الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

34/06/11

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
 
 القرينة الرابعة: التي استدل بها لإثبات اختصاص حديث الرفع بالشبهات الموضوعيّة هو ما يُستفاد من كلمات الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، [1] حيث لديه عبارة في الرسائل يُستفاد منها إبراز وجه لاختصاص الحديث الشريف بالشبهات الموضوعيّة، وحاصله هو: أنّ المقدّر والملحوظ والمرفوع في الحديث هو المؤاخذة، يعني أنّ المرفوع ليس هو نفس اسم الموصول، وما يُراد من اسم الموصول، وإنّما المرفوع هو أمر مقدر محذوف، وهناك كلام في أنّ هذا المقدّر المحذوف هل هو خصوص المؤاخذة، ومطلق الآثار؟ أو الأثر الظاهر في كل فقرة من هذه الفقرات؟ وسيأتي التعرّض لهذا الكلام إنْ شاء الله تعالى.
 يفترض الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) أنّ المقدّر هو المؤاخذة، وبقرينة أنّ المرفوع في الحديث هو المؤاخذة، يكون الحديث مختصّاً بالشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ المؤاخذة إنّما تُتصوّر وتُعقل بالنسبة إلى الفعل، فيقال لا مؤاخذة على الفعل، بمعنى أنّ الفعل الذي تجهله، ولا تعلمه إذا صدر منك، فلا مؤاخذة عليه، فيكون المرفوع هو المؤاخذة على الفعل، وأمّا نفس الحكم والتكليف، فلا معنى لرفع المؤاخذة عليه؛ لأنّ المؤاخذة ليست من آثار التكليف الواقعي، فلا معنى لرفع المؤاخذة بلحاظ الحرمة الواقعيّة؛ إذ لا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة الواقعيّة، وإنّما تكون المؤاخذة معقولة ولها معنىً إذا أضيفت إلى الفعل، لا المؤاخذة على الحرمة الواقعيّة المشكوكة. نعم، المؤاخذة من آثار الحرمة الواقعيّة المشكوكة، لا أنّ المؤاخذة تكون على نفس الحرمة الواقعيّة المشكوكة، وإنّما المؤاخذة تكون على الفعل، فكـأنّ الحديث الشريف يقول رُفع المؤاخذة على الفعل الذي يصدر من المكلّف في حال الجهل وعدم العلم، وهذا يعني اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعيّة.
 هناك كلام في أصل مبنى هذه القرينة، وهو أنّ هناك مقدّر محذوف، فأنّ هذا أول الكلام، وسيأتي الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى، فهل نحتاج إلى التقدير، أو لا نحتاج إليه؟ وهل يمكن أنْ ننسب الرفع إلى نفس اسم الموصول؟ سواء أُريد به الفعل، أو أُريد به الحكم، أو أريد به الأعمّ من الفعل والحكم، كما هو الصحيح، بمعنى أنّ الحديث يشمل كلتا الشبهتين، الحكميّة والموضوعيّة، ويُراد من اسم الموصول في الحكميّة الحكم، ويُراد منه في الموضوعيّة الفعل، على كل هذه التقادير يمكن نسبة الرفع إلى نفس اسم الموصول بلا حاجة إلى تقدير شيءٍ.
 ثمّ لو قلنا بأننّا نحتاج إلى تقدير شيءٍ، فهل المقدّر هو المؤاخذة، أو شيء آخر، فهذا أيضاً فيه كلام. وعلى تقدير تسليم أنّ الرفع لا يتعلّق باسم الموصول، وإنّما يتعلّق بمُقدّرٍ محذوفٍ، وأنّ المحذوف المقدّر هو المؤاخذة؛ مع ذلك يمكن أنْ يقال بأنّ المؤاخذة يمكن أنْ تكون على نفس الحكم الشرعي المشكوك، فكما يمكن أنْ تكون المؤاخذة على الفعل، فكذلك يصحّ أنْ تكون المؤاخذة على نفس الحرمة المشكوكة ـــــ مثلاً ـــــ عندما يكون الشكّ في شبهة تحريميّة، تكون المؤاخذة على الحرمة، ويكون المقصود بذلك هو المؤاخذة على الفعل، والمؤاخذة على الوجوب المحتمل يعني المؤاخذة على الترك.
