الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
ذكرنا في الدرس السابق أنّه يمكن أنْ يُستغنى عن الأدلّة والقرائن التي ذكروها لتعيين أنّ الرفع في الحديث الشريف ظاهري، لا واقعي،
وذلك بأنْ يقال: أنّ تقييد الأحكام بالعالمين بها فيه محذور، ومن الواضح أنّ الرفع الواقعي يستلزم اختصاص الأحكام بالعالمين بها، وعدم شمولها للجاهل. فإذا كان الاختصاص قائماً على اساس تقييد الأحكام بالعلم بها، فهذا يستلزم محذوراً ثبوتيّاً، وهو استلزام الدور، وتوقّف الشيء على نفسه، ويلزم منه إخراج العلم عن حقيقته ودوره الذي هو دور الكاشف عن متعلّقه، وليس دور الذي يساهم في وجود متعلّقه، ويكون علّة وسبباً في وجود ما يتعلّق به. ومعنى تقييد الأحكام بالعلم بها هو أنّ العلم يساهم في إيجاد الحكم، وبهذا يخرج العلم عن دوره الحقيقي الذي هو دور الكاشف المحض عن متعلّقه من دون أنْ يكون مساهماً في وجوده. فلأحد هذه المحاذير التزموا باستحالة تقييد الأحكام بالعلم بها.
فإذن: ما يلزم من كون الرفع واقعيّاً من اختصاص الأحكام بالعالمين بها، إنْ كان هذا الاختصاص يُفسر على أساس تقييد الأحكام بالعلم بها؛ فحينئذٍ يلزم منه محذوراً ثبوتيّاً.
وأجيب عن هذا الإشكال: بأنّه يمكن التخلّص من كل هذه المحاذير بفكرة الجعل والمجعول، بأن يقال: أنّ العالم بالجعل فقط يكون الحكم فعليّاً في حقّه، فيكون العلم بالجعل مأخوذاً في موضوع المجعول، لا أنّ العلم بالجعل مأخوذ في موضوع الجعل حتّى تلزم منه المحاذير السابقة، وتكون الأحكام مقيّدة بالعلم بها بحيث يكون المعلوم هو نفس المقيّد، وليس أنّ العلم يتوقّف على نفسه، فهذا معناه أخذ العلم بالحكم قيداً في نفس الحكم، وهذا يلزم منه المحذور. وإنّما نقول أنّ العلم بالجعل يؤخذ قيداً في المجعول؛ فحينئذ لا يلزم منه محذور توقّف الشيء على نفسه، ولا يستلزم الدور، ولا إخراج العلم عن حقيقته، وواقعه، ودوره. أمّا عدم استلزام الدور؛ فلأنّ الموقوف غير الموقوف عليه، فالمجعول لا يتوقف على العلم به حتّى يلزم الدور، وتوقّف الشيء على نفسه، وإنّما يتوقّف على العلم بالجعل، والعالم بالجعل هو الذي يكون الجعل فعليّاً في حقّه، وهذا لا محذور فيه؛ لأنّ المجعول لم يتوقّف على العلم به، وإنّما توقّف على العلم بالجعل، فما يُعلم به هو الجعل، وما يثبت نتيجة العلم بالجعل ليس هو الجعل، وإنّما ما يثبت نتيجة العلم بالجعل هو المجعول، فمع تغاير الموقوف، والموقوف عليه ترتفع كل هذه المحاذير الثبوتيّة.
