الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

34/06/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
 المورد الثاني: الذي قيل بظهور الثمرة بين الاحتمالين الثاني والثالث فيه، بشكلٍ عام، قالوا: أنّ الثمرة تظهر بهذا الشكل:
 بناءً على الاحتمال الثاني ــــــ الذي يلتزم بأنّ الرفع في الحديث الشريف هو رفع تشريعي للوجود الحقيقي لهذه العناوين ــــــ تثبت آثار وأحكام نقيض ما يضطر إليه المكلّف، الأعمّ من الفعل، أو الترك، فإذا كان ما يضطر إليه المكلّف هو الفعل، فتثبت آثار وأحكام نقيض الفعل، وإذا كان ما يضطر إليه المكلّف هو الترك، فتثبت آثار وأحكام نقيض الترك، وهو الوجود.
 وأمّا على الاحتمال الثالث ـــــ الذي يؤمن بأنّ الرفع في الحديث الشريف هو رفع حقيقي للوجود التشريعي في هذه العناوين ـــــ فحينئذٍ لا تثبت آثار وأحكام نقيض ما اضطر إليه، وإنّما فقط ترتفع آثاره وأحكامه.
 توضيحه: يُمثل له بمثالٍ واضح: عندما يكون ما يضطر إليه المكلّف هو الفعل، مثل(شُرب الخمر) ولنفترض أنّ جواز الائتمام بالشخص مشروط بأنْ لا يشرب الخمر، يعني أنّ(عدم شُرب الخمر) أُخذ موضوعاً لجواز الائتمام؛ حينئذٍ لا إشكال في أنّ الاضطرار إلى شرب الخمر يرفع آثار شُرب الخمر في حالة الاضطرار؛ إذ أنّ شرب الخمر له آثار، منها: الحرمة، والحدّ، والعقاب، فالحديث الشريف يقول عندما تشرب الخمر نسياناً، أو اضطراراً، فهذه الآثار المترتبة على شرب الخمر سوف ترتفع عنك. ولكنّ الكلام في أنّه هل تثبت أحكام وآثار نقيض ما اضطر إليه المكلّف، الذي هو شرب الخمر ؟ فأنّ نقيض شرب الخمر هو عدم شرب الخمر، ومن آثاره جواز الائتمام، فهل أنّ حديث الرفع هنا كما يرفع آثار ما اضطر إليه، هو يثبت آثار نقيضه ؟ بمعنى أنّ حديث الرفع كما يرفع الحرمة والعقاب والحدّ ـــــ التي هي آثار شرب الخمرـــــ عن المضطر إلى شُربه، فهل يثبت جواز الائتمام الذي هو من آثار ترك شرب الخمر ؟ حينئذٍ يقال:
 بناءً على الاحتمال الثاني، نلتزم بأنّ حديث الرفع عندما يشمل مورداً من هذه الموارد، فهو كما يرفع آثار ما يضطر إليه المكلّف، فهو يثبت آثار نقيض ما يضطر إليه؛ لأنّ الاحتمال الثاني يقول أنّ الرفع رفع تشريعي تعبّدي تنزيلي للوجود الحقيقي لهذه العناوين، وهذا يتضمّن ويستبطن تنزيل ما يضطر إليه المكلّف منزلة العدم، أو هو يعتبر ما يضطر إليه أمراً مرفوعاً. وعليه: يكون شرب الخمر الصادر عن الاضطرار مُنزّلاً من قِبل الشارع منزلة عدم الشرب؛ وحينئذٍ تترتب كل آثار عدم الشرب على الشرب الصادر اضطراراً، وهذا هو معنى تنزيل الشارع للفعل منزلة العدم، فتترتب آثار نقيض ما اضطر إليه؛ لأنّ الشارع تعبّداً، قال: أنّ هذا المكلّف، وإنْ شرب الخمر، لكن بما أنّه شربه عن اضطرارٍ، فهو بمنزلة من لم يشرب الخمر، أو قال: أنا اعتبره لم يشرب الخمر، وهذا معناه أنّ الآثار المترتبة على عدم شرب الخمر تثبت في المقام ببركة الحكومة.
 فإذن: كما يمكن نفي الحدّ، ونفي الحرمة عن هذا المكلّف في هذا المثال، كذلك يثبت جواز الائتمام به، وإنْ شَرِب الخمر؛ لأنّ الشارع نزّل هذا الشرب الاضطراري منزلة العدم، والترك.
