الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
انتهينا في الدرس السابق من الكلام في القرائن التي تُذكر لإثبات اختصاص حديث الرفع بالشبهات الموضوعيّة، وما يُذكر في مقابله لإثبات اختصاص الحديث بالشبهات الحكميّة، وتبيّن أنّها ليست ناهضة لإثبات الاختصاص، وبعد الفراغ عن إمكان تصوير الجامع؛ حينئذٍ يقال: من الممكن أنْ نثبت عموم الحديث الشريف وشموله لكلتا الشبهتين، الحكميّة، والموضوعيّة تمسّكاً بإطلاق الحديث.
الآن، بعد أن فرغنا عن الأمرين السابقين:
الأمر الأوّل: أنّ الحديث الشريف يدلّ على البراءة.
الأمر الثاني: أنّ الحديث الشريف شاملٌ للشبهات الموضوعيّة، والشبهات الحكميّة، وهذا هو المهم في محل الكلام، أنْ نذكر دلالة الحديث الشريف على البراءة في الشبهة الحكميّة؛ بل حتّى في الشبهة الموضوعيّة.
فقه الحديث
الآن، ننتقل إلى بحثٍ آخرٍ يرتبط ببعض الجهات الأخرى الخارجة عن محل الكلام، أي خارجة عن باب البراءة، وعن الاستدلال بها على البراءة، لكنّها ترتبط بنفس الحديث. والكلام عن فقه الحديث يقع في جهات:
الجهة الأولى: أنّ الظاهر من الحديث الشريف هو نسبة وإسناد الرفع إلى الأمور المذكورة في الحديث الشريف، حيث نُسب الرفع إلى الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما اضطروا إليه، وما لا يطيقون ......الخ. وقد ذكروا بأنّه لا يمكن أنْ نلتزم بأنّ هذه الأمور مرفوعة حقيقة وواقعاً؛ لأنّها أمور واقعة، ومتحققّة في الخارج، فما معنى رفع ما أكرهوا عليه؟ وما معنى رفع ما لا يطيقون؟ وما معنى رفع ما فيه الخطأ، وما فيه النسيان؟ هذه أمور واقعة ومتحققّة في الخارج، فما معنى أنْ يُسند الرفع إليها، ويقال بأنّها مرفوعة؟ من هنا قالوا لابدّ من فرض وجود عناية تصححّ نسبة الرفع إلى نفس هذه الأمور المذكورة، وإلاّ، لو لم نُعمِل أيّ عنايةٍ من العنايات الآتيّة، لكان ظاهر الحديث هو رفع هذه الأمور حقيقةً بوجوداتها الحقيقيّة الواقعيّة. بينما هذا غير صحيح؛ لأننّا نعلم أنّ هذه الأمور متحققّة بوجوداتها الحقيقيّة في الخارج، فإذن: ما معنى رفعها؟ فلابدّ من فرض وجود عناية لتصحيح نسبة الرفع إلى اشياءٍ نحن نقطع بأنّها ليست مرفوعة. هناك ثلاثة احتمالات في هذه المسألة:
الاحتمال الأوّل: افتراض أنّ العناية هي التقدير، بمعنى أنْ نقدّر شيئاً يكون هو المرفوع حقيقةً وواقعاً، ولا مانع من نسبة الرفع إليه حقيقةً، فنبذل عناية التقدير، وهذا الشيء الذي نقدّره، ويكون هو المرفوع حقيقةً وواقعاً هل هو المؤاخذة، أو أنّه مطلق الآثار، أو أنّه الأثر الظاهر لكل فقرة من هذه الفقرات؟ هذا محل كلام، لكنْ المهم هو أنْ نقدّر شيئاً يكون هو المرفوع حقيقةً، فيكون معنى(رُفع ما اضطروا إليه) هو رُفعت المؤاخذة على ما تضطر إليه، أي لا مؤاخذة، أو رُفعت الآثار ــــ مثلاً ــــ فالآثار هي التي ترتفع، سواء كانت مطلق الآثار، أو أثراً معيّناً، المهم هو أنّ المرفوع هو الأثر، أي أثر ذلك الشيء، لا نفس ذلك الفعل الذي هو متحققّ في الخارج.