ولكننّا نقول: نعم، هذا أمرٌ ممكن، ويمكن الالتزام به لدفع المحاذير الثبوتيّة السابقة، لكنّ هذا يحتاج إلى دليل، أي يحتاج إلى ما يثبت أنّ الحكم في مرحلة الفعلية مقيّد بالعلم بالجعل، بمعنى أنّ الإنسان إذا كان عالماً بالجعل، فالحكم يكون فعلياً في حقّه، وتترتّب آثار الحكم الفعلي في حقّه من القضاء والإعادة، وأمثالهما. وأمّا إذا كان جاهلاً بالجعل فالحكم لا يصل إلى مرحلة الفعليّة، فلا يكون فعليّاً في حقّه. ولكن هذا بحاجة إلى إثبات، أنْ نفرّق بين العالم بالجعل، وبين الجاهل بالجعل بلحاظ فعليّة الحكم، وترتّب آثار الفعليّة على الحكم، فالعالم بالجعل يكون الحكم فعليّاً في حقّه، وتترتّب عليه آثار الفعليّة، أمّا الجاهل بالجعل، فلا يكون الحكم فعليّاً في حقّه، ولا تترتّب عليه آثار الفعليّة، وهذا معناه أنّ كل جاهلٍ بالحكم لا نلتزم فيه بوجوب الإعادة، ولا بوجوب القضاء؛ لأنّ الحكم ليس فعليّاً في حقّه؛ لكونه جاهلاً بالجعل، وهذا لا يمكن الالتزام به؛ لأنّه على خلاف إطلاق الأدلّة، وعلى خلاف قاعدة الاشتراك التي يؤمنون بها، والمسلّمة عندهم، ومعناها أنّ الجميع يشتركون في الأحكام، العالم والجاهل، ومقصودهم بالاشتراك في الأحكام هي الأحكام الفعليّة التي تترتّب عليها الآثار، فكما أنّ العالم بالجعل إذا ترك الواجب يجب عليه إعادته، أو قضاؤه، فكذلك الجاهل بالجعل أيضاً يجب عليه الإعادة إذا التفت، ويجب عليه القضاء، فوجوب الإعادة والقضاء من آثار فعليّة الحكم، ووصول الحكم إلى حدّ الفعليّة. إذن: لا إشكال عندهم في أنّ مقتضى إطلاقات الأدلّة، واشتراك الأحكام بين العالم والجاهل هو أنّ لا فرق بين العالم بالجعل، والجاهل به، في أنّ كلاً منهما يكون الحكم فعليّاً في حقّه، وتترتّب آثار الفعليّة على كلٍ منهما. فالتفريق بينهما، والالتزام بأنّ الحكم يكون فعليّاً في حقّ العالم بالجعل، أمّا الجاهل بالجعل، فلا يكون الحكم فعليّاً في حقّه، فلا تجب عليه الإعادة، ولا يجب عليه القضاء، هذا التفريق بحاجة إلى دليلٍ، فتكون المشكلة فيه إثباتيّة.
نعم، لا إشكال في أنّه ثبت ذلك، والتزم علماؤنا بذلك في مواردٍ هم قالوا بأنّ الدليل دلّ عليها، ولولا الدليل لما التزمنا بهذا التفريق. والمقصود بالموارد هي موارد القصر والتمام، والجهر والإخفات، فالجهل بالجعل هناك يوجب عدم فعليّة المجعول؛ ولذا لم يؤمر الجاهل بالجعل بالإعادة إذا صلّى تماماً في موضع القصر، وهذا يكشف عن أنّ وجوب القصر كحكمٍ شرعي ليس فعليّاً في حقّه؛ لأنّه جاهل بآية التقصير، يعني جاهل بالجعل. لكن هذه دلّ الدليل عليها، ولكن حيث لا يدلّ الدليل عليها لا يمكن الالتزام بهذا التفصيل بين العالم بالجعل، وبين الجاهل بالجعل.
إذن: الرفع الواقعي، سواء كان بمعناه الظاهر من دون تأويلٍ، ومن دون إعمال عنايةٍ، فيه محذور ثبوتي كما اعترفوا به، ومع إعمال عنايةٍ فيه وتقسيمه إلى افتراض أنّ المعلوم هو الجعل، وما يثبت هو المجعول؛ فحينئذٍ نقول: هذا فيه مشكلة إثباتيّة، ويحتاج إلى إثبات، ولم يلتزموا به في جميع الأحكام الشرعيّة، إلاّ بدليلٍ يقوم على ذلك.
فبالنتيجة: لا يمكن حمل حديث الرفع على الرفع الواقعي؛ لوجود محذور ثبوتي، أو إثباتي في ذلك، فيتعيّن حمله على الرفع الظاهري، ولتكن القرائن والأدلّة التي ذكروها ــــــ إذا تمّت ـــــ دليلاً آخراً على كون الرفع في الحديث الشريف رفعاً ظاهريّاً.
بعد ذلك نقول: أنّ أصل توقّف الاستدلال بالحديث الشريف على البراءة على أنْ يكون الرفع ظاهرياً هو محل كلام؛ لأنّ كل هذه الأدلّة والقرائن التي أقاموها كانت مبنيّة على افتراض أنّ الاستدلال بالحديث الشريف يتوقّف على أنْ يكون الرفع ظاهريّاً؛ ولذا اتعبوا أنفسهم لإثبات أنّ الرفع في الحديث الشريف ظاهري، وأقاموا قرائن على ذلك حتّى يصحّ الاستدلال بالحديث الشريف على البراءة في محل الكلام.