 وأمّا إذا قلنا بالاحتمال الثالث: فلا يمكن إثبات هذا الأمر، وإنّما فقط يمكن نفي الآثار المترتبة على ما اضطر إليه؛ لأنّ الاحتمال الثالث يقول: أنّ الرفع رفع حقيقي، لكن للوجود التشريعي لهذه العناوين، يعني ما تضطر إليه، كشرب الخمر ــــ مثلاً ـــــ ليس له وجود في عالم التشريع، ولم يقع موضوعاً لحكمٍ شرعي، بمعنى أنّه لم يقع موضوعاً للحرمة كما هو الحال في حالة التعمّد والاختيار، وكذلك لم يقع موضوعاً للحدّ، أو أيّ شيءٍ آخر ممّا يترتب على شرب الخمر، وأمّا أثبات آثار نقيض ما تضطر إليه، فحديث الرفع لا يتكفل ذلك، وإنّما هو فقط رفع حقيقي للوجود التشريعي لهذه العناوين، وهذا لا يُفهم منه أكثر من عدم وقوع ما يضطر إليه المكلّف موضوعاً للأحكام الشرعيّة التي وقع الفعل الصادر عن الاختيار موضوعاً لها، وأمّا إثبات أحكام نقيض ما اضطر إليه المكلّف، فحديث الرفع لا يتكفّله.
 هذه هي الثمرة التي تظهر بين الاحتمال الثاني، والاحتمال الثالث، وهي ثمرة مهمّة؛ لأنّه على الاحتمال الثاني يمكن إثبات آثار نقيض ما يضطر إليه المكلّف، أمّا على الاحتمال الثالث، فلا يمكن ذلك.
 بعض تطبيقات المورد الثاني
 وهي المسألة المهمّة المعروفة التي قد تحصل للمكلّف، وهي أنّه في بعض العبادات قد يضطر المكلّف إلى ترك جزءٍ معتبرٍ في العبادة، أو يضطر إلى ترك شرطٍ معتبرٍ في العبادة، كما إذا اضطر إلى ترك السورة في الصلاة، أو اضطر إلى ترك الاستقبال في الصلاة، أو ترك الطهارة المعتبرة في الصلاة. وهذا من قبيل المثال السابق، ولكنّهما يختلفان في أنّه هناك اضطر إلى فعلٍ، بينما هنا اضطرّ إلى تركٍ، فقط هذا الفرق بينهما، وإلاّ نفس المثال السابق ــــ شرب الخمر ــــ يمكن تطبيقه في المقام، فيقال: بأنّ هذا المكلّف اضطر إلى ترك السورة، وترك السورة له آثار شرعيّة وقعت موضوعاً للحرمة، ولا إشكال على كلا الاحتمالين، أنّ هذه الحرمة ترتفع عندما يضطر المكلّف إلى ترك السورة. وبعبارة أكثر وضوحاً: ترك السورة في حال الاختيار وقع موضوعاً للحرمة؛ إذ يحرم على المكلّف ترك السورة بلا إشكال، أو بتعبيرٍ آخر: يجب على المكلّف في حال الاختيار أنْ يأتي بالصلاة مع السورة، فترك السورة وقع موضوعاً للحرمة، الذي هو عبارة أخرى عن وجوب الإتيان بالمجموع المركّب. هذا الترك الذي وقع موضوعاً للحرمة، عندما يصدر عن اضطرارٍ ترتفع عنه الحرمة، أي، أنّ الحرمة المترتبة على ترك السورة في حال الاختيار، سوف ترتفع إذا كان ترك السورة عن اضطرار، فلا يكون حراماً، ووجوب الصلاة مع السورة، أي، المجموع المركب من سائر الأجزاء وهذا الجزء، أيضاً يرتفع في حال الاضطرار. وكذلك في حالة الإفطار في شهر رمضان؛ إذ لا إشكال في أنّه حرام، وقد وقع موضوعاً للحرمة، إذا صدر عن اختيارٍ، أمّا إذا صدر عن اضطرارٍ، أو إكراهٍ؛ فحينئذٍ ترتفع عنه الحرمة. هذا على كلا الاحتمالين ـــــ الاحتمال الثاني، والاحتمال الثالث ـــــ يكون في محل الكلام نظير الحرمة في المثال السابق ــــ شرب المسكر ــــ حيث قلنا هناك بارتفاع الحرمة، والحدّ عنه إذا صدر عن اضطرار، هنا أيضاً يقال بأنّ الحرمة ترتفع، ويرتفع وجوب أداء الصلاة مع السورة، وترتفع حرمة ترك السورة على كلا الاحتمالين، لكنّ الكلام في أنّ هذا المكلّف المضطر إلى ترك السورة، هل يجب عليه الإتيان بالباقي ؟ وإذا جاء بباقي الأجزاء، فهل تصحّ صلاته، ولا يجب عليه القضاء ؟ هنا محل الكلام، وهنا تظهر الثمرة بين القولين، فهل يمكن إثبات وجوب الإتيان بالباقي ؟ وهل يمكن إثبات صحّة ما جاء به من الباقي، يعني لو صلّى من دون سورة ؟ وهنا لابدّ أنْ يكون الكلام بمقتضى القواعد، وليس بلحاظ الدليل الخاص، وإلاّ، بلحاظ الدليل الخاص لا إشكال في قيام الأدلّة على وجوب الإتيان بالباقي؛ لأنّ الصلاة لا تُترك بحالٍ من الأحوال. فالكلام ليس بلحاظ الأدلّة الخاصّة، وإنّما الكلام بلحاظ حديث الرفع من حيث إمكان التمسّك به لإثبات وجوب الإتيان بالباقي، وصحّة الباقي لو جاء به.