الاحتمال الثاني: أنْ لا نفترض التقدير؛ بل الرفع نُسب إلى هذه الأمور، فما اضطروا إليه ــــ مثلاً ــــ هو الذي نُسب إليه الرفع، لكنّه يفترض أنّ العناية في نفس الرفع، فلا تقدير، والمراد بهذه العناوين هي الوجودات الحقيقيّة الخارجيّة لهذه العناوين، لكنّ الرفع ليس رفعاً حقيقيّاً، فالعناية تكون في الرفع، أي أنّه رفع تعبّدي، أو تنزيلي، أو تشريعي، فالرفع ليس رفعاً حقيقيّاً، هو لا يرفع هذه الأمور بوجوداتها الحقيقيّة حقيقةً، وإنّما يرفعها تشريعاً، وتنزيلاً، وتعبّداً، فالعناية تُبذل في جانب الرفع من دون تقدير، ومن دون عنايةٍ في جانب هذه العناوين، بأنْ يكون المقصود بها هي الوجودات الحقيقيّة الخارجيّة لهذه العناوين، لكنْ رفعها ليس رفعاً حقيقيّاً، وإنّما هو رفع تنزيلي، تعبّدي، تشريعي. وهذا من قبيل الأدلّة(لا ربا بين الوالد وولده)، أو(لاشكّ لكثير الشكّ) ومن أمثال هذه الأدلّة الناظرة إلى رفع الموضوع. يعني بناءً على الاحتمال الثاني يكون الحديث من هذا القبيل؛ لأنّ الحديث يرفع هذه الموضوعات، يرفع ما اضطروا إليه، ويرفع ما أكرهوا عليه، يعني أنّه يرفع نفس ما أكرهوا عليه بوجوده الحقيقي، لكنّ رفعه ليس رفعاً حقيقيّاً من قبيل(لا ربا بين الوالد وولده)، فالربا بين الوالد والولد متحققّ في الخارج، وهو حقيقة ربا، لكن هذا الوجود الحقيقي للربا بين الوالد والولد يرفعه الشارع رفعاً تعبّديّاً، تشريعيّاً، تنزيليّاً، وينزله منزلة العدم، وليس الرفع حقيقياً، لكن الوجود هو الوجود الحقيقي للربا، والوجود الحقيقي لما اضطروا إليه...وهكذا في سائر الفقرات.
الاحتمال الثالث: أنْ تكون العناية في جانب المرفوع، لا في جانب الرفع، بأنْ نقول بأنّ الحديث الشريف ليس فيه تقدير؛ بل الرفع منسوب إلى نفس هذه الأمور، لا إلى شيءٍ مقدّر، كما أنّ الرفع رفع حقيقي، وليس عنائيّاً، أو تعبّدياً، أو تنزيليّاً، لكنّه ليس رفعاً حقيقيّاً للوجود الحقيقي لهذه العناوين، وإنّما هو رفع حقيقي للوجود التشريعي لهذه العناوين. والفرق بينه وبين الاحتمال الثاني واضح، حيث هناك كان الرفع رفعاً تشريعياً غير حقيقي للوجود الحقيقي لهذه العناوين، بينما في الاحتمال الثالث هو رفع حقيقي، وليس تشريعيّاً، لكن للوجود التشريعي لهذه العناوين، والذي معناه بحسب الواقع والحقيقة ما قلناه سابقاً من أنّ هذه الموضوعات لم تقع موضوعاً للحكم الشرعي، يعني أنّ الشارع في عالم التشريع لم يرتّب عليها أحكاماً شرعيّة، هذا هو معنى الرفع الحقيقي للوجود التشريعي لما اضطروا إليه، الفعل الذي تضطر إليه لم يرتب عليه الشارع في عالم التشريع أحكاماً شرعيّة، ولم يجعله موضوعاً للحرمة، أو موضوعاً للكفّارة، وسائر الآثار الأخرى التي تترتب على نفس ذلك الفعل إذا صدر في حال العمد والاختيار، لا في حال الاضطرار، ومرجعه بحسب الحقيقة إلى نفي الحكم، والآثار. ونظير هذا (لا رهبانيّة في الإسلام)، وليس نظير(لا ربا بين الوالد وولده) حيث هنا يرفع الموضوع رفعاً تعبّدياً، تنزيلياً، أي يُنزّل الربا الواقع بين الوالد والولد منزلة العدم. بينما مثال(لا رهبانية في الإسلام) يُفهم منه أنّه رفع حقيقي للرهبانية، لكنّه رفع لوجودها التشريعي في الإسلام، يعني في عالم التشريع لا وجود للرهبانيّة، ولا يريد أنْ يرفع الرهبانيّة بقولٍ مطلقٍ، كما في(لا ربا بين الوالد والولد)؛ بل أنّ الوجود التشريعي للرهبانية لا وجود له في عالم التشريع، بمعنى أنّها لم تقع موضوعاً لحكم شرعي.
