الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

34/06/05

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
 ذكرنا في الدرس السابق الوجه الثاني الذي ذكره السيّد الخوئي(قدّس سرّه) في المصباح،
  وحاصل هذا الوجه هو: أنّ الرفع في الحديث الشريف هو رفع تشريعي للأمور المذكورة في الحديث الشريف، فيكون الرفع حقيقيّاً، سواء أُسند إلى الحكم، أو أُسند إلى الموضوع، والفعل الخارجي؛ لأنّ المقصود بالرفع التشريعي للفعل هو أنّ الفعل لا يقع موضوعاً للأثر الشرعي في عالم الجعل والاعتبار، وهذا رفع تشريعي له حقيقة، وليس مجازاً، إذا أريد بالرفع الرفع التشريعي، فنسبته إلى الفعل وإلى الحكم تكون نسبة حقيقيّة وليس فيها عناية، أو تجوّز.
 وذكرنا في الدرس السابق ملاحظتان تحتاجان إلى إعادة صياغة:
 الملاحظة الأولى: أنّ هذا المعنى للرفع التشريعي بالمعنى المتصوّر بالنسبة إلى الموضوع لا يمكن تطبيقه بنفسه على الحكم؛ لأنّنا نستطيع أنْ نقول أنّ الرفع التشريعي في الموضوع يعني عدم جعله موضوعاً للأثر الشرعي، لكنّ التكليف والحكم لامعنى لهذا الرفع التشريعي بهذا المعنى فيه؛ لأنّه هو بنفسه تشريع، وهو بنفسه أثر شرعي، فلا معنى لأنْ نقول أنّه مرفوع تشريعاً، يعني لم يُجعل موضوعاً لأثرٍ شرعي؛ لأنّه هو بنفسه أثر شرعي، فلابدّ أنْ يكون المراد من الرفع التشريعي بالنسبة إلى التكليف هو عدم وجوده في عالم التشريع والجعل، فالرفع التشريعي يُنسب إلى الفعل بمعنى أنّ هذا الفعل لا يقع موضوعاً للأثر الشرعي، ويُنسب إلى التكليف والحكم نفسه بمعنى أنّ التكليف لا وجود له في عالم الجعل والتشريع، لابدّ أن يكون هذا هو المقصود، فإذا كان هذا هو المقصود؛ فحينئذٍ يلزم أنْ يكون الرفع بالنسبة إلى الموضوع رفعاً تشريعياً بينما الرفع بالنسبة إلى الحكم رفعاً حقيقياً، بمعنى أنّ هذا الحكم لا وجود له في عالم التشريع والجعل وهذا رفع حقيقي للحكم، فيلزم الجمع بين الرفع الحقيقي إذا نسب إلى الحكم، وبين الرفع التشريعي إذا نُسب إلى الموضوع، مضافاً إلى أنّه يلزم من ذلك أننّا نقع في مشكلة اختصاص الأحكام بالعالمين بها؛ لأنّ الرفع التشريعي للحكم إذا فُسّر بهذا التفسير، بمعنى أنّ هذا الحكم لا وجود له في عالم التشريع والحكم في حق الجاهل كما هو معنى حديث الرفع، فأنّ حديث الرفع يرفع الحكم بالنسبة إلى من لا يعلم بالحكم في الشبهات الحكمية، فإذا كان الواقعي المشكوك المجهول مرفوع في حق الجاهل في عالم الجعل والتشريع، فلازم ذلك هو أنّ الأحكام تختص بالعالمين بها، ولا تشمل الجاهلين.
