الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

34/05/18

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
 الآن نأتي إلى ما انتهينا إليه، وهو أنّنا قلنا أنّ الرواية التي يرويها الكشّي عن يونس، والتي ذكر فيها أنّ حريزاً لم يروِ عن الإمام الصادق(عليه السلام)، إلاّ حديثاً واحداً، أو حديثين، ذكرنا أنّ الرواية تامّة سنداً.
 ومن هنا ندخل في البحث المترتّب على ذلك، وهو أنّه حينئذٍ تحصل المعارضة بين رأي يونس في أنّ حريزاً لم يرو عن الإمام الصادق(عليه السلام)، إلاّ حديثاً واحداً، أو حديثين، وبين الروايات الكثيرة الظاهرة في رواية حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرة؛ وحينئذٍ: إمّا أنْ نصدّق بشهادة يونس، ولا نقول أننّا نكذّب الروايات، لكنْ نتصرّف في الروايات بحيث لا يكون تكذيباً لما يقوله يونس، وهو أنْ نحملها على أنّ هناك واسطة سقطت في البين بين حريز، وبين الإمام الصادق(عليه السلام) في كل هذه الروايات الكثيرة، وبين أنْ نعكس الأمر، فنؤمن بهذه الروايات، ونقول أنّ حريزاً يروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) بشكل مباشر، ونتصرّف في شهادة يونس، ونحملها على محملٍ لا ينافي هذه الروايات الكثيرة. نحن نذكر أوّلاً ما يمكن أنْ يؤيّد رأي يونس، وبعد ذلك نذكر ما يمكن أنْ يؤيّد الرأي الآخر الذي يقول لابدّ من التصرّف في ما ينقل عن يونس، أو ردّه، حسب تعبير جماعة؛ لأنّه غير قابل للتصديق كما قال السيّد الخوئي (قدّس سرّه) بأنّ هذا الكلام غير قابل للتصديق. [1]
 ما يؤيّد كلام يونس من أنّ حريز لم يرو عن الإمام الصادق(عليه السلام) إلاّ حديثاً واحداً، أو حديثين، هو أمور:
 الأمر الأوّل: أنّ الكشّي نقل هذا الرأي عن يونس، ولم يُعلّق عليه نهائيّاً، مع أنّ المفروض أنّ هذا الرأي يُثير المطّلِع على الروايات الكثيرة، وخصوصاً أنّ كتب حريز معروفة ومشهورة بين الأصحاب؛ لأنّ هذا يعني بالضرورة أنّ كثيراً، وليس الأكثر، من روايات حريز هي روايات مرسلة؛ لأنّ الأكثر من روايات حريز رواها عن الإمام الصادق(عليه السلام) بالواسطة، وحريز له روايات كثيرة، والأكثر رواها عنه بالواسطة، لكنْ يبقى الكثير من الروايات رواها عن الإمام الصادق(عليه السلام) بحسب الظاهر مباشرة. فذِكر الكشّي لهذه الرواية من دون أنْ يُعلّق عليها قد يُجعل قرينة على أنّه أيضاً يتبنى هذا الرأي.
 الأمر الثاني: أنّ النجاشي أيضاً لم يعلّق إطلاقاً على هذا الذي نقله، حيث قال:(قيل: روى عن أبي عبد الله "عليه السلام") ثمّ ذكر أنّ يونس قال:(أنّ حريزاً لم يسمع من أبي عبد الله "عليه السلام" إلاّ حديثاً واحداً، أو حديثين). فيُفهم من كلام النجاشي، وعدم تعليقه، وهو الرجل الذي يدقّق فيما ينقل، ويُعلّق، ويُهمش، ويذكر رأيه عادةً؛ لذا هو بعد ذلك، وبلا فاصل مباشرةً قال:(قيل: روى عن أبي الحسن موسى "عليه السلام" ولم يثبت ذاك). [2] فنجد أنّه علّق على ما قيل، فقد يُفسّر عدم تعليقه على اساس أنّه يتبنى هذا الرأي الذي ذكره يونس بن عبد الرحمن. فيكون هذا أيضاً مؤيّداً لكلام يونس.