 وبعبارة أخرى: أنّ المؤاخذة على الحكم أمر معقول وصحيح من دون عناية، وذلك بأنْ يكون المقصود هو المؤاخذة على مخالفة ذلك الحكم، وبالتالي يرجع إلى المؤاخذة على نفس الفعل، أو الترك، لكنْ باعتبار أنّ المؤاخذة على الفعل والترك إنّما تنشأ من نفس الحكم الشرعي المشكوك؛ حينئذٍ يمكن أنْ يقال بأنّ المرفوع هو نفس المؤاخذة على الحكم الشرعي، فإذا شككت في حرمة شرب التتن ــــ مثلاً ــــ في الشبهة الحكميّة، فلا مؤاخذة على هذه الحرمة المشكوكة، والمقصود منه هو أنّه ليس هناك مؤاخذة في مخالفتها. وبعبارة أكثر وضوحاً: أنّ شرب التتن ليس عليه مؤاخذة، فيمكن نسبة المؤاخذة إلى نفس الحكم الشرعي، بمعنى أنّ القول(هذا التكليف لا مؤاخذة عليه) هو إطلاق صحيح وعرفي، وليس هناك أي محذور في أنْ يقال( أنّ هذا التكليف في حالة عدم العلم به لا مؤاخذة عليه) هذا مطلب صحيح، فلماذا عندما يفترض أنّ المقدّر هو المؤاخذة، فلابدّ من تخصيصه بخصوص الشبهات الموضوعيّة؟ فالمؤاخذة كما يصحّ أنْ تكون بلحاظ الفعل، فكذلك يصحّ أنْ تكون بلحاظ التكليف، فتخصيص الحديث الشريف بالشبهات الموضوعيّة استناداً إلى ذلك ليس واضحاً؛ لأنّه يصحّ على كلا التقديرين أنْ يقال رُفعت المؤاخذة على الفعل في الشبهات الموضوعيّة، ورُفعت المؤاخذة على التكليف في الشبهات الحكميّة، فالتكليف أيضاً يوجب المؤاخذة، فيقال لا مؤاخذة من ناحية هذا التكليف.
 هذا بالنسبة إلى ما يمكن أنْ يُذكر من قرائن على دعوى اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية. وتبيّن أنّ القرائن لا تنهض لإثبات اختصاص الحديث الشريف بالشبهة الموضوعيّة، وحتّى القرينة الأولى التي هي أهم هذه القرائن، وهي السياق أيضاً لم تكن ناهضة لإثبات الاختصاص بالشبهة الموضوعية.
 بعد ذلك ننتقل إلى دعوى مقابلة، يعني دعوى اختصاص الحديث الشريف بالشبهات الحكمية في قبال الدعوى السابقة التي تدّعي اختصاص الحديث الشريف بالشبهات الموضوعيّة. هذه الدعوى نُسبت إلى المحقق العراقي(قدّس سرّه) على تشكيك في النسبة، باعتبار أنّ كلامه لا يظهر منه أنّه يرى اختصاص الحديث بالشبهات الحكميّة، وإنّما هو يرى تعميم الحديث للشبهات الحكمية والموضوعية، لكن في سياق كلامه ذكر ما يصلح أن يكون وجهاً لدعوى الاختصاص بالشبهات الحكمية، وإلاّ هو لا يرى ذلك؛ بل يصرّح بالتعميم. وعلى كل حالٍ، سواء كان يرى ذلك، أولا، خلاصة ذلك الوجه هو: أن يقال أنّ تطبيق فقرة(ما لا يعلمون) على الحكم تطبيقاً تامّاً، وليس فيه أي عناية؛ لوضوح أنّ ما لا أعلم به في الشبهات الحكمية هو نفس التكليف، فعدم العلم ، هذه الصفة الموجودة في فقرة الاستدلال هي تعرض على نفس اسم الموصول في الشبهات الحكميّة، يعني تعرض على نفس التكليف الذي هو المراد باسم الموصول في الشبهات الحكميّة، التكليف الذي لا تعلم به، فـــ(لا تعلم) هذه صفة تعرض على نفس التكليف حقيقة وبلا تجوّز، وأنّ التكليف في الشبهات الحكميّة أنا لا أعلم به، التكليف في الشبهات الحكميّة ممّا لا يُعلم به، فهذه الصفة(عدم العلم) في الحديث تكون عارضة على نفس اسم الموصول حقيقة، وبلا عناية.