  الملاحظة الثانية: أنّ الذي يُفهم من الحديث إذا كان المقصود بالرفع هو الرفع التشريعي، هو أنّ ــــ في الشبهات الموضوعية طبعاً ـــــ الموضوع الخارجي الصادر من المكلف اضطراراً، وإكراهاً لم يقع موضوعاً في عالم الجعل والتشريع لأي تشريع من التشريعات الإلهية، ولا يترتب عليه أثر، لا حرمة، ولا قضاء، ولا ديّة، هذا معنى الرفع التشريعي عندما يتعلق بالموضوع بلحاظ الفقرات المذكورة في حديث الرفع، وهذا المعنى من الصعب تطبيقه على فقرة(ما لا يطيقون) لأنّ المفروض في هذه الفقرة هو عدم وجود فعل صادر من المكلّف، باعتبار أنّه لا يطيقه، فإنه ليس هناك فعل صدر من المكلّف حتّى يقال أنّ هذا الفعل الصادر من المكلّف باعتبار عدم الطاقة لا يقع موضوعاً لتشريعٍ في عالم الجعل والاعتبار، فالذي يُفهم من الحديث هذا، والذي كان مقصوداً هو هذا، الذي يُفهم من حديث الرفع في فقرات ما اضطروا إليه، وما أكرهوا عليه، والفقرات الأخرى، يُفهم منه رفع تشريعي للموضوع المتعنون بعنوان(أكرهوا عليه)، و(اضطروا إليه) وبالعناوين الأخرى، هذا الموضوع لم يُجعل موضوعاً للآثار الشرعيّة في عالم الجعل والتشريع، وليس واضحاً تطبيق هذا على ما لا يطيقون، بينما يمكن أنْ ينطبق على ما اضطروا إليه، بأنْ يقال: أنّ هذا الفعل الذي صدر متلبساً بعنوان الاضطرار ليس له رفع في عالم الجعل والتشريع، وكأنّه لم يصدر من المكلّف أصلاً، أو الذي صدر متعنوناً بعنوان(الإكراه) لم يقع موضوعاً للآثار الشرعية، بينما في ما لا يطيقون لا يمكن أنْ نفترض فعلاً متعنوناً بعنوان(ما لا يطيقون) فعل صدر من المكلّف بعنوان(ما لا يطيقون) لأنّ عدم إطاقة الفعل تعني عدم تحققّ الفعل، وعدم صدوره من المكلف؛ فحينئذٍ انطباق الحديث على فقرة(ما لا يطيقون) يكون غير واضح، فإذا أردنا أنْ نحافظ على الرفع التشريعي في كل الفقرات، لكن يبقى تطبيقه على فقرة(ما لا يطيقون) غير واضح. هذه الملاحظة الثانية على الوجه الثاني.
 الوجه الثالث: أنْ يقال عكس الوجه الثاني، يعني عكس ما ذُكر في المصباح،
  وحاصله: أنّه كان يُنقل عن السيد الخوئي(قدّس سرّه) كان يقول أنّ الرفع تشريعي للوجودات الحقيقية لهذه الأمور التسعة المذكورة في الحديث، [1] بينما هذا الوجه يقول العكس، حيث يقول أنّ الرفع ليس تشريعياً، وإنّما الرفع حقيقي، لكن للوجود التشريعي لهذه الأمور، فالرفع ليس تشريعيّاً حتّى يرد عليه بعض الملاحظات السابقة؛ بل هو رفع حقيقي، لكن هو رفع حقيقي للوجود التشريعي لهذه الأمور، يعني أنّ الفعل المضطر إليه مرفوع حقيقة، وليس الذي يرفع حقيقة هو وجوده التكويني الخارجي، حتّى يقال لا معنى لرفعه بالتعبّد الشرعي، وإنّما الذي يُرفع هو الوجود التشريعي له، والمرفوع حقيقة هو وجوده في عالم التشريع، بمعنى أنّ الوجود التشريعي للفعل مرفوع حقيقة، فالنتيجة واحدة، لكن مع اختلاف الصياغات، مرة نقول أنّ الرفع تشريعي للوجود الحقيقي للشيء، ومرة نقول أنّ الرفع حقيقي للوجود التشريعي للشيء؛ فحينئذٍ قد يمكن أنْ نتجاوز في الحديث بعض الملاحظات التي ذُكرت على الوجه السابق، من قبيل الملاحظة الأخيرة، فإنّه بناءً على هذا لا مانع من أنْ يشمل هذا النوع من الرفع حتّى فقرة(ما لا يطيقون) ويطبّق عليها؛ لأنّ الرفع حقيقي للوجود التشريعي، بمعنى أنّ الشيء الذي لا يطيقه الإنسان لا وجود له حقيقة في عالم التشريع، وليس أنّه يرفعه تشريعاً، بمعنى أنّه يقول أنّ هذا لم يقع موضوعاً لأي أثر شرعي، لا، فأن فقرة(ما لا يطيقون)، و(ما أكرهوا عليه)، و(ما لا يعلمون) ...الخ، كل هذه الأمور مرفوعة حقيقة، لكن بوجوداتها التشريعيّة.
