواقعي المشكوك ؟
 بعبارة أخرى: أنّ الضيق المنفي بحديث السعة من ناحية الحكم الواقعي المشكوك ليس هو شيئاً آخر غير وجوب الاحتياط، فيكون هو المنفي، فما ينفيه الحديث هو الضيق من ناحية الحكم الواقعي المشكوك، عندما يشك المكلّف في حكمٍ واقعي، يشك في حرمة شرب الخمر ـــــ مثلاً ــــــ هذا الحديث ينفي الضيق من ناحيته، ما هو الضيق الذي ينشأ من حكم واقعي مشكوك ؟ الضيق هو عبارة عن وجوب الاحتياط، فما ينفيه الحديث هو عبارة عن وجوب الاحتياط، وأدلّة وجوب الاحتياط هي تثبت وجوب الاحتياط، فيكون معارضاً لها. ولا نستطيع القول بأنّ أدلّة وجوب الاحتياط تثبت وجوب الاحتياط بقطع النظر عن التكليف الواقعي المشكوك، حتّى لا تعارض حديث السعة، بدعوى أنّ حديث السعة ينفي الضيق من ناحية التكليف الواقعي المشكوك، وهذا لا ينافي دليل وجوب الاحتياط، وكأنّ دليل وجوب الاحتياط يثبت الضيق لا من ناحية التكليف الواقعي المشكوك، ودليل وجوب الاحتياط يقول: لأنّك تشك بالتكليف ولا تعلم به أنا أجعل وجوب الاحتياط.
 وبعبارة أخرى: أنّ وجوب الاحتياط إنّما هو لمراعاة التكاليف الواقعية المحتملة واهتمام الشارع بها، ولأنّها كذلك أوجب الشارع الاحتياط لإدراك الواقع، ولإدراك الأحكام الواقعية المشكوكة. فإذن: لا يصحّ أنْ نقول أنّ دليل وجوب الاحتياط يجعل الاحتياط بقطع النظر عن التكليف الواقعي المشكوك؛ بل هو يجعل وجوب الاحتياط من ناحية التكليف الواقعي المشكوك، والمفروض أنّ الحديث بناءً على السببيّة يجعل السعة من ناحية التكليف الواقعي المشكوك.
 إذن: بلحاظ التكليف الواقعي المشكوك هناك حديثان متعارضان، أحدهما يجعل السعة، والآخر يجعل الضيق، فيتعارضان، كما هو الحال لو كانت الإضافة موردية، فالتنافي والتعارض بين الحديثين يكون ثابتاً حتّى لو كانت الإضافة سببيّة بالمعنى الذي ذكره. هذا إذا كانت(ما) موصولة.
 أمّا إذا كانت(ما) مصدرية زمانية فيكون تقدير الحديث هكذا(الناس في سعةٍ ما داموا لا يعلمون) هنا أيضاً إذا سلّمنا أنّ الإضافة مقدرّة، نقول لا فرق في هذه الإضافة المقدّرة بين أنْ تكون موردية، وبين أنْ تكون سببيّة، فإذا كانت موردية، فالتعارض بين الدليلين قائم كما ذكر؛ لأنّ الحديث يثبت السعة في هذا المورد، ودليل وجوب الاحتياط يثبت الضيق ووجوب الاحتياط في هذا المورد أيضاً، فيتعارضان في موردٍ واحد. وكذلك إذا كانت الإضافة سببيّة، فنقول أيضاً هناك منافاة بينهما، فالنكتة ليس هو كونها موردية أو كونها سببيّة؛ بل هي شيء آخر، هذه النكتة إذا كانت موجودة فلا فرق بين أنْ تكون الإضافة موردية أو سببيّة، وإذا لم تكن هذه النكتة موجودة، فلا تنافٍ أيضاً من دون فرقٍ بين الإضافة الموردية والإضافة السببيّة. وهذه النكتة هي أنّه بناءً على أنّ(ما) مصدرية زمانية، ما هو المراد بعدم العلم الذي وقع غاية لجعل السعة والتأمين ؟ هذه النكتة التي اُستفيدت من كلماتهم كما ذكرنا في الدرس السابق، أنّ عدم العلم هل هو عدم العلم المطلق ؟ أو هو عدم العلم بالتكليف الواقعي ؟ فإذا كان عدم العلم الذي جُعل غاية في الحديث الشريف(الناس في سعة ما داموا لا يعلمون) يعني إلى أنْ يعلموا، فنسأل: إلى أنْ يعلموا بماذا ؟ مرّة نقول إلى أنْ يعلموا بالتكليف الواقعي، فيكون مفاد الحديث هو(ما دمت لا تعلم بالتكليف الواقعي نجعل لك السعة)، وهذا المفاد يكون منافياً لدليل وجوب الاحتياط؛ لأنّ دليل وجوب الاحتياط يجعل الضيق، ويجعل وجوب الاحتياط ما دمت غير عالم بالتكليف الواقعي، فيكون موضوعهما واحداً، وكلٌ منهما يجعل حكمه في موضوعٍ واحدٍ وهو في حالة عدم العلم بالتكليف الواقعي، فإذا كان المقصود من عدم العلم هو عدم العلم بالتكليف الواقعي؛ حينئذٍ يتنافيان سواء كانت الإضافة المقدرّة موردية، أو كانت سببيّة، فيتنافيان حتّى لو كانت الإضافة سببيّة؛ لما قلناه من أنّ دليل وجوب الاحتياط في هذه الحالة أيضاً وهي حالة عدم العلم بالتكليف الواقعي، يجعل وجوب الاحتياط من ناحية التكليف الواقعي المجهول، بينما حديث السعة يجعل السعة والتأمين في هذه الحالة من ناحية التكليف الواقعي المشكوك. المهم هو أنّه ما هو الشيء الذي يكون الناس في سعةٍ ما داموا لا يعلمون به ؟ هل المراد هو ما داموا لا يعلمون بالتكليف الواقعي ؟ هذا يوجب التنافي بين الحديثين. أمّا إذا قلنا بأنّ المقصود به هو عدم العلم المطلق، أي ما دمت غير عالمٍ بالتكليف الواقعي، وبالتكليف الظاهري أيضاً، فكأنّ الحديث يقول: الناس في سعةٍ ما داموا غير عالمين بالضيق، وهذا الضيق تارة ينشأ من تكليفٍ واقعي، وتارة ينشأ من دليلٍ يدلّ على الضيق، يعني يدلّ على وجوب الاحتياط، فيكون موضوع البراءة هو عدم العلم بالتكليف الموجب للضيق واقعاً وظاهراً، وهذه البراءة تكون محكومة لدليل وجوب الاحتياط؛ لأنّ دليل وجوب الاحتياط يرفع موضوعها؛ لأنّ موضوعها هو عدم العلم بما يدلّ على الضيق مطلقاً، ودليل وجوب الاحتياط يدلّ على وجود العلم بالضيق، فيكون رافعاً لموضوع هذه البراءة، فلا تكون البراءة معارضة له؛ بل تكون محكومة له. فالمهم هو أنّه بناءً على أنّ(ما) مصدرية ماذا يراد بعدم العلم ؟ وليس المهم هو كون الإضافة موردية، أو سببيّة؛ لأنّه على كلا التقديرين النتيجة واحدة، فإذا قلنا بأنّ المراد بعدم العلم هو عدم العلم بالتكليف الواقعي، فالتعارض يكون موجوداً على كلا التقديرين، وإن قلنا بأنّ المراد به هو عدم العلم المطلق، فلا تعارض على كلا التقديرين.