 الأمر الثالث: أنّ العلاّمة(قدّس سرّه) أيضاً ذكر في الخلاصة نفس هذا المطلب، قال:(قيل: روى عن أبي عبد الله "عليه السلام")، ثمّ(قال يونس: أنّه لم يروِ عنه إلاّ حديثاً واحداً، أو حديثين). [3] ولعلّ غير العلاّمة(قدّس سرّه) أيضاً عند مراجعة كتبهم، نجد أنّهم يذكرون هذا المطلب من دون تعليق، أو ردّ، ممّا قد يُفهم منه الموافقة، وتبنّي هذا الرأي.
 الأمر الرابع: أنّ في جملة ٍمن الروايات التي رواها حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام)، وهي روايات كثيرة كما سيأتي، جملة من هذه الروايات التي رويت بهذا الشكل(عن حريز، عن أبي عبد الله "عليه السلام") في بعض المصادر، وقد ذُكرت نفس هذه الروايات في مصادر أخرى بشكلٍ ينافي ذلك. يعني ــــ مثلاً ـــــ في رواية(عن حريز، عن أبي عبد الله "عليه السلام")، ونفس الرواية تُنقل في مصدرٍ آخر(عن حريز، قال: قيل للإمام الصادق "عليه السلام") ممّا يعني أنّ الرواية ليست مباشرةً عن الإمام الصادق(عليه السلام)، هذا أيضاً يُشكّل قرينةً على صحّة ما يقوله يونس من أنّ الروايات التي تُروى عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) هي في الحقيقة فيها واسطة غير مذكورة.
 الأمر الخامس: أنّ الشيخ ابن إدريس في مستطرفات السرائر أورد في عدّة صفحات روايات ينقلها عن كتاب حريز، ولا يوجد ولا مورد واحدٍ في هذه الروايات فيه حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام)، وهي تشتمل على تعابير موهمة قد يتخيّل غير الفطن، وغير الدقيق أنّها مرويّة عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً، بينما هي في الواقع، وبعد التأمّل ليست مرويّة عنه مباشرةً؛ بل مرويّة عنه بواسطة.
 أقول: أنّ هذه الأمور يمكن أنْ يُشككّ في قرينيتها:
 أمّا بالنسبة إلى الكشّي، فهو من خلال التتبّع والتفحّص ليس من عادته أنْ يُعلّق، قد يضيف، لكنّه ليس من عادته التعليق، بحيث إذا نقل رأياً هو لا يرتضيه يصرّح بأنّ هذا الرأي غير مرضي، على خلاف النجاشي، فالنجاشي هذه هي طريقته، ولا يجعل الرأي الذي ينقله عن شخصٍ يمر وهو لا يرتضيه؛ بل عادةً يُعلّق عليه، بينما الكشّي ليس كذلك؛ ولذا أقول: من الصعب جدّاً أنْ نستفيد من سكوت الكشّي عندما نقل رواية يونس، وعدم تعليقه، أنّه يتبنّى هذا الرأي بحيث يُدعم رأي يونس بهذا، وإنّما هو كان ينقل ما وصل إليه من الأخبار عن الأئمّة(عليهم السلام)، أو ما كان من هذا القبيل. فلا يظهر من سكوته التبنّي لهذا الرأي حتّى يُجعل مؤيّداً لما ذكره يونس. أمّا النجاشي فيختلف، فأنّ ديدنه التعليق على ما ينقله، وما يذكره الآخرون، وهذا ممّا لا يمكن إنكاره في حقّ النجاشي، لكنّ الكلام في أنّه هل نستظهر من سكوت النجاشي، وعدم تعليقه على ما نقله، تبنّيه لهذا الرأي، أو لا؟ يمكن أنْ يُقال: أنّ غاية ما يُستفاد من ذلك هو توقّف النجاشي، يعني أنّ النجاشي من المتوقّفين في هذه المسألة، لا أنّه يتبنّى هذا الرأي، فهناك فرق بين أنْ يتبنّى هذا الرأي، وبين أنْ يكون متوقّفاً فيه، وإنْ كان توقّف النجاشي يصلح بدرجةٍ ما أنْ يكون قرينةً على دعم رأي يونس، لكنّ توقّفه غير تبنّيه لهذا الرأي، وهو غير ظاهر في هذه الرواية. نعم، هو من المتوقّفين، وما يصلح أنْ يكون قرينةً على هذا الذي نقوله، هو ما ذكرناه من أنّه عندما ذكر بعد ذلك بلا فاصل أنْه قيل: روى عن أبي الحسن(عليه السلام) بيّن رأيه مباشرة، فقال(وليس بثابتٍ)، فالشي الذي لا يرتضيه، فأنّه يبيّن رأيه فيه، وهكذا في عبد الله بن مسكان، هناك أيضاً قيل روى عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أيضاً نفاه، وقال:(وليس بثبت). [4] بينما هنا لم ينفِ، وإنّما نقل هذا الرأي، ونقل الرأي الآخر وسكت، بينما ما بعده نفاه بشكلٍ واضح، فلو كان الأمر واضحاً عنده، وكان يتبنّى هذا الرأي، لكان من المناسب جدّاً أنْ ينفيه هنا، كما نفى روايته عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، هذا هو الذي يصلح أنْ يكون قرينةً على أنّ النجاشي لا يتبنّى هذا الرأي، وإنّما هو من المتوقّفين في هذه المسألة.