لكن هل صحيح أنّ الاستدلال بالحديث الشريف يتوقّف على أنْ يكون الرفع ظاهرياً؟ أو يمكن الاستدلال بالحديث الشريف حتّى إذا لم يثبت أنّ الرفع ظاهري، وترددّ الأمر بين أنْ يكون الرفع ظاهريّاً، وبين أنْ يكون الرفع واقعيّاً؟ أو أنّ الاستدلال يصحّ حتّى إذا ثبت أنّ الرفع واقعي؟ فما افترضوه من توقّف الاستدلال على أنْ يكون الرفع في الحديث الشريف ظاهرياً، ليس واضحاً؛ لأنّه
قد يقال: أيّ فرقٍ بين الرفع الواقعي والرفع الظاهري في المقام؟ نحن نريد إثبات التأمين، والأمن من العقاب عند عدم العلم، فسواء كان الرفع ظاهريّاً أو كان الرفع واقعيّاً، على كلا التقديرين هناك تأمين، ويكون العبد مأموناً من ناحية العقاب. أمّا إذا كان الرفع ظاهريّاً فواضح، وكذلك الحال إذا كان الرفع واقعيّاً؛ لأنّ معنى الرفع الواقعي هو أنّ المولى(سبحانه وتعالى) مَنّ علينا في حال الجهل برفع التكليف أساساً، ومع رفع التكليف أساساً لا معنى لافتراض احتمال العقاب، وعدم المؤمّن؛ إذ لا يوجد تكليف أصلاً، فالتأمين يكون ثابتاً، فالتأمين يثبت على كلا التقديرين، فإذا كان الرفع ظاهريّاً يوجد تكليف، لكن الشارع قال لا يجب عليك الاحتياط، أو أنّ الشارع قال لا تكليف في حالة الجهل، وعدم العلم، وهذا أيضاً يكون تأميناً.
إذن: لماذا يُدّعى بأنّ الاستدلال بالحديث الشريف لإثبات البراءة يتوقّف على افتراض أنّ الرفع ظاهري؟
ذُكر بأنّه يمكن تصوّر ثمرة، يعني في بعض الموارد يكون الاستدلال بالحديث الشريف ممكناً إذا كان الرفع ظاهريّاً، وغير ممكن إذا كان الرفع واقعيّاً، فثبتت ثمرة في هذه الموارد. وهذه الموارد هي الموارد التي يثبت عندنا بدليلٍ خاصٍ، كقاعدة الاشتراك، أو قيام إجماعٍ على أنّ تكليفاً معيّناً لا يختصّ بفرض عدم العلم على تقدير ثبوته في الواقع، ــــ مثلاً ــــ نفترض أنْ يقوم دليل ما بحيث يورث لنا العلم بأنّ هذا التكليف ـــــ وجوب صلاة الجمعة مثلاً ـــــ لو كان ثابتاً في الواقع فهو مشترك بين العالم والجاهل، فهو لا يختصّ بخصوص العالم. ففي هذا الفرض تظهر الثمرة للتفصيل بين الرفع الظاهري والرفع الواقعي، فبناءً على أنّ الرفع في الحديث الشريف هو رفع ظاهري، يمكن الاستدلال بالحديث الشريف لإثبات البراءة في هذا الفرض، ــــ مثلاً ـــــ أنا أشك في وجوب صلاة الجمعة، وليس لديّ دليل على ثبوتها، فهي مشكوكة، وتدخل في ممّا لا أعلم؛ فحينئذٍ يقول الحديث الشريف أنّ هذا التكليف مرفوع عنك رفعاً ظاهريّاً، ولا يجب عليك الاحتياط من ناحيته، فيصحّ التمسّك بالحديث لإثبات البراءة والتأمين. وأمّا إذا كان الرفع في الحديث الشريف رفعاً واقعيّاً؛ فحينئذٍ لا يصحّ التمسّك بالحديث لإثبات التأمين؛ لأنّ شمول الحديث لهذا المورد ينافي علمي بأنّ التكليف لو كان ثابتاً لكان شاملاً للعالم والجاهل، فهذان أمران يتقاطعان ويتنافيان، حديث الرفع ـــــ بناءً على حمله على الرفع الواقعي ــــــ يقول أنّ هذا التكليف منفي في حقّ الجاهل، بينما ذاك الدليل الخاص أورث لي القطع بأنّ هذا التكليف على تقدير ثبوته، فهو مشترك بين العالم والجاهل. إذن: هذا الدليل القطعي الدال على اشتراك الحكم المعيّن بين العالم والجاهل يكون منافيّاً لحديث الرفع، بناءً على أنّ المقصود به هو الرفع الواقعي، لا الرفع الظاهري؛ لأنّ الرفع الواقعي يقول بأنّ عدم العلم سبب لارتفاع التكليف واقعاً في حق الجاهل، بينما أنا أعلم بأنّ هذا التكليف على تقدير ثبوته هو مشترك بين العالم والجاهل، وليس مختصّاً بخصوص العالم، وبهذا لا يمكن التمسّك بالحديث الشريف في هذا المورد؛ لأنّ الحديث ينافي الدليل القطعي الدال على الاشتراك، وعدم الاختصاص بخصوص العالم، يعني لا يمكن الالتزام بأنّ التكليف الواقعي على تقدير ثبوته منفي في حقّ الجاهل. إذن: يحصل تضارب بين حديث الرفع، وبين ذلك الدليل القطعي، وهذا يجبرنا على القول بأنّ حديث الرفع لا يشمل هذا المورد، وبالتالي لا يمكن الاستدلال به لإثبات التأمين في محل الكلام.