 ويلاحظ على هذا الوجه: أنّه يستلزم محذور اختصاص الأحكام بالعالمين بها؛ لأنّ معنى الرفع الحقيقي للوجود التشريعي للتكليف، والحكم، بناءً على شمول الحديث للشبهات الحكمية هو أنّ الحكم والتكليف لا وجود له في عالم التشريع في حق الجاهل، فيكون الحكم في عالم التشريع مختصّاً بالعالم به، ويلزم من هذا اختصاص الأحكام بالعالمين بها، وما يلزم من ذلك من المحاذير المذكورة في محلّها.
 الوجه الرابع: أنّ المسألة أساساً ليست معقدة بهذا الشكل، فالرفع ليس حقيقيّاً، وإنّما الرفع رفع عنائي مجازي مسامحي، وعلى كل حال، سواء نسب الرفع إلى الفعل في الشبهات الموضوعيّة، أو نسب إلى الحكم والتكليف في الشبهات الحكميّة، على كلا التقديرين يكون الرفع عنائياً مجازياً؛ فحينئذٍ يرتفع كل محذور؛ لأنّ المحذور كان قائماً على الجمع بين الرفع الحقيقي، وبين الرفع العنائي، أي بين النسبة الحقيقية، وبين النسبة العنائيّة، فإذا قلنا أنّ شمول الحديث للشبهات الحكمية والموضوعيّة لا يعني تعددّ النسب والإسناد، وإنّما هنا إسناد واحد مجازي، ونسبة واحدة مجازية، فالرفع يسند إلى الموصول بإسناد واحد مجازي، إلى غير ما هو له، فلا يوجد تعددّ نسب حتّى يلزم استعمال اللّفظ الواحد في أكثر من معنى، وإنّما هناك نسبة واحدة عنائية مجازية، هي نسبة الشيء إلى غير ما هو له، سواء أريد به الموضوع، أو أريد به الحكم، أمّا إذا أريد به الموضوع فواضح أنّ النسبة عنائية؛ لأنّ الموضوع لا يرتفع حقيقة، وإنّما الذي يرتفع هو غيره، فتكون نسبة الرفع إلى أسم الموصول إذا أريد به الفعل نسبة مسامحية؛ لأنّه ليس هو الذي يرتفع، وإنّما الذي يرتفع شيء آخر، وهذا هو معنى نسبة الشيء إلى غير ما هو له، فأنّك تنسب الرفع إلى الموصول، في حين أن المرفوع في الحقيقة هو شيء آخر، أي ينسب الرفع إلى أثره وحكمه. هذا بالنسبة إلى الموضوع.
 وأمّا في الشبهات الحكمية إذا كان المراد بالموصول هو التكليف، فهو أيضاً كذلك، لما تقدّم سابقاً من أنّ الرفع لا يُنسب إلى نفس التكليف الواقعي الذي لا أعلمه، ليس هذا هو المرفوع، وإنّما الذي يرتفع هو وجوب الاحتياط تجاه هذا التكليف، وأمثال وجوب الاحتياط، فهذا هو الذي يرتفع.
 إذن: يُنسب الرفع إلى الموصول الذي لا أعلمه، والذي هو التكليف الواقعي المشكوك، ينسب إليه الرفع، والحال أنّه ليس هو المرفوع، لئلا نقع في المحاذير المتقدّمة، والمرفوع هو عبارة عن وجوب الاحتياط تجاه هذا التكليف الواقعي الذي لا أعلمه، فيُنسب الرفع إلى التكليف الواقعي المشكوك، مع أنّ الرفع في الواقع ليس له، وإنّما لوجوب الاحتياط، فتكون النسبة مسامحية مجازية.
 فإذن: النسبة عنائية على كلا التقديرين، فلا نقع في ذلك المحذور. هذه هي الوجوه الأربعة التي تذكر في هذا المجال.
