الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

34/05/20

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
 المؤيّد الخامس لما ذكره يونس من أنّ حريزاً لم يسمع من الإمام الصادق(عليه السلام) إلاّ حديثاً، أو حديثين هو أنّ الشيخ ابن إدريس(قدّس سرّه) ذكر في مستطرفات السرائر أربعة وعشرين رواية استطرفها من كتاب السرائر، ومعظم هذه الروايات ـــــ كما هو واضح جدّاً من مراجعة السرائر ـــــ رواها حريز عن الإمام الباقر(عليه السلام) بواسطة زرارة، ومحمد بن مسلم، وأبي بصير، والفضيل وأمثالهم، وليس فيها رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) إلاّ رواية واحدة، وهي الحديث الرابع عشر، يرويه عن الإمام الصادق(عليه السلام) بواسطة أبان بن تغلب، وكذا الحديث الذي بعده أيضاً مروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) بواسطة أبان بن تغلب، وأمّا باقي الروايات فهي روايات حريزٍ عن الإمام الباقر(عليه السلام) بواسطة زرارة، ومحمد بن مسلم، وأبي بصير، والفضيل.
 ولكن، عدم وجود ولا رواية واحدة يروي فيها حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً في ما استطرفه ابن إدريس من كتاب السرائر، هذا لا يعني أنّ كلّ روايات حريزٍ الموجودة في كتابه، والتي يرويها عن الإمام الصادق(عليه السلام) بعنوان(عن أبي عبد الله "عليه السلام") هي ليست مرويّة عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً، خصوصاً مع الالتفات إلى أمورٍ:
 (منها) أنّ ما ذكره ابن إدريس من الروايات هو مقدار قليل جدّاً من الروايات الموجودة في الكتاب. و
 (منها) أنّ معنى(استطرفها) هو انتخبها، يعني أنّه من بين هذه الروايات الكثيرة في الكتاب انتخب هذه الروايات لهدفٍ في نفسه، ولا نعلم ما هو المناط في استطرافه لهذه الروايات. و
 (منها) لا إشكال في أننّا نعلم أنّ ما يرويه حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) بالواسطة هو أكثر ممّا يرويه عنه بلا واسطة. فمع ملاحظة هذه الأمور يتّضح أنّ عدم وجود رواية واحدة لحريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً في ما استطرفه ابن إدريس(قدّس سرّه)، إطلاقاً لا يشكّل قرينة على أنّ جميع روايات حريز الموجودة في كتابه ممّا لم يستطرفه ابن إدريس هي ليست مرويّة عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرة، وأنّها مرويّة عنه بالواسطة.
 ثمّ لو فرضنا أنّه شكّل قرينة على ذلك، لكنّه لا يشكّل قرينة على أنّ رواياته الأخرى الموجودة في سائر كتبه هي أيضاً كذلك؛ لأنّ ابن إدريس استطرف من كتاب واحدٍ لحريز، والحال أنّ لحريز كتب كثيرة، وتعدّ كلّها من الأصول، له كتاب الصلاة الذي عبّر عنه الشيخ النجاشي بأنّه كبير، وله كتاب آخر عبّر عنه بأنّه ألطف منه، [1] وله كتاب النوادر، وكتاب الصوم، وكتاب الحج، وله كتاب الزكاة كما يقول الشيخ الطوسي(قدّس سرّه)، [2] وابن إدريس استطرف من كتابٍ واحد، ولعلّه النوادر، فإذا سلّمنا أنّ عدم ذكره لروايةٍ واحدة ممّا استطرفه من الكتاب يروي فيها حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً، قرينةً على أنّ رواياته الباقية في الكتاب ممّا لم يستطرفه هي ليست مرويّة عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً، وأنّها كلّها مرويّة عنه بالواسطة، لو سلّمنا هذا، لكنّه ليس قرينة على أنّ سائر رواياته الأخرى أيضاً في سائر كتبه هي أيضاً تكون كذلك، وليس فيه شهادة على هذا. هذه هي القرائن التي تدعم شهادة يونس بأنّ حريزاً لم يسمع من الإمام الصادق(عليه السلام) إلاّ حديثاً، أو حديثين.
