الموضوع:الأصول العملية/ البراءة الشرعية
ذكرنا في الدرس السابق ما يمكن أنْ يكون مستنداً لما ذكره السيّد الخوئي(قدّس سرّه) من أنّه يُعتبر في شمول حديث الرفع لموردٍ أنْ يكون في الرفع مِنّة على الأمّة، وهو القرينتان اللّتان ذكرناهما في الدرس السابق.
رتّبوا على هذا الكلام ثمرات:
منها: التفريق بين بيع المضطرّ، وبين بيع المُكره، فالتزموا بجريان الحديث في بيع المُكره، فيرفع صحّة المعاملة المُكره عليها؛ لأنّ فيه امتنان على المُكره، بينما قالوا أنّ الحديث لا يجري في بيع المضطر؛ لأنّ رفع الصحّة وعدم ترتّب الأثر على بيع المضطرّ ليس فيه امتنان على البائع؛ بل فيه خلاف الامتنان عليه.
ومنها: مسألة الإكراه على إيذاء شخص، أو قتل شخصٍ، هنا قالوا لا يجري الحديث لكي يرفع آثار القتل الصادر منه على نحو الاضطرار، أو الإكراه؛ لأنّ رفع هذه الآثار يوجب إلحاق الضرر بالمقتول وورثته، أو يوجب إلحاق الضرر بالمضروب.
ومنها: مسألة الضمان في موارد الإتلاف غير الاختياري، هنا أيضاً قالوا لا يشمله الحديث؛ لأنّ رفع الضمان فيه إضرار بآخرين، والحديث لا يشمل كل موردٍ يكون فيه إضرار على الآخرين، وإنْ كان فيه مِنّة وتخفيف على نفس الشخص الذي رُفع عنه ذلك الحكم.
قبل أنْ نبيّن ذلك نرجع إلى الاعتراض الذي نقلناه في الدرس السابق على قرينة الامتنان، كان الاعتراض يقول أننّا لا نفهم من الحديث الشريف الامتنان النوعي على الأمّة، وإنّما نفهم منه التسهيل فقط، والتسهيل ظاهر في التسهيل الشخصي، لا النوعي كما هو الحال في باب الحرج. وبعبارة أخرى: أنّ ما يُفهم من الحديث هو أنّ هذه الأمور مرفوعة عن العباد، والعلّة في رفعها هو التسهيل، وليس أكثر من هذا، والتسهيل هو مصلحة شخصيّة وليست نوعيّة، ففي كل موردٍ يكون في الرفع تسهيل وتخفيف عن شخص المكلّف يجري فيه الحديث، وإنْ استلزم خلاف الامتنان والتخفيف بالنسبة إلى شخصٍ آخر. وأمّا أنْ نقيّد شمول الرفع لموردٍ بما إذا لم يكن فيه خلاف الامتنان على آخرين، وإنْ كان فيه تسهيل وتخفيف وامتنان على كل من يجري الحديث في حقّه، فهذا لا يُفهم من الحديث.
أقول: يمكن الاستدلال على هذا الاعتراض بأنْ يقال: أنّ ظاهر الحديث أنّه في مقام التحببّ والتوددّ إلى الناس، وهذا مناسب لأنْ يكون المقصود به الامتنان النوعي؛ لأنّه ليس له علاقة خاصّة تربطه ببعض الناس دون البعض الآخر، فيرفع الحكم عن المجموع، والذي لازمه أنْ نحمل لفظ(الأمّة) على العام المجموعي، وهذا في الحقيقة يتوقّف على افتراض أنّ المراد بــ(الأمّة) المجموع، لا الانحلال والاستغراق، وهذا خلاف الظهور الأوّلي لكلمة(الأمّة) وأمثالها عندما ترد في الأدلّة، وحملها على العموم المجموعي هو الذي يحتاج إلى قرينة، فلو قال ـــــ مثلاً ـــــ تجب الصلاة على المكلّفين، فأنّ الذي يُفهم منه هو العموم الاستغراقي، وهكذا في أمثلةٍ أخرى من قبيل(أقمِ الصلاة)، و(كتب عليكم الصيام) فأنّ الذي يُفهم منها هو العموم الاستغراقي، لا العموم المجموعي، إلاّ بقرينة. فما ذُكر في هذا الشرط في شمول الحديث لموردٍ يبتني على افتراض أنّ المراد بكلمة(الأمّة) هو العموم المجموعي، لا العموم الاستغراقي والانحلال. وأمّا إذا فرضنا أنّ المراد به هو الانحلال؛ فحينئذٍ يكون المقصود به هو أنّ الشارع رفع هذه الأمور التسعة عن كل عبدٍ عبد، أي رُفع عن هذا العبد هذه الأمور التسعة ولا علاقة له بالغير، وحتّى إذا كان فيه خلاف الامتنان على الغير، ففي كل موردٍ يكون فيه مِنّة على عبدٍ، فأنّ الحديث يكون شاملاً له، من دون أنْ نلاحظ الامتنان على الأمّة حتّى نمنع من شمول الحديث لموردٍ يكون فيه خلاف الامتنان على آخرين، فمنع شمول الحديث لهذا المورد مبني على افتراض فهم العموم المجموعي والامتنان النوعي، وهذا لا قرينة عليه، وإنّما هكذا لفظ عندما يرِد في دليلٍ، فأنّ الظهور الأوّلي له هو الاستغراق والانحلال.