والكلام في المقام يقع في أمور:
الأمر الأوّل: في بيان الثمرة العمليّة التي تترتب على هذه الاحتمالات.
الأمر الثاني : أيّ هذه الاحتمالات هو الأصح؟
أمّا بالنسبة إلى الأمر الأوّل، فيقال: أنّ الكلام تارة في الثمرة بين الاحتمال الأوّل في مقابل الاحتمالين الثاني والثالث، وأخرى في الثمرة بين نفس لاحتمالين الثاني والثالث.
أمّا بالنسبة إلى الثمرة التي بين الاحتمال الأوّل من جهة، وبين الاحتمالين الأخيرين من جهة أخرى، فيقال: بناءً على الاحتمال الأوّل ــــ أنّ المرفوع أمر مقدّر، والرفع يُنسب إليه في الحقيقة لا إلى هذه العناوين ــــ سوف يكون الحديث مجملاً من ناحية المقدّر المرفوع؛ إذ لا نعلم أنّ المقدّر المرفوع ما هو؟ هل هو عبارة عن جميع الآثار؟ أو هو عبارة عن خصوص المؤاخذة ؟ فلا نستطيع أنْ نعيّن على طبق الحديث أنّ المرفوع هو تمام الآثار، كما لا نستطيع أنْ نعيّن أنّ المرفوع هو خصوص المؤاخذة. نعم، قد نعيّن أنّ المؤاخذة مرفوعة من باب التمسّك بالقدر المتيقّن، وليس استظهاراً من الدليل، فالحديث مجمل من ناحية الاستظهار، ومرددّ بين أنْ يكون المقدّر هو تمام الآثار، أو هو خصوص المؤاخذة؟ هذا إذا بنينا على الاحتمال الأوّل. أمّا لماذا يكون الحديث مجملاً على هذا الاحتمال؛ فلأنّ تعيين ما هو المقدّر عندما يدور أمره بين مطلق الآثارــــ مثلاً ــــ وبين أثرٍ معيّن، لنفترضه المؤاخذة، تعيين أحد الأمرين الذين يدور المقدّر بينهما يكون بإحدى طريقتين، وكل منهما لا يمكن إجراءها في محل الكلام؛ ولذا ننتهي إلى نتيجة الإجمال بناءً على الاحتمال الأوّل:
الطريقة الأولى: أنْ نُحكّم مناسبات عرفيّة في المقام لتشخيص أنّ المرفوع المقدّر هو هذا، كما حُكّمت هذه المناسبات في قوله تعالى:(حُرّمت عليكم أمّهاتكم)
[1]
مما أسند فيه التحريم إلى نفس العين. هنا قالوا أنّ الأثر المقدّر المحرّم هو (نكاحها) بمناسبات الحكم والموضوع. أو حينما يقال:(حُرّمت عليكم الخمر) هناك العرف يفهم أنّ الأثر المقدّر التي تنسب إليه الحرمة في الواقع والحقيقة هو عبارة عن (شرب الخمر).....وهكذا. هذه المناسبات العرفيّة التي تعيّن أحد الاحتمالين غير موجودة في محل الكلام، فمحل الكلام ليس من قبيل(حرّمت عليكم أمهاتكم)، أو (حرّمت عليكم الخمر)، وإنّما في الحديث(رفع ما لا يعلمون) هناك شيء مقدر يدور أمره بين دائرة واسعة ودائرة ضيقة، ولا توجد مناسبة عرفيّة تحتّم إرادة هذا، ولا مناسبة عرفيّة تحتّم إرادة ذاك، كما هو الحال في الآية الشريفة المتقدّمة؛ كل منهما مناسب أنْ يكون هو المقدّر، فيمكن أنْ يكون المرفوع هو تمام الآثار للفعل المضطر إليه، ويمكن أنْ يكون المرفوع هو خصوص المؤاخذة، وليس هناك مناسبات عرفيّة واضحة تعيّن هذا الاحتمال في مقابل هذا الاحتمال، أو بالعكس. ومن هنا لا يمكن الاستناد إلى ذلك لتعيين ما هو المقدّر المحذوف. هذا بالنسبة إلى الطريق الأوّل، وقد تبيّن أنّه غير متحققّ في المقام.