 قالوا أنّ هذا أيضاً يبتني على ما يُختار من الاحتمالين الثاني والثالث، فإنْ قلنا بالاحتمال الثاني، أمكن إثبات وجوب الإتيان بالباقي، وتصحيح الصلاة عند الإتيان بالباقي؛ لأنّ الاحتمال الثاني يعني الرفع التشريعي للوجوب الحقيقي لهذه العناوين، وقد قلنا أنّ هذا يستبطن تنزيل ما يضطر إليه المكلّف منزلة العدم، أو اعتباره معدوماً، ومرفوعاً، فهذا كما طبّقناه على شُرب الخمر المضطر إليه في المثال السابق لإثبات أحكام وآثار نقيض شرب الخمر ـــــ الذي هو ترك شرب الخمرـــــ وهو جواز الائتمام، فهنا أيضاً نطبّقه في الفرض الذي هو ترك السورة عن اضطرارٍ، فشمول الحديث له يعني التعبّد بالإتيان بالسورة، يعني تنزيل ترك السورة منزلة الإتيان بها، أو اعتبار التارك للسورة عن اضطرارٍ، كأنّه جاء بها، وتنزيل الترك منزلة الفعل، فكما أننّا في المثال السابق نزّلنا الفعل منزلة العدم، أو اعتباره معدوماً، فهنا أيضاً نريد أنْ نطبّقه، لكنْ نطبّقه على الترك، أي ترك السورة عن اضطرارٍ، وليس على الفعل، فحديث الرفع على الاحتمال الثاني ينزّل ما تضطر إليه منزلة العدم، فإذا اضطررت إلى الفعل، فأنّه ينزّله منزلة الترك، أمّا إذا اضطررت إلى الترك، أي اضطررت إلى ترك السورة، فأنّه ينزّله منزلة الفعل، فكأنّه ينزّله منزلة الإتيان بالسورة، ويترتب على ذلك وجوب الإتيان بالفعل، وصحّة الصلاة لو جاء بالباقي من دون السورة، على القاعدة بلا حاجةٍ إلى دليلٍ خاصٍ. هذا على الاحتمال الثاني.
 وأمّا إذا قلنا بالاحتمال الثالث؛ فحينئذٍ يكون من الصعب جدّاً إثبات صحّة الصلاة على القاعدة، ووجوب الإتيان بالباقي، فلاّبدّ من التماس دليلٍ خاصٍ لذلك؛ لأنّ الاحتمال الثالث يعني الرفع الحقيقي للوجود التشريعي، يعني أنّ أيّ شيءٍ تضطر إليه لن يقع موضوعاً لحكمٍ شرعي، يعني أنّ الأحكام المترتبة على ترك الجزء في حال الاختيار تنتفي عندما يترك المكلّف الجزء عن اضطرارٍ، أو إكراهٍ، فتنتفي هذه الآثار. فالمكلّف عند الاختيار يحرم عليه ترك السورة، ويجب عليه الإتيان بالصلاة مع السورة، وهذه الآثار ترتفع عندما يضطر إلى ترك الجزء، فلا يكون قد ارتكب الحرام، ولا يُخاطب بأنّه يجب عليك الصلاة مع السورة. وأمّا إثبات وجوب الإتيان بالباقي، وإثبات صحّته لو جاء به، فهذا ما لا يتكفّله حديث الرفع بناءً على الاحتمال الثالث، وإنّما هو فقط يرفع الوجوب التشريعي لما يضطر إليه المكلّف، وليس أكثر من ذلك، وليس فيه تنزيل ما تضطر إليه منزلة العدم، وليس فيه اعتبار المضطر إليه منزلة عدم الأمر المضطر إليه، حتّى يستفاد منه ترتيب صحّة الصلاة، أو وجوب الإتيان بالباقي. وهذه الثمرة المهمّة تظهر في باب العبادات. فما يُختار من هذين الاحتمالين يترتب عليه هذا الأثر، وهذه الثمرة في هذه الأمثلة، الاضطرار إلى شرب الخمر، والاضطرار إلى ترك جزء العبادة، أو ترك شرطها بلا فرقٍ بينهما.
 قد يُطرح إشكال في المقام: حيث يُدّعى في مقابل هذا أنّه حتّى على الاحتمال الثالث يمكن إثبات آثار نقيض ما يضطر إليه المكلّف، فإذا اضطر إلى ترك الجزء، تثبت آثار الإتيان بالجزء، التي هي صحّة الصلاة الفاقدة للسورة عن اضطرارٍ، وهذا يمكن إثباته بأنْ يقال: يوجد لدينا عناوين متعددّة، حيث يوجد لدينا عنوان وجوب السورة، لكنّه وجوب ضمني في ضمن المجموع؛ لأنّ كل جزءٍ يتعلّق به وجوب ضمني في ضمن المجموع. ويوجد لدينا عنوان جزئيّة السورة للصلاة، وهذا أيضاً حكم من الأحكام الشرعيّة، لكنّه حكم وضعي، وليس حكماً تكليفيّاً. ويوجد عنوان مُبطليّة ترك السورة للصلاة، وهذا أيضاً حكم شرعي، ولكنّه حكم وضعي، وليس حكماً تكليفيّاً، فيقال: بأنّ الوجوب الضمني للسورة، وجزئيّة السورة للصلاة، ومُبطليّة ترك السورة للصلاة، هذه أحكام شرعيّة ترتفع في حال صدور الترك اضطراراً، فالترك عندما يصدر من المكلّف في حال الاختيار يقع موضوعاً للوجوب، ويقع موضوعاً للحرمة، يعني ترك السورة في حال الاختيار حرام ومُبطل للصلاة، ومحكوم بالجزئيّة، بمعنى أنّ السورة هي جزء من الصلاة حتّى في حال تركها عمداً، واختياراً، فهناك جملة من الآثار تترتب على ترك السورة، ولكنّ هذه الآثار والأحكام ترتفع عندما يترك المكلّف السورة عن اضطرارٍ، وواحد من هذه الأمور التي ترتفع هي الجزئيّة، فجزئيّة السورة بالنسبة إلى الصلاة ثابتة في حال الاختيار، ولكنّ هذه الجزئيّة ترتفع في حال الاضطرار، بمعنى أنّ السورة ليست جزءاً في حال الاضطرار. وهكذا المُبطليّة، فترك السورة مبطل في حال الاختيار، لكنّ ترك السورة في حال الاضطرار ليس مبطلاً، وكون السورة ليست جزءاً في حال الاضطرار، يعني أنّ الصلاة تصحّ بدونها، يعني أنّ المركب سوف لن يتألّف من المجموع المركب من السورة وغيرها، وإنّما يتألّف من المجموع المركب من غير السورة، وقد جاء به المكلّف، ولازم رفع الجزئيّة في حال الاضطرار، هو صحّة الباقي، ولازم رفع مُبطليّة ترك السورة في حال الاضطرار هو صحّة الباقي. فإذن: يمكن إثبات صحّة الباقي استناداً إلى حديث الرفع حتّى على الاحتمال الثالث الذي يقول أنّ حديث الرفع يرفع فقط آثار ما يضطر إليه المكلّف، فحتّى على الاحتمال الثالث الذي يبني على أنّه لا تثبت آثار نقيض ما يضطر إليه المكلّف، وإنّما فقط ترتفع آثار ما يضطر إليه المكلّف.
 هذا المستشكل يقول: بأنّ ما يضطر إليه المكلّف في المقام هو ترك السورة، وترك السورة يقع موضوعاً لآثارٍ شرعيّة، من قبيل جزئيّة السورة، ومُبطليّة تركها، فمن آثار ترك السورة في حال الاختيار هو جزئية السورة بالنسبة للصلاة، فترتفع هذه الجزئيّة في حال الاضطرار، ومن آثار ترك السورة في حال الاختيار هو مبُطليّته للصلاة، فإذا صدر ترك السورة عن اضطرارٍ؛ فحينئذٍ ترتفع المبُطليّة حتّى على الاحتمال الثالث، بلا حاجة لأنْ يقال أنّ الحديث يستبطن إثبات آثار نقيض ما يضطر إليه المكلّف.
 فإذن: يمكن إثبات صحّة الصلاة التي يترك المكلّف السورة فيها عن اضطرارٍ، تمسّكاً بالحديث الشريف بلا حاجةٍ إلى دليلٍ خاصٍ.