نعم الشيء الوحيد الذي يُدّعى كونه قرينة على هذا هو أنْ نفهم من الحديث أنّه في مقام التحببّ والتوددّ إلى الأمّة، وحيث أنّ علاقته على حدٍّ سواء، وبمستوً واحدٍ مع جميع الأمّة، فمن غير المتُصوّر أنْ يمنّ على شخصٍ بالرفع، ويضر آخرين، فلا معنى لأنْ يتوددّ إلى جماعةٍ من المكلّفين، وفي نفس الوقت يوقع خلاف التوددّ، والامتنان بآخرين، ومع ذلك يصدق عليه أنّه يتوددّ إليهم، وإنّما لابدّ من شمول الحديث لموردٍ أنْ يكون في الرفع مِنّة على الجميع، ولا يكفي أنْ يكون فيه امتنان على شخصٍ فقط، وإنْ كان فيه خلاف الامتنان على آخرين. هذه هي القرينة الوحيدة التي يمكن أنْ تُدّعى في المقام.
أقول: يمكن التشكيك في هذه القرينة، باعتبار أنّ الرفع في الحديث لم يصدر من النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهو لم يقل(رفعت)، أو(أنا أرفع عنكم هذه الأمور التسعة) كي نستظهر منها أنّه في مقام التوددّ والتحببّ إلى المكلّفين، وإنّما هو مخبر، حيث جاء بالحديث بصيغة المجهول(رُفع عن أمّتي) فهو مخبر وليس رافعاً، فلو كان هو الذي يرفع؛ فحينئذٍ يمكن أنْ نقول أنّه في مقام التوددّ والتحببّ، ويمكن أنْ نفهم الامتنان النوعي منه كشرطٍ آخرٍ في قبال الامتنان على الشخص نفسه، لكنّ الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في هذه الجملة هو مخبر، فكأنّه يقول أنّ الله(سبحانه وتعالى) رفع عن العباد هذه الأمور التسعة، ويكون حاله حال رفع أي تكليفٍ آخر عن العباد، فعندما يخبر النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ الإعادة مرفوعة ــــــ فرضاً ـــــ في حالة الشك بعد الفراغ، أو بعد خروج الوقت، فهو أخبار بأنّ هذا مرفوع عن العباد، وأنّ رفع الآثار في حالات الاضطرار هو شيء ثابت في الشريعة. نعم، لا يمكن إنكار بأنّ هذا فيه إشارة إلى وجود تسهيل وتخفيف، لكن كون التسهيل علّة للرفع شرعاً غير مسألة التوددّ والتحببّ إلى العباد، يعني عندما يرفع الآثار في حالات الاضطرار، والنسيان، والخطأ، هذا فيه تسهيل وتخفيف على العباد، لكن هذه المسألة شيء، ومسألة التوددّ والتحببّ شيء آخر، فهو ليس في مقام التوددّ، إنّما هو يريد أنْ يُخبر أنّ الله(سبحانه وتعالى) رفع عن العباد ما اضطرّوا إليه لغرض التسهيل عليهم، وهذا لا يُستفاد منه التوددّ والتحببّ، لكن يُفهم منه أنّ هناك مصلحة في التسهيل اقتضت الرفع، كما أنّ هناك مصلحة تسهيل تقتضي الرفع في موارد أخرى، ولا يُفهم من الحديث أكثر من هذا؛ لأنّ الرفع لم يصدر منه(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإنّما هو مخبر بتحقق الرفع في الشريعة.