الطريق الثاني: أن نتمسّك بقاعدة أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم، فيقال أنّ متعلّق الرفع في المقام حُذف ــــ بناءً على التقديرــــ ولم يُذكر، وحذف المتعلّق يُستفاد منه العموم، وبذلك نشخّص أنّ المقدّر المرفوع هو تمام الآثار، لا خصوص هذا الأثر، فنستعين بهذه القاعدة.
ولكن يُقال: لا يصح إجراء هذه القاعدة في محل الكلام؛ لأنّ هذه القاعدة في الحقيقة في روحها ترجع إلى التمسّك بالإطلاق، وإنّما يصح التمسّك بالإطلاق لغرض نفي قيدٍ زائدٍ عن المفهوم الذي يُفهم من الكلام، يعني عندما يكون المفهوم محددّاً، وذُكر في كلام المتكلّم، ونشكّ في اعتبار قيدٍ زائدٍ فيه؛ فحينئذٍ تكون وظيفة الإطلاق هي نفي القيد الزائد، فإذا قال(اعتق رقبة) فهنا يوجد مفهوم محددّ تكلّم به المتكلّم وهو(رقبة)، فإذا شككنا في اعتبار قيدٍ زائدٍ في هذه الرقبة، فأننّا ننفي اعتبار هذا القيد الزائد بالإطلاق. وأمّا إذا فرضنا أساساً أنّ المفهوم غير محددّ، ودائر بين هذا وهذا، فالإطلاق لا يحددّ أحد المفهومين؛ بل أنّ وظيفته فقط هي نفي القيد الزائد عن المفهوم المحددّ والمعيّن، أمّا عندما لا يكون المفهوم محددّاً ومعيّناً، ولا ندري هو ماذا قال؟ هل قال هذا، أو قال ذاك؟ أفرض أنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، بأنْ كان أحد المفهومين أوسع دائرة من المفهوم الآخر، لكنْ هو لا أدري ماذا قال، كما إذا تكلّم بكلامٍ ـــــ مثلاً ـــــ وأنا لم أسمع كلامه، فاحتملت أنّ الأمر دار بين أنْ يكون قال(أكرم العالِم)، أو قال(أكرم الفقيه)، فهنا أيضاً توجد دائرة واسعة، ودائرة ضيّقة، فلا استطيع أنْ اتمسّك بالإطلاق لإثبات الدائرة الواسعة، وأنّه قال(أكرم العالم)؛ لأنّ هذه ليست وظيفة الإطلاق. ومحل الكلام هو من هذا القبيل؛ لأننّا نفترض في المقام وجود محذوفٍ مقدّرٍ، والمقدّر بحكم المذكور، لكننّي لا أعرف ما هو هذا المقدّر، فيكون تماماً من قبيل ما إذا تكلّم بكلام لم أسمعه، وهذا يدور أمره بين دائرة ضيّقة، ودائرة واسعة، فلا يستطيع الإطلاق في المقام أنْ يُحددّ أنّ المراد والمقصود هو المفهوم الواسع دائرة، يعني تمام الآثار في قبال أنْ يكون المقدّر هو خصوص المؤاخذة.
فإلى هنا يتبيّن أنّه بناءً على الاحتمال الأوّل: يكون الحديث مجملاً من ناحية تعيين ما هو المقدّر المحذوف. أمّا قاعدة(حذف المتعلق يفيد العموم) فيمكن ادّعاءها وتصحيحها ببيانٍ بسيطٍ مبني على ادّعاء أنّ ذكر المتعلّق بمنزلة القيد، وعدم ذكر المتعلّق بمنزلة عدم ذكر القيد عرفاً، أي أنّ العرف يفهم أنّ ذكر المتعلّق هو بمنزلة القيد، وعدم ذكره هو بمنزلة عدم القيد. فإذا استقربنا هذا؛ فحينئذٍ يكون الاستدلال بالإطلاق تامّاً في المقام؛ لأننّا نستطيع أنْ نطبّق على المتكلّم قاعدة الإطلاق والتقييد، فلو أراد المقيّد لبيّنه، والمفروض أنّ المقدّر قيد، فإذا لم يذكر القيد ــــ المقدّر ــــ فمقتضى إطلاق كلامه أنّه لا يريد القيد، ونحن لا نريد أكثر من أنّه لم يذكر القيد، إذن، هو لا يريد القيد، فيثبت الإطلاق بذلك. لكن هذا بناءً على أنّ هذا الشيء المقدّر المحذوف هو بمثابة القيد في نظر العرف، يعني لو فرضنا أنّ المؤاخذة هي المقدّرة، فهي بمثابة القيد، فقوله(رفع ما لا يعلمون)، يعني