  يبقى السبب في توقّفه مع أنّه مطّلِع على كتب حريز، والمفروض أنّ كتب حريز تشتمل على روايات كثيرة، حالها حال الروايات الأخرى، يروي فيها حمّاد ــــ مثلاً ــــ عن حريز، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، فهو مطّلِع على هذه الروايات، فعندما ينقل كلام يونس بأنّ حريزاً لم يرو عن الإمام الصادق(عليه السلام) إلاّ حديثاً واحداً، أو حديثين، أو قول أنّه لم يرو عن أبي عبد الله(عليه السلام)، فلماذا أعطى احتماليّة لصدق هذا القول، والحال أنّه يرى بعينه أنّ هناك روايات كثيرة يرويها حريز عن أبي عبد الله(عليه السلام) ؟ يعني ما هو السرّ في أنّه احتمل صدق هذا الكلام، وصار متوقّفاً في أنّ حريز يروي عن أبي عبد الله(عليه السلام)، أو لا يروي عنه ؟ يمكن ــــ والأمر يحتاج إلى فحص أكثر ــــ أنْ يكون أنّ النجاشي في عبارته هو يقول:(له كتاب الصلاة كبير، وآخر الطف منه، وله كتاب نوادر، فأمّا الكبير فقرأناه على القاضي......الخ). [5] بينما الكتب الأخرى لم يُصرّح بقراءتها على شيخ من شيوخه.
 أقول: نحن إذا لاحظنا نسبة الأحاديث التي يرويها حريز عن أبي عبد الله(عليه السلام) بلا واسطة، إلى الأحاديث التي يرويها عنه(عليه السلام) بواسطة، هي نسبة قليلة، بالرغم من أنّها كثيرة في حدّ نفسها، وهذا حسب قول السيد الخوئي(قدّس سرّه):(وقع بعنوان حريز في إسناد كثير من الروايات تبلغ ألفاً وثلاثمائة وعشرين رواية) [6] الروايات التي يروي فيها حريز، عن أبي عبد الله(عليه السلام) مباشرةً بلغت ـــــ حسب قوله(قدّس سرّه) ـــــ مائتان وخمسة عشر رواية، [7] فتكون نسبتها إلى مجموع ما رواه هي السبع تقريباً، فإذا أخذنا هذا بنظر الاعتبار، فالكتاب الذي يصلنا نسبة ما يرويه حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) مباشرةً، هو أقل بكثيرٍ ممّا يرويه حريز في نفس الكتاب بواسطةٍ عن أبي عبد الله(عليه السلام). الشيء الآخر الذي يمكن ذكره هو أنّ نفس كتاب الصلاة الذي قرأه النجاشي على شيخه ومؤدبه، لعلّ النسبة فيه تكون أقل ــــ وهذا يحتاج إلى فحص ـــــ يعني نسبة الروايات التي يرويها حريز عن أبي عبد الله(عليه السلام) مباشرةً، بالقياس إلى الروايات التي يرويها حريز عنه(عليه السلام) بالواسطة تكون أقل من هذه النسبة، فإذا كانت نسبة تلك الروايات هي