 لا يبعد أنْ يكون المقصود بعدم العلم هو عدم العلم بالتكليف الواقعي بحسب ما يُفهم من الحديث الشريف، وليس عدم العلم المطلق، وذلك لأنّ مفاد الحديث الشريف بناءً على أنّ(ما) مصدرية زمانية، وبناءً على تقدير الإضافة، يكون مفاد الحديث هو أنّ الناس في سعةٍ من الشيء في حال الجهل به، وما داموا لا يعلمون به، والظاهر أنّ المقصود بالشيء هو الحكم المجهول والمشكوك، فالشيء لابدّ من تقديره، وهذا هو المقصود بالإضافة التقديرية، فالحديث الشريف يقول: ما دام الإنسان غير عالمٍ بالحكم الواقعي المشكوك فهو في سعة؛ حينئذٍ تكون هذه البراءة معارضة لدليل وجوب الاحتياط؛ لأنّ دليل وجوب الاحتياط يجعل الضيق في هذه الحالة، بينما حديث السعة يجعل السعة والتأمين في حالة عدم العلم بالتكليف.
 نعم إذا لم نفترض الإضافة ولم نقدّرها يمكن أنْ يقال بأنّ النتيجة تتغير، فأنّ مفاد الحديث حينئذٍ يكون هو نفي الضيق ما داموا لا يعلمون بالضيق؛ لأننّا لم نقدّر إضافة السعة، والمفروض أنّ (ما) مصدرية، فإذا أمكن هذا التفسير فيه؛ حينئذٍ لا يكون معارضاً لدليل الاحتياط، فأنّ الحديث ينفي الضيق عن المكلّف حيث يكون عالماً بالضيق، وهذا لا ينافي وجوب الاحتياط؛ لأنّ وجوب الاحتياط يوجب العلم بالضيق، وبذلك يكون حاكماً على هذا الحديث الشريف.
 لكنّ الظاهر أنّ الصحيح هو ما ذكرناه من أنّ ظاهر الحديث هو ــــــ بناءً على أنّ (ما) مصدرية ــــــ أنّ الإضافة مقدرة، (أنتم في سعةٍ) يُفهم من الحديث أنّ السعة هي من التكليف المشكوك، يعني انتم في سعة من ناحية التكليف الذي تشكّون فيه. (من الشيء المجهول) يعني من التكليف المجهول.(ما دمتم غير عالمين به). وهذه البراءة منافية لدليل وجوب الاحتياط ؛ لأنّها تجعل السعة مُغيّاة بعدم العلم بالتكليف الواقعي، وفي نفس هذا المورد دليل وجوب الاحتياط يجعل وجوب الاحتياط ما دمنا غير عالمين بالتكليف الواقعي. يبدو ـــــ والله العالم ـــــ أنّ هذا الحديث دال على البراءة على كل التقادير.
 حديث الحجب
 الحديث الآخر الذي ندخل فيه هو حديث الحجب(ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) ورد بهذا النص في رواية نقلها الشيخ صاحب الوسائل(قدّس سرّه)، عن التوحيد للشيخ الصدوق(قدّس سرّه)، يقول: وعن احمد بن محمد بن يحيى، عن أبيه، عن احمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضّال، عن داوود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم. [1]
 بقطع النظر عمّا سيأتي من وجود مشكلةٍ في الراوي المباشر الذي هو زكريا بن يحيى، توجد مشكلة في احمد بن محمد بن يحيى العطّار، بناءً على أنّ فيه مشكلة، وإلاّ إذا تجاوزنا هذه المشكلة كما يحتمل قوياً، فالسند من غير جهة الراوي المباشر يكون صحيحاً. لكنّ مشكلة احمد بن محمد بن يحيى في سند الشيخ الصدوق(قدّس سرّه)، لو كانت مشكلة يمكن تجاوزها بأنّ الشيخ الكليني روى نفس هذه الرواية، وبنفس الطريق مباشرة عن أبيه، يعني عن محمد بن يحيى العطّار، فالرواية موجودة في الكافي بسندٍ صحيح من غير جهة الراوي المباشر. [2]
 في بعض البحوث ذُكر بأنّ هذا السند تام، ويبدو أنّه ليس واضحاً تماميّة هذا السند باعتبار الراوي المباشر، واستشكل جماعة في السند، منهم المجلسي(قدّس سرّه) في مرآة العقول، علّق على هذا الحديث بأنّه مجهول، ويبدو أنّ السرّ في قوله(مجهول) هو من جهة عدم إمكان تشخيص الراوي المباشر الذي هو زكريا بن يحيى، والذي لا يُعلم هل هو الواسطي الثقة المنصوص على وثاقته، أو التميمي المنصوص على وثاقته أيضاً، والسرّ هو أنّ زكريا بن يحيى في محل الكلام نُصّ على أنّ كنيته هي(أبو الحسن)، وهذان الثقتان ممّن يسمى زكريا بن يحيى لم يُذكر في ترجمتهما أنّهما يُكنيان بأبي الحسن، وعادّة يُذكر هذا الشيء في الترجمة، ومن هنا يبرز احتمال أنْ يكون زكريا بن يحيى المُكنّى بأبي الحسن الذي هو المقصود في روايتنا هو غير زكريا بن يحيى الواسطي، وزكريا بن يحيى التميمي المنصوص على وثاقتهما.