وعليه: لابدّ أنْ يكون حديث الرفع مختصّاً بغير هذا المورد، فتظهر الثمرة في مثل هذه الحالة؛ لأنّه إذا كان الرفع رفعاً ظاهريّاً أمكن الاستدلال بالحديث لإثبات البراءة في هذه الحالة، أمّا إذا كان الرفع رفعاً واقعياً، فلا يمكن الاستدلال بالحديث لإثبات البراءة؛ لأنّ الحديث حينئذٍ لا يشمل هذه الحالة أصلاً ، فتظهر الثمرة؛ ولذا لابدّ من إثبات أنّ الرفع في الحديث الشريف هو رفع ظاهري حتّى يمكن الاستدلال به في جميع الموارد بما فيها هذه الحالة.
أقول: هل صحيح أنّ الاستدلال بحديث الرفع لإثبات التأمين والبراءة في جميع الموارد، بما فيها هذا المورد الذي ذُكر، يتوقّف على الرفع الظاهري؟ أو يكفي لإثبات صحّة الاستدلال بالحديث وإثبات البراءة إجمال الحديث من ناحيّة أنّ الرفع هل هو رفع ظاهري أو واقعي؟ هل يكفينا هذا الإجمال في مقام الاستدلال، وإثبات ما نريده؟ حتّى لو فُرض أنّ الرفع مجمل في الحديث ، أو لا ؟ مع الاعتراف بأنّه على تقدير استظهار الرفع الواقعي لا يصح الاستدلال بالحديث لإثبات البراءة في جميع الموارد.
المدّعى هو: الاستدلال بالحديث في جميع الموارد لا يتوقّف على استظهار الرفع الظاهري؛ بل يكفي فيه الإجمال والترددّ، لكنّه لا يصح مع استظهار الرفع الواقعي. أمّا أنّه يكفي فيه الإجمال والترددّ من جهة الرفع، فيقال: أنّ المقصود بالاستدلال بالحديث الشريف هو إثبات التأمين، وإيجاد معارض لأدلّة وجوب الاحتياط ــــ لو تمّت ــــ وفي هذا المورد الخاص الذي ذكرناه أيضاً نقول يمكن الاستدلال بالحديث الشريف مع فرض الإجمال والترددّ بين الرفع الواقعي، والرفع الظاهري. أمّا أنّ التأمين يثبت مع فرض الإجمال، فواضح؛ لأنّ التأمين لا يشترط فيه أنْ يكون الرفع رفعاً ظاهرياً؛ بل لعلّ التأمين الثابت في حالة الرفع الواقعي أوضح منه في حالة الرفع الظاهري؛ لأنّه يرفع أصل منشأ عدم التأمين، فإذا ارتفع منشأ عدم التأمين؛ فحينئذٍ يكون التأمين ثابتاً، فكما أنّ التأمين يثبت برفع وجوب الاحتياط، كذلك يثبت برفع التكليف واقعاً؛ لأنّه لا معنى للاحتياط مع عدم وجود تكليف في الواقع.
فإذن: لا يفرّق في التأمين بين أنْ يكون الرفع ظاهرياً، وبين أنْ يكون الرفع واقعيّاً. أمّا المعارضة لأدلّة وجوب الاحتياط فأيضاً المعارض موجود على كلا التقديرين، سواء كان الرفع ظاهرياً، فالمعارض لأدلّة وجوب الاحتياط واضح، وهو البراءة الشرعيّة التي ترفع وجوب الاحتياط، فتعارض أدلّة وجوب الاحتياط، وأمّا بناء على الرفع الواقعي فأيضاً واضح؛ لأننّا إذا قلنا بأنّ التكليف الذي هو منشأ وجوب الاحتياط رُفع، ولا وجود له في الواقع، هذا أيضاً يكون معارضاً لأدلّة وجوب الاحتياط، فأنّ الاحتياط إنّما يجب لأجل احتمال وجود تكليفٍ إلزاميٍ في الواقع، فيجب الاحتياط مراعاة له، أمّا إذا لم يكن هناك تكليف في الواقع أصلاً؛ فحينئذٍ يكون نفي التكليف الواقعي في حالة الجهل منافيّاً لوجوب الاحتياط في حالة الجهل، ومعارضاً له.