 وأمّا إذا أُريد تعميم الحديث للشبهات الموضوعيّة فلابدّ أن يكون المراد باسم الموصول الفعل؛ فحينئذٍ يكون اتّصاف اسم الموصول الذي يُراد به الفعل، بعدم العلم، ليس اتّصافاً حقيقياً، وفيه عناية ومسامحة؛ لوضوح أنّ الفعل ليس ممّا لا أعلم به، ـــــ مثلاً ـــــ شرب هذا المائع ليس مجهولاً؛ بل هو معلوم لدّي، وإنّما أنا اجهل عنوانه، وأجهل كونه شرب خمر، أو شرب ماء، ففي الشبهات الموضوعيّة لا يكون نفس الفعل بعنوانه الأوّلي مجهولاً، ولا ممّا لا أعلم به، وإّنما ما أجهله هو العنوان الذي ينطبق عليه، ويقع موضوعاً للحكم للشرعي، فما أجهله هو كون هذا شرب خمرٍ، أو شرب ماء، هذا أمر مجهول لدي، لكن نفس الفعل ليس مجهولاً، فعندما يُنسب عدم العلم إلى نفس الفعل، فأنّ هذه النسبة فيها مسامحة؛ لأنّ نفس الفعل بعنوانه ليس مجهولاً، وإنّما يكون مجهولاً بعنوان أنّه شرب خمرٍ، أو شرب ماء. فإذن: كيف ننسب عدم العلم إلى نفس الفعل الخارجي الذي هو عبارة عن هذا المائع الخارجي الموجود، فهو ليس مجهولاً، فنسبة عدم العلم إليه هي نسبة مسامحيّة، وغير حقيقيّة، وإنّما هذا أشبه بتوصيف الشيء بحال متعلّقه، لا بحال نفسه، بينما توصيف الحكم بعدم العلم هو توصيف بحال نفسه، حيث أنّ نفس الحكم هو ممّا لا أعلم به حقيقة، لكنْ لا استطيع القول أنّ نفس الفعل ممّا لا أعلم به. نعم، أنا لا أعلم بانطباق عنوان، فيكون من باب توصيف الشيء بحال متعلّقه، لا بحال نفسه، وهذا هو معنى أنّه توصيف مسامحي، ونسبة مسامحيّة؛ فحينئذٍ يثبت أنّ الموصول إذا كان يُراد به الحكم في الشبهات الحكميّة، فالتوصيف حقيقي، ونسبة عدم العلم إلى اسم الموصول ليس فيها عناية، بينما إذا أريد به الموضوع، فتكون هناك عناية لابدّ من بذلها.
 هذا ما قاله المحقق العراقي(قدّس سرّه)، كأنّه يريد أنْ يقول إذا جئنا إلى مقام التطبيق نقول بأنّ هذا الحديث الشريف يشمل ما يكون التوصيف فيه توصيفاً حقيقياً، والذي هو الحكم، أمّا ما يكون التوصيف فيه توصيفاً عنائياً فهذا يحتاج إلى دليل، بمعنى أنّ كون الحديث يشمل الأفراد العنائية لما لا يُعلم، ولا يختصّ بالأفراد الحقيقية لما لا يُعلم، هذا يحتاج إلى دليلٍ، فظاهر الحديث هو الاختصاص بالشبهات الحكميّة؛ لأنّ التوصيف فيها توصيف حقيقي، الحكم هو مع الأفراد الحقيقية للحديث الشريف(رفع ما لا يعلمون) هذا فرد حقيقي ليس فيه أي مسامحة في نسبة عدم العلم إلى اسم الموصول، فيشمل الأفراد الحقيقيّة، ولا يشمل الأفراد المسامحيّة إلاّ بعنايةٍ ودليلٍ، وحيث لا دليل، فيختصّ الحديث بالشبهات الحكميّة. هذا الذي يُنقل عن المحقق العراقي(قدّس سرّه) كوجه لاختصاص الحديث الشريف بالشبهات الحكميّة.