أنّ الذي يُرفع هو خصوص المؤاخذة، لا مطلق الآثار، في مقابل أنْ يكون المرفوع هو مطلق الآثار. فإذن: هذا قيد، ولو كان قد أراد المقيّد لذكر القيد، يعني لو كان واقعاً يريد أنْ يرفع خصوص المؤاخذة، فعليه أنْ يذكر هذا القيد في كلامه، فيقول(رُفعت المؤاخذة على هذه الأمور)، فإذا لم يذكر هذا القيد، نستكشف من ذلك الإٌطلاق. فإذا تمّ هذا المطلب؛ فحينئذٍ ننتهي إلى نتيجةٍ معاكسةٍ، وهي أنّه بناءً على الاحتمال الأوّل لا يكون الكلام مجملاً؛ لأنّ الثمرة تُبيّن بهذا الشكل: أنّه على الاحتمال الأوّل يكون الكلام مجملاً من حيث المقدّر، بينما على الاحتمالين الثاني والثالث يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات انتفاء جميع الأحكام والآثار، وهذه ثمرة عمليّة مهمّة. أمّا إذا قلنا بأنّه يمكن التمسّك بقاعدة أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم؛ فحينئذٍ سوف يثبت عندنا الإجمال حتّى على الاحتمال الأوّل، وإمكان التمسّك بالإطلاق حتّى على الاحتمال الأوّل، فضلاً عن الاحتمال الثاني والثالث، فلا تكون هذه الثمرة ظاهرة.
أمّا إمكان التمسّك بالإطلاق لإثبات أنّ المقدّر هو جميع الآثار، لا خصوص المؤاخذة فهو واضح على الاحتمالين الثاني والثالث، سواء قلنا بالاحتمال الثاني، أو قلنا بالاحتمال الثالث، فعلى كل تقدير يمكن التمسّك بإطلاق الكلام لنفي جميع الآثار.
أمّا على الاحتمال الثاني الذي يقول بأنّ الرفع تنزيلي، وأنّ العناية في الرفع، لا في المرفوع، من قبيل(لا ربا بين الوالد وولده) معناه أنّ هذه الأمور في الحديث الشريف، ما اضطروا إليه، الفعل الذي تضطر إليه، يرفعه رفعاً تعبّدياً تنزيلياً، فإذا رفع الفعل الذي تضطر إليه تشريعاً، فمقتضى إطلاق هذا الرفع التشريعي هو الرفع التشريعي بلحاظ تمام الآثار، وليس يرفعه تشريعاً بلحاظ أثرٍ، ويبقيه تشريعاً بلحاظ أثرٍ آخر، هذا خلاف الإطلاق التشريعي. إذن: مقتضى إطلاق الرفع التشريعي هو رفع هذه الوجودات بلحاظ تمام الآثار؛ لأنّ هذا مقتضى إطلاق الرفع التشريعي عندما يتعلق بواحدٍ من هذه العناوين المذكورة.
ونفس الكلام يقال بالنسبة للاحتمال الثالث، فعلى الاحتمال الثالث لعلّ القضيّة تكون أوضح، باعتبار أنّ الاحتمال الثالث يقول أنّ العناية مبذولة في جانب المرفوع، فالرفع حقيقي للوجود التشريعي لما اضطروا إليه، يعني ما اضطروا إليه ليس له وجود في عالم التشريع، ومقتضى إطلاقه هو أنّه ليس له وجود بلحاظ تمام الآثار الثابتة لهذا الفعل بقطع النظر عن الاضطرار، كل أثر ثابت لهذا الفعل، شرب الخمر ـــــ مثلاً ـــــ بقطع النظر عن الاضطرار عندما يصدر شرب الخمر معنوناً بعنوان الاضطرار ليس له وجود في عالم التشريع، ومقتضى إطلاقه هو أنّه ليس له وجود بلحاظ كل الآثار، فلا الحرمة تترتب عليه، ولا الحد يترتب عليه ....الخ.
إذن: يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات نفي تمام الآثار بناء على الاحتمال الثاني والثالث. أمّا بناء على الاحتمال الأوّل، فيُدّعى أنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق، فيكون الحديث مجملاً.
أقول: الظاهر أنّه حتّى بناء على الاحتمال الأوّل لا يكون الحديث مجملاً، ويمكن إثبات نفي جميع الآثار.
[1]
سورة النساء، آية 23.