 الآن نأتي إلى القرائن المعاكسة لشهادة يونس، وهي مجموعة قرائن:
 القرينة الأولى: أنّ من جملة روايات حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) توجد روايات لا يُحتمل فيها وجود واسطة، وإنّما هي صريحة في السماع مباشرة عن الإمام الصادق(عليه السلام)، وهي ليست روايات قليلة، لعلّ مجموعها يبلغ عشرين رواية، قطعاً معظمها صحيح السند، لنفترض أنّ خمسة عشر رواية منها ثابتة بطريقٍ صحيح، وكل رواتها ثقات، ينقل فيها ــــ فرضاً ــــ حمّاد بن عيسى، عن حريز، أنّه قال: (سمعت الإمام الصادق "عليه السلام" يقول كذا)، أو (قلت له)، أو(حدّثني)، فعندما تكون الرواية بهذا الشكل؛ فحينئذٍ لا مجال لافتراض الواسطة فيها؛ لأنّها صريحة في السماع من الإمام(عليه السلام)، وفي بعض الروايات يقول: (كلّفتني امرأة أنْ أستأذن لها على أبي عبد الله(عليه السلام)، فإذن لها، فقالت: كذا، وقال: كذا)، فيُفهم من هذا أنّه يسمع الحديث الجاري بين الإمام(عليه السلام) وبين المرأة. وكما أسلفنا أنّ هذه الروايات ليست قليلة، وهي شهادة واضحة ومعتبرة على أنّ حريزاً ليس فقط سمع حديثاً، أو حديثين من الإمام الصادق(عليه السلام)، وإنّما سمع أكثر من ذلك. وبما أنّ هذه القرينة مهمّة، فلابدّ أنْ نستعرضها كلّها من مصادرها:
 الرواية الأولى: في بصائر الدرجات، يقول: حدّثنا عبد الله بن جعفر، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حريز، قال:(سمعت أبا عبد الله "عليه السلام" يقول: لن تذهب الدنيا حتّى يخرج رجل منّا أهل البيت، يحكم بحكم داود، ولا يسأل الناس بينةً). [3] الرواية تامّة سنداً، وهي صريحة في السماع بشكلٍ واضح جدّاً.
 الرواية الثانية: في المحاسن، يرويها البرقي، عن بعض أصحابنا، رفعه، عن حريز، قال: (سألت أبا عبد الله "عليه السلام" عن المحرم يشم الريحان؟ قال: لا، قلت: فالصائم؟ قال: لا......الحديث). [4]
 هذه الرواية فيها خدشة سنديّة سيأتي الكلام عنها إنْ شاء الله تعالى. وهي صريحة في عدم الواسطة، والسماع المباشر من الإمام(عليه السلام)، لقوله:(سألت أبا عبد الله "عليه السلام")، لكنّ سندها فيه أرسال ورفع.
 الرواية الثالثة: في علل الشرائع، يقول الشيخ الصدوق(قدّس سرّه): أبي رحمه الله، قال: حدّثنا علي بن الحسين السعد آبادي، عن احمد بن أبي عبد الله، عن بعض أصحابنا، بلغ به حريز [5] ، قال:(سألت أبا عبد الله "عليه السلام" عن المحرم يشم الريحان، قال: لا.....الحديث). [6] هذه الرواية فيها إرسال، ولكنْ ستأتي المناقشة في سندها إنْ شاء الله تعالى. وهي أيضاً ظاهرة في السماع المباشر من الإمام(عليه السلام).
 الرواية الرابعة: في الخصال، قال الشيخ الصدوق(قدّس سرّه): حدّثنا أبي، ومحمّد بن الحسن(رضي الله عنهما) قالا: حدّثنا محمد بن يحيى العطّار، واحمد بن إدريس، جميعاً، عن محمّد بن احمد، عن موسى بن عمر، عن عبد الله بن المغيرة، عن حريز، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال:(قلت: من الذي أجبَر عليه، وتلزمني نفقته؟ قال: الوالدان، والولد، والزوجة). [7]
 وهذا الحديث نفسه ورد في مصادر أخرى بنفس اللفظ. [8] [9]
 الرواية الخامسة: في الكافي [10] ، محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعاً، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن حريز، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال:(سألته عن رجلٍ قتل رجلاً عمداً، فرفع إلى الوالي ......الحديث). [11] هذه الرواية أيضاً صريحة في السماع المباشر من الإمام(عليه السلام).
 الرواية السادسة: في الكافي، علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن حريز، قال:(سألت أبا عبد الله(عليه السلام)عن المحصن، فقال: الذي يزني وعنده ما يغنيه). [12] وهذه الرواية أيضاً صريحة في السماع المباشر من الإمام(عليه السلام)، ويرويها يونس عن حريز، أي أنّ يونس يروي عن حريز أنّه قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام)، يعني سمع منه هذا الحديث.
 الرواية السابعة: في الفقيه، يقول الشيخ الصدوق(قدّس سرّه): وروي عن حريز بن عبد الله، أنّه قال:(كنت عند أبي عبد الله "عليه السلام" فسأله رجلٌ، فقال له: جُعلت فداك أنّ الشمس تنقص، ثم....... الحديث). [13] وهذه الرواية صريحة أيضاً في أنّه سمع من الإمام(عليه السلام) مباشرةً. وسند الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) إلى حريز سند صحيح. نعم، هنا التعبير(روي عن حريز)، مرةً يقول:(عن حريز)، وهذا واضح في أنّ الطريق الذي يذكره في المشيخة يشمله، أمّا التعبير بــ(روي عن حريز) فقد يقال بأنّه لا يشمله، لكنّ الظاهر أنّه يشمله أيضاً، فكل ما يرويه الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) في الفقيه عن حريز، فقد ذكر طريقه إليه في المشيخة، فالظاهر أنّ ما ذكره من طريقٍ في المشيخة يشمل حتّى التعبير بـــ(روي عن حريز)؛ لأنّه أيضاً هو رواية له عن حريز، وطريقه إلى حريز قد ذكره في المشيخة، فيكون السند معتبراً.