 لكنّ الموجود في تقريرات المحقق العراقي(قدّس سرّه) في(نهاية الأفكار) شيء آخر يختلف عن ذلك، فأنّه في كلامه في نهاية الأفكار ناظر إلى قرينة وحدة السياق التي استُدل بها على اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعيّة، ويريد أنْ يقول ليست هذه القرينة هي التي تؤثر في محل الكلام فقط، وإنّما هناك قرينة مقابلة تؤثر بالعكس، فالمفروض أنّ قرينة وحدة السياق تقتضي اختصاص الحديث الشريف بالشبهات الموضوعيّة، لكنّه(قدّس سرّه) يبرز قرينة في مقابلها تقتضي العكس، [2] والقرينة هي هذه التي ذكرناها الآن، وهي أنّ في سائر الفقرات غير فقرة(ما لا يعلمون) الوصف يعرض على نفس ما يُراد باسم الموصول، الوصف في فقرة(ما اضطروا إليه) هو الاضطرار، والوصف في فقرة(ما أكرهوا عليه) هو الإكراه، كما أنّ الوصف في فقرة(ما لا يعلمون) هو عدم العلم. يقول: الملاحظ أنّ الوصف في سائر الفقرات غير ما لا يعلمون، كلّه يعرض على الاسم الموصول بنفسه؛ لأنّ المكلّف حقيقة في(ما اضطروا إليه) ما يضطر إليه هو الفعل بعنوانه، وبنفسه هو يضطر إلى الفعل، وبنفسه هو يُكره على الفعل، وبنفسه هو لا يطيق الفعل، فهذه الأوصاف، وصف الاضطرار، والإكراه يعرض على نفس الفعل في سائر الفقرات بلا عناية، وبلا مسامحة. بينما في فقرة(ما لا يعلمون) إذا قلنا أنّ المراد باسم الموصول فيها هو الحكم، فتختصّ بالشبهات الحكميّة، فسوف يكون السياق واحد في جميع الفقرات، وهو أنّ عدم الوصف دائماً يعرض على ما يُراد باسم الموصول حقيقة، وبنفسه، في كل هذه الفقرات، في فقرة(ما اضطروا إليه) الوصف يعرض على نفس الفعل حقيقة، وفي فقرة(ما اكرهوا عليه) يعرض على نفس الفعل حقيقة، في فقرة(ما لا يعلمون) عندما يُراد الحكم أيضاً الوصف يعرض على الحكم حقيقة، وبلا مسامحة، أو عناية، وأنّ الحكم هو الذي لا يعلم به المكلّف حقيقة، فيكون السياق واحداً؛ لأنّ الوصف في جميع هذه الجُمَل يُنسب حقيقة إلى ما يُراد باسم الموصول، الذي هو الفعل في سائر الفقرات، والحكم في فقرة(ما لا يعلمون)، توصيف الحكم بعدم العلم توصيف حقيقي؛ لأنّ المكلّف حقيقة لا يعلم بالحكم، وتوصيف الفعل بأنّه مورد اضطرار في فقرة(ما اضطروا اليه) أيضاً حقيقي، وتوصيف الفعل بأنّه ممّا أكره عليه المكلّف في فقرة(ما أكرهوا عليه) أيضاً توصيف حقيقي، بينما إذا قلنا بأنّ المراد باسم الموصول في فقرة(ما لا يعلمون) هو الفعل، يعني قلنا باختصاصه ــــ مثلاً ــــ بالشبهة الموضوعيّة؛ فحينئذٍ سوف يختلّ السياق؛ لأنّ توصيف الفعل بعدم العلم ليس توصيفاً حقيقياً؛ لأنّ الفعل في فقرة(ما لا يعلمون) في الشبهات الموضوعيّة ليس مجهولاً، وإنّما هو مجهول بعنوان وقوعه موضوعاً للحكم الشرعي ، وبنفسه ليس مجهولاً، وليس غير معلوم، فعندما يُنسب إليه عدم العلم فهذ النسبة فيها عناية، بينما نسبة الوصف إلى ما يُراد باسم الموصول في سائر الفقرات الأخرى ليس فيها عناية، بينما في فقرة(ما لا يعلمون ) يكون فيها عناية إذا أريد باسم الموصول الفعل، وإذا قيل باختصاص الحديث بالشبهة الموضوعيّة. فلأجل أنْ لا يختل السياق لابدّ أنْ نقول أنّ المراد بالموصول في فقرة(ما لا يعلمون) هو التكليف، لا الفعل؛ لأنّه إذا أريد الفعل يختل السياق الواحد؛ ولذا يقول: هناك أمران متعارضان، السياق الذي ذُكر سابقاً كان يقتضي المراد بالموصول في فقرة(ما لا يعلمون) الفعل، لكنّ هذا السياق الذي ذكرناه يقتضي أنْ يكون المراد بالموصول في فقرة(ما لا يعلمون) هو التكليف. ويقول: لا ريب أنّ الأظهر عرفاً هو الثاني. يعني نحافظ على التوصيف، فهو يصف ما لا يعلمون بعدم العلم، فالأولى أنْ يكون المراد باسم الموصول شيئاً يقبل أنْ يوصف بعدم العلم بنفسه، وليس هو إلاّ التكليف، هذا أولى من رعاية السياق السابق الذي يقتضي أنْ يُراد باسم الموصول الموضوع. وهذا لا ينتج بالضرورة أنّه يقول باختصاص الحديث بالشبهات الحكمية، كلا، بالرغم من أنّه يقول انّ اسم الموصول يتعيّن أنْ يُراد به التكليف حتّى تكون نسبة عدم العلم إليه نسبة حقيقية، وليس فيها عناية، بالرغم من هذا لكنّه يقول بشمول الحديث لكلتا الشبهتين على أساس الدعوى المتقدّمة التي ادّعاها صاحب الكفاية(قدّس سرّه) سابقاً وهي دعوى صحيحة، وهي أنّ المقصود بالتكليف هو الأعمّ من التكليف الكلّي، والجزئي، يعني نعممّ الجهل بالتكليف إلى الجهل الناشئ من اشتباه الأمور الخارجيّة، والتي هي الشبهة الموضوعيّة، أو الجهل الناشئ من تعارض نصّان ــــ فرضاً ــــ أو إجمال النصّ، الذي يدخل كلّه في الشبهات الحكميّة، فإذا عممّنا التكليف إلى الكلّي والجزئي؛ فحينئذٍ تنتهي المشكلة عن كلتا الشبهتين. لكنْ المهم أنّه هو برأيه أنّ الموصول في فقرة(ما لا يعلمون) يُراد به التكليف، ولا يُراد به الفعل. هذا الكلام الذي ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه).
 ولكن اعترض على هذا الكلام باعتراضين:
 الاعتراض الأوّل: أنّ الموضوع ليس دائماً في الشبهات الموضوعيّة معلوماً، وليس فيه جهل، يعني ليس كل شبهة حكميّة لابدّ أنْ يكون الفعل معلوماً، ولا يقبل التوصيف بعدم العلم، إلاّ بالمسامحة؛ بل قد تكون هناك شبهة موضوعيّة، ويكون الموضوع والفعل فيها مجهولين بنفسه، من قبيل إذا شكّ أحد في وجوب الحجّ عليه نتيجة الشكّ في تحقق الاستطاعة بالنسبة إليه، فلا يعلم أنّه واجد للمال، أو ليس واجداً للمال، فإنْ كان واجداً للمال فأنّه يكون مستطيعاً، وعندما لا يكون واجداً للمال فهو غير مستطيع، فهذه شبهة موضوعيّة، والموضوع مجهول بنفسه، وليس بعنوانٍ آخر. ويُمثل لذلك بمثالٍ آخر وهو قدوم زيد من السفر إذا وقع موضوعاً لحكمٍ شرعي، فهذه شبهة موضوعيّة، هل قدم زيد من السفر، أو لم يقدم؟ فهنا نفس الموضوع بذاته يكون مجهولاً، فليس دائماً الشبهة الموضوعيّة تلازم أنْ يكون الموضوع والفعل معلوماً، ولا يقبل التوصيف بعدم العلم إلاّ بالمسامحة والعناية، فقد تكون شبهة موضوعيّة، يكون الموضوع والفعل فيها مجهولاً، ويقبل التوصيف بعدم العلم بنفسه بلا عناية. ومثل هذا يكون حاله حال الحكم الشرعي، كل منهما يقبل التوصيف بعدم العلم، وبالجهل حقيقة، وبلا عناية، هذا التكليف شبهة حكميّة، وهذا