 الشيخ صاحب الوسائل(قدّس سرّه) ينقل عن المختلف، والمختلف ينقل عن ابن أبي عقيل، يقول صاحب الوسائل(قدّس سرّه) : وروى ابن أبي عقيل على ما نقله العلامة عنه، قال: ذكر أبو الحسن زكريا بن يحيى، صاحب كتاب شمس المذهب، عنهم (عليهم السلام): أنّ الرجل إذا جامع في شهر رمضان عامداً فعليه القضاء والكفّارة، فأنْ عاود إلى المجامعة في يومه ذلك مرّة أخرى، فعليه في كل مرّة كفّارة. [3] ونفس هذا الشيء أيضاً ذُكر في معالم العلماء لأبن شهر آشوب تحت رقم 358، أيضاً ذكر أبو الحسن زكريا بن يحيى.
 فإذن: يبدو أنّ هناك شخصاً يُسمّى بزكريا بن يحيى، ويُكنّى بأبي الحسن، ومن المحتمل أنْ يكون هو الراوي في هذه الرواية، فإذا كان كذلك لا يمكن الجزم بأنّ زكريا بن يحيى في روايتنا هو الواسطي، أو التميمي الثقة؛ بل أكثر من هذا، فأنّ زكريا بن يحيى متعددّ جداً، فهناك الكثير ممّن يُسمّى بزكريا بن يحيى، فإذا لم نقل أنّ زكريا بن يحيى المُكنّى بأبي الحسن في هذا السند هو صاحب كتاب شمس المذهب، طبعاً في الواسطي والتميمي لم يُذكر له كتاب شمس المذهب، وإلاّ لو كان لذكر في ترجمتهما، لو لم نحتمل أنّ زكريا بن يحيى المكنّى بأبي الحسن في محل الكلام، لو قلنا أنّه غير من ذكره ابن شهر آشوب، أو من ذكره ابن أبي عقيل، وأنّه غيره، مع ذلك نقول لا يمكن تشخيص أنّه الواسطي، أو التميمي؛ لأنّه يكون مردداً بين الثقة وغيره، هناك عدّة أسماء طبقتها مناسبة ولم يُنص على وثاقتهم، ويُحتمل أنْ يكون زكريا بن يحيى هنا هو أحد هؤلاء الأشخاص، ولا أقل من أنّه مرددّ بين الثقة، الذي هو الواسطي، أو التميمي، وبين غيره. فإثبات أنّه هو الواسطي، أو التميمي مع عدم تصريح الكل عند ترجمتهما وقد ذكروا لهما ترجمة مفصّلة بأنّهما يكنيان بأبي الحسن لا يخلو من صعوبة.
 إذن: هناك كلام في سند هذا الحديث.


[1] وسائل الشيعة(آل البيت)، الحر العاملي، ج 27، ص 163، باب وجوب التوقّف والاحتياط في القضاء والفتوى، ح 33.
[2] الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 164، باب حجج الله على خلقه، ح 3.
[3] وسائل الشيعة(آل البيت)، الحر العاملي، ج 10، ص 55، باب وجوب تكرير الكفارة بحسب تكرير الجماع في الصوم، ح 2.