ويمكن صياغة هذا المطلب ببيانٍ آخر، بأنْ يقال: هل التوددّ والتحبب إلى العباد من النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو من الله(سبحانه وتعالى) ؟ فإذا كان المقصود أنّه من نفس النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فمن الواضح أنّه يتوقّف على أنْ يكون الرفع صادر منه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيكون هو متوددّ ومتحببّ بذلك إلى العباد، لكن هذا لا يُفهم من الحديث؛ بل الذي يُفهم منه هو أنّ الرفع لم يصدر منه(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإنّما هو مخبر عن تحقق الرفع في الشريعة. وإذا كان المقصود أنّ التوددّ والتحببّ هو من الله(سبحانه وتعالى)، يعني أنّ الله(سبحانه وتعالى) يريد أنْ يتحببّ ويتوددّ إلى العباد في هذا الرفع، فهذا غير صحيح؛ لأنّ ما صدر من الله(سبحانه وتعالى) بحسب ما يُفهم من الحديث، هو مجرّد الرفع، وليس فيه توددّ وتحببّ، وهذا هو الذي أخبرنا به النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فمجرّد أنه رفع الآثار لا يفيد التوددّ والتحببّ، وإنّما يفيد رفع حكمٍ شرعي في موارد خاصّة. نعم، نسلّم أنّ فيه ظهور في أنّ هناك حكمة وعلّة في هذا الرفع، وهي عبارة عن مصلحة التسهيل، والتسهيل مصلحة شخصيّة وليست نوعيّة. فيمكن أنْ يُستدل على هذا الاعتراض بهذا الدليل. ولعلّ ما يؤيد هذا الاعتراض، هو ما ذُكر كدليلٍ عليه، وهو أنّ الحديث بناءً على ما ذكروه من مسألة اشتراط شمول الحديث لموردٍ أنْ يكون فيه امتنان نوعي؛ ولذا هو لا يشمل موارد الإكراه على القتل والضرب؛ لأنّ شمول الحديث لها فيه خلاف الامتنان على آخرين، لكنّه أيضاً لا يشمل بيع المكره؛ لأنّه ليس في رفع صحّة بيع المُكره ــــ الذي قالوا بشمول الحديث له ـــــ امتنان على الأمّة، وبناءً على الكلام الذي نقلناه عن السيّد الخوئي(قدّس سرّه) الذي يقول فيه: لا يكفي في الرفع أنْ يكون فيه امتنان على الشخص نفسه؛ بل مضافاً إلى ذلك لابدّ أنْ يكون فيه امتنان على الأمّة، فإذا أخذنا بحرفيّة هذا الكلام من دون أنْ نؤلّه ونفسّره كما سنقول، ينبغي بناءً على هذا الكلام أنْ لا يكون الحديث شاملاً لبيع المُكره الذي سلّموا بشمول الحديث له، وأنّه يرفع صحّة البيع فيه، بينما رفع صحّة بيع المُكره، وإنْ كان فيه امتنان على نفس المكره، لكن ليس فيه امتنان على الأمّة، فينبغي أنْ نقول حينئذٍ بعدم شمول الحديث له، ولعلّ الكثير من الموارد أيضاً يشملها هذا الكلام، ففي كل موردٍ يكون رفع الحديث فيه امتنان على نفس ذلك الشخص وليس فيه امتنان على آخرين، فحديث الرفع لا يكون شاملاً له، وهذا لا يمكن الالتزام به بلا إشكال.
نعم، يمكن الجواب عن هذا بأنْ يقال أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) يشترط في شمول الحديث لموردٍ أنْ لا يكون في الرفع خلاف الامتنان على آخرين، وليس أنْ يكون فيه مِنّة على الأمّة حتّى يجري فيه هذا الكلام، وإنّما أنْ لا يكون في الرفع خلاف الامتنان على آخرين، وهذا فيه خلاف الامتنان؛ ولذا لا يشمله الحديث.
الذي يتلخّص من هذا الكلام هو هذه النتيجة: أنّ الاستدلال بقرينة الامتنان ليس كما ينبغي، فلا إشكال أنّ الحديث يدلّ على مصلحة التسهيل، ولا يبعُد أنّ التسهيل مصلحة شخصيّة وليست مصلحة نوعيّة. ولا يشكل على هذا الكلام بأننّا ماذا نصنع في الحالات التي يكون فيها رفع الحكم عن شخصٍ خلاف الامتنان بالنسبة إلى آخرين، فبناءً على هذا الكلام حديث الرفع يجري فيها ويرفع التكليف، ولكنّه فيه خلاف الامتنان على آخرين. لأننّا نقول أنّ هذا يُعالج في كل موردٍ بحسابه، لكن بشكلٍ عامٍ لا يستفاد من الحديث الشريف أنّ المناط على الامتنان النوعي على الأمّة، وإنّما الذي يستفاد هو أنّ المناط على التسهيل الشخصي بالنسبة إلى من رُفع عنه الآثار أو الحكم الشرعي، فإذا كان فيه امتان فأنّ الحديث يجري فيه.