القسم من الشُبه الموضوعيّة، كل منهما يقبل التوصيف؛ فحينئذٍ لا تنخرم قرينة السياق الواحد إذا عممّنا الحديث لهذا القسم من الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ السياق فيها واحد في كل الفقرات، حتّى بناء على شمول فقرة(ما لا يعلمون) للشبهات الموضوعيّة من هذا القبيل، في كلها التوصيف توصيف حقيقي، وإضافة عدم الوصف للاضطرار، والإكراه، وما لا يطيقون، أو عدم العلم، وإضافته إلى ما يُراد باسم الموصول هي إضافة حقيقيّة، وليس فيها عناية؛ لأنّ الفعل في هذه الشبهات الموضوعيّة هو ممّا لا يعلم به المكلف، والموضوع مجهول لديه، فيكون التوصيف توصيفاً حقيقياً، فإذا دخل هذا القسم من الشبهات الموضوعيّة؛ فحينئذٍ يسهل أدخال القسم الآخر أيضاً؛ للجزم بعدم الفرق بين شبهةٍ موضوعيّةٍ، وبين شبهةٍ موضوعيةٍ أخرى، فلا نحتمل أنّ هذه الشبهة الموضوعيّة تجري فيها البراءة، وهذا القسم الآخر من الشبهة الموضوعيّة لا تجري فيها البراءة، والتفريق بينهما بأنّ الشبهة الموضوعيّة التي يكون الموضوع فيها مجهولاً يشملها الحديث، وتجري فيها البراءة، أمّا الشبهة الموضوعيّة التي يكون الموضوع فيها معلوماً، فلا يشملها الحديث، ولا تجري فيها البراءة، التفريق بينهما بهذا الشكل غير محتمل، وبالتالي سوف يكون الحديث الشريف شاملاً لجميع الشبهات الموضوعيّة.
 الاعتراض الثاني: لماذا لا نطبّق فقرة(ما لا يعلمون) على العنوان، حيث أنّه قال: الفعل معلوم، لكنّه مجهول بعنوانه، وهو عنوان الخمريّة في المثال المتقدّم، إذا تردّد المائع بين أنْ يكون خمراً، أو يكون ماءً، فشُرب المائع معلوم، ولا شكّ فيه، لكنْ انطباق عنوان شُرب الخمر عليه هو الذي يكون مجهولاً، فلماذا لا نطبّق على هذا العنوان، يعني لماذا نتقيّد بأنْ يكون المراد باسم الموصول هو الفعل، كلا، هو عبارة عن أنّ شرب الخمر هو المجهول، فلماذا نقول مائع؟ نقول أنّ المراد باسم الموصول في الشبهات الموضوعيّة هو الفعل، والذي هو عبارة عن شُرب الخمر، هل شرب خمراً، أم لم يشرب خمراً؟ هذا أمر مجهول، وغير معلوم لديه، وينسب إليه الجهل وعدم العلم حقيقة وبلا مسامحة، وبلا تجوّز، فيكون هو المرفوع، وهذا هو المناسب، يعني هذا هو الذي يقع موضوعاً للحرمة الشرعيّة، فالذي يقع موضوعاً للحرمة الشرعيّة هو الخمر، فالخمريّة هي موضوع الحرمة الشرعيّة، وهي التي تُرفع، والذي يكون غير معلوم هو هذا، فكأنّه يقول إذا كنت لا تعلم بموضوع الحكم الشرعي، فهو مرفوع عنك، وليس أنّ الفعل الخارجي الذي هو شرب المائع يُرفع عنك، وإنّما الذي يُرفع عنك هو شُرب الخمر، عند عدم العلم بأنّ هذا شُرب خمر، هذا بمعنىً من المعاني يرفع عنك، بناءً على شمول الحديث للشبهات الموضوعيّة، فلماذا نتقيّد بأنْ يكون عدم العلم يعرض على ذات الفعل وبنفسه، كلا، فيمكن أنْ يعرض على الفعل بعنوانه، هل هذا شُرب خمرٍ، أم لا؟ هذا أمر مجهول حقيقة، وليس في نسبة الجهل إليه أي عناية.


[1] فرائد الأصول، الشيخ الأنصاري، ج 2، ص 28.
[2] نهاية الأفكار، تقرير بحث آقا ضياء للبروجردي، ج 2، ص 216.