 بعد ذلك ننتقل إلى بحث ثانٍ في هذه المسألة؛ لأننّا قلنا بأنّ الكلام يقع في تصوير جامع، بعد أنْ فرغنا عن إمكان تصوير جامع بين الشبهتين الحكمية والموضوعية بأحد الوجوه المتقدّمة؛ حينئذٍ يقال: أنّ مقتضى الإطلاق في الحديث الشريف هو شمول الحديث لكلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية بحيث يكون اللّفظ مستعملاً في هذا الجامع، والمراد باسم الموصول هو الجامع بين الموضوع وبين التكليف، وهذا يُنسب إليه الرفع، فمقتضى الإطلاق والظهور الأولي للحديث أنّ الرفع يُنسب إلى هذا الجامع بكلا فرديه، فيشمل الرفع الشبهة الحكمية والموضوعيّة بعد الفراغ عن تصوير جامعٍ يجمع بين الفعل وبين التكليف في كلتا الشبهتين. نعم، إذا قامت قرينة على التقييد؛ فحينئذٍ يتعيّن العمل بهذه القرينة. وتوجد دعوى قيام القرينة على تقييد الموصول بخصوص الشبهات الموضوعية، فلا تشمل الشبهات الحكميّة، وهناك دعوى بالمقابل على وجود قرينة على اختصاص الموصول بالشبهات الحكمية، فلا تشمل الشبهات الموضوعيّة، فهناك دعويان متقابلتان لابدّ من ذكرهما: أمّا الدعوى الأولى: وهي دعوى الاختصاص بالشبهات الموضوعية، لوجود دليل يدل على هذا الاختصاص. نعم، لو لم يكن هناك دليلاً كان مقتضى الظهور الأولي للحديث هو الشمول لكلٍ منهما بعد الفراغ عن إمكان تصوير الجامع، لكن قام دليل ودلّ على الاختصاص بخصوص الشبهات الموضوعية، فيكون هذا الدليل أشبه بالمقيِّد لإطلاق الحديث، وهناك عدّة أدلّة ذكروها على الاختصاص بالشبهات الموضوعية، لعلّ أهمها، وأكثرها شهرة ومعروفيّة هو التمسّك بقرينة السياق، باعتبار أنّ الملاحظ أنّ المراد بالموصول في الفقرات الأخرى الذي نسب إليه الرفع هو الموضوع الخارجي، وعلى كل حال ليس هو حكماً ولا تكليفاً.
 إذن: السياق في كل الفقرات الثمان يُراد به الموضوع الخارجي، ومقتضى وحدة السياق في حديث الرفع هو أنْ يراد بما لا يعلمون أيضاً ذلك، فهذه قرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعيّة،
  بعبارة أكثر وضوحاً: أننّا إذا قلنا بأنّ المراد باسم الموصول الحكم والتكليف، فحينئذٍ سوف يختلّ السياق، وهذا خلاف الظاهر. إذن: الظاهر هو أنْ يكون السياق واحداً في جميع هذه الفقرات، فمقتضى وحدة السياق أنْ يراد بالموصول في ما لا يعلمون هو الموضوع الخارجي، والفعل الخارجي كما هو الحال في باقي الفقرات.
  وأجيب عن هذه القرينة: [2] (طبعاً الموصول ليس موجوداً في جميع الفقرات لكن شيء يشبهه مثلاً، الحسد والطيرة وغيرها) أنّ الموصول في جميع الفقرات مستعمل في معنى واحد وهو المعنى المبهم الذي يُرادف الشيء، وخروج هذا الشيء المبهم عن حدّ الإبهام إنّما يكون بالصلة التي تعرض على اسم الموصول، فكأنّ الحديث الشريف هكذا يقول رفع الشيء الذي تضطر إليه، ورفع الشيء الذي تُكره عليه، ورفع الشيء الذي لا تطيقه، ورفع الشيء الذي لا تعلم به، فالموصول مستعمل في معنى واحد، وليس في أكثر من معنى، وهو الشيء، غاية الأمر أنّ هذا الشيء الذي لا أعلم به قد ينطبق على مصداقٍ غير ما ينطبق عليه الشيء الذي لا أطيقه، والشيء الذي أضطر إليه، والشيء الذي أُكره عليه، فالتعدد يكون في المصاديق، في عالم انطباق المفهوم على الخارج، هنا الاختلاف. فرضاً أنّ مصداق الشيء الذي اضطر إليه في الخارج هو الفعل، والموضوع الخارجي، لكن في فقرة ما لا يعلمون قد يكون مصداقه هو التكليف والحكم، فتعدد المصاديق في عالم الانطباق لا يعني تعدد المعنى المستعمل فيه أسم الموصول، وإنّما اسم الموصول مستعمل في معنى