 الرواية الثامنة: في التهذيب، هناك عدّة موارد يذكرها الشيخ الطوسي(قدّس سرّه)، هناك رواية يقول فيها:(عنه ـــــ أي عن موسى بن القاسم ـــــ عن حمّاد، عن حريز، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال:(سألته عن الرجل، يُطاف به، ويُرمى عنه، قال: فقال: نعم، إذا كان لا يستطيع). [14] وطريق الشيخ الطوسي(قدّس سرّه) إلى موسى بن القاسم طريق صحيح.
 الرواية التاسعة: في التهذيب أيضاً، موسى بن القاسم، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، قال:(سألت أبا عبد الله "عليه السلام" عن مُحرِمٍ غطّى رأسه ناسياً، قال: يُلقي القناع عن رأسه، ويُلبّي، ولا شيء عليه). [15] هذه الرواية أيضاً ظاهرة في الرواية المباشرة.
 الرواية العاشرة: في التهذيب أيضاً، قال(قدّس سرّه): والذي رواه موسى بن القاسم، عن عبد الرحمن، عن حمّاد، عن حريز، عن أبي عبد الله(عليه السلام):(في المحرم، ينسى فيقلّم ظفراً من أظافره، فقال: يتصدّق بكفٍ من الطعام، قلت: فأثنين، قال: كفين، قلت: فثلاثة، قال: ثلاثة أكف، كل ظفرٍ كف حتّى تصير خمسة، فإذا قلّم خمسة فعليه دم واحد خمسة كان، أو عشرة، أو ما كان ). [16] الظاهر أنّ فاعل(قلت) هو حريز؛ إذ لا يوجد شخصٌ آخر يمكن أنْ يكون هو فاعل(قلت).
 الرواية الحادية عشرة: في التهذيب أيضاً، قال(قدّس سرّه): وعنه ـــــ موسى بن القاسم ـــــ عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، قال:(سألت أبا عبد الله "عليه السلام" عن محرِم أصاب صيداً، أيأكل منه المُحلّ، فقال: ليس على المُحلّ شيء، إنّما الفداء على المُحرِم). [17]
 الرواية الثانية عشرة: في التهذيب أيضاً، قال(قدّس سرّه):وعنه ـــــ موسى بن القاسم ـــــ عن عبد الرحمن، عن حمّاد، عن حريز، قال:(سألت أبا عبد الله "عليه السلام" عن الطواف بغير أهل مكة ممّن جاور بها أفضل أو الصلاة؟ فقال: الطواف للمجاورين أفضل، والصلاة لأهل مكّة، والقاطنين بها أفضل من الصلاة). [18]
  وهناك روايات أخرى نذكرها في الدرس القادم إنْ شاء الله تعالى.


[1] رجال النجاشي، النجاشي، ص 145.
[2] الفهرست، الشيخ الطوسي، ص 118.
[3] بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفّار، ص 279، ح 4.
[4] المحاسن، احمد بن محمد بن خالد البرقي، ج 2، ص 318، ح 43.
[5] يعني أنّ هذا الراوي المجهول بلغ بالسند إلى حريز.
[6] علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 384، باب 114، ح 2.
[7] الخصال، الشيخ الصدوق، ص 248، ح 109.
[8] الاستبصار، الشيخ الطوسي، ج 3، ص 43.
[9] الكافي، الشيخ الكليني، ج 4، ص 13.
[10] قد يكون هناك تداخل في بعض الروايات، يعني رواية واحدة تذكر بطرقٍ مختلفة، حاولنا أن نتخلّص من هذا.
[11] الكافي، الشيخ الكليني، ج 7، ص 286، باب الرجل يخلّص من وجب عليه القود، ح 1.
[12] الكافي، الشيخ الكليني، ج 7، ص 178، باب ما يحصن، وما لا يحصن، وما لا يوجب الرجم على المحصن، ح 4.
[13] من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 225.
[14] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 5، ص 123، باب الطواف، ح 74.
[15] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 5، ص 307، باب ما يجب على المحرِم اجتنابه، ح 48.
[16] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 5، ص 332، باب الكفّارة من خطأ المحرِم وتعدّيه الشروط، ح 56.
[17] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 5، ص 375، باب الكفّارة من خطأ المحرِم وتعدّيه الشروط، ح 219.
[18] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 5، ص 446، باب من الزيادات في فقه الحج، ح 201.