واحد، وما هذا إلاّ تعدداً في مصاديق هذا المعنى الواحد باختلاف الموارد المذكورة في حديث الرفع، فاسم الموصول مستعمل في ما اضطروا إليه في نفس المعنى الذي استعمل في فقرة ما لا يعلمون، وهو عبارة عن مفهوم الشيء، لكن مصداق الشيء الذي اضطر إليه قد يختلف مع مصداق الشيء الذي لا أعلم به، فهذا الاختلاف في المصاديق لا يعني أنّ المعنى المستعمل فيه متعدد؛ بل أنّ المعنى المستعمل فيه واحد. كأنّه يريد أنْ يقول أننّا حتّى لو قلنا بأنّ الحديث الشريف في فقرة ما لا يعلمون يراد به التكليف، أو يشمل التكليف فأنّ السياق لا يختل؛ لأننّا حتّى في هذا لا نقول أنّ الموصول استعمل في التكليف، حتّى يقال أنّه استعمل هناك في شيء، واستعمل هنا في شيءٍ آخر، فتعدد المعنى المستعمل فيه، وهذا خلاف الظاهر، وخلاف وحدة السياق، كلا، فأنّه استعمل في فقرة ما لا يعلمون في نفس المعنى الذي استعمل فيه في فقرة ما اضطروا إليه، ومصداق ما لا أعلم به قد يكون هو التكليف، وهذا لا يؤثر على وحدة السياق؛ بل يبقى السياق واحداً، ولم نخالف الظهور إذا قلنا أنّ فقرة ما لا يعلمون تشمل التكليف، وليس فيه مخالفة للسياق. هذا المعنى هو روح الجواب،
 لكن يمكن توضيحه وتفصيله بهذا البيان: الاختلاف بين هذه الفقرات التي يجمعها سياق واحد يُتصوّر على ثلاثة أنحاء:
 النحو الأوّل: أنْ يكون الاختلاف اختلافاً في المدلول الاستعمالي لهذه الكلمات التي يجمعها السياق الواحد، بحيث أنّ هذا الدال يستعمل في مدلول، والدال الثاني في السياق الواحد يستعمل في مدلول آخر، فيختلفان في المدلول الاستعمالي لهما. ويُمثل لهذا النحو بقولك(زر الإمام، وصل خلف الإمام)، ويراد بالإمام الأوّل هو الإمام المعصوم(عليه السلام)، وبالإمام الثاني هو إمام الجماعة، هنا الإمام الأوّل استعمل في المعصوم(عليه السلام) أي أنّ المدلول الاستعمالي للّفظة الأولى هو الإمام المعصوم(عليه السلام)، والمدلول الاستعمالي للّفظة الثانية هو إمام الجماعة، فهنا اختلاف في المدلول الاستعمالي لكلا اللفظين، وكلا الدالين.
 النحو الثاني: أنْ يكون الاختلاف ليس في المدلول الاستعمالي؛ بل المدلول الاستعمالي فيهما واحد، وإنّما الاختلاف في المدلول الجدّي، كما إذا كان أحدهما مطلقاً، والآخر مقيّداً، فيقول(أكرم العلماء، وقلّد العلماء) ومقصوده الجدّي من العلماء في الجملة الأولى هو مطلق العلماء، بينما مقصوده الجدّي من العلماء هو خصوص العلماء الفقهاء العدول، فهنا لا يوجد اختلاف في المدلول الاستعمالي، فالمدلول الاستعمالي فيهما واحد، وكل منهما استعمل في العلماء، وإنّما الاختلاف في المدلول الجدّي؛ لأنّ الإطلاق والتقييد يمثلان مراداً جدّياً للمتكلّم، فاختلفا في المدلول الجدّي ، ولم يختلفا في المدلول الاستعمالي.
 النحو الثالث: أنْ لا يكون هناك اختلاف في المدلول الاستعمالي، ولا في المدلول الجدّي، وإنّما الاختلاف في ما ينطبق عليه ذلك المفهوم في الخارج في المصاديق، وفي عالم الانطباق، من قبيل هذا المثال(لا تغسل ما تأكله، ولا تغسل ما تلبسه) فليس هناك اختلاف في ما استعمل فيه اللّفظان، فهما مستعملان في معنى واحد، والمراد الجدّي فيهما أيضا واحد، لكن ما ينطبق عليه ما يؤكل غير ما ينطبق عليه ما يلبس، فهذا ينطبق على طعام وهذا ينطبق على اللّباس، لكن الاختلاف في المصاديق الخارجيّة.
 


[1] مصباح الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للبهسودي، ج 2، ص 261.
[2] مصباح الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للبهسودي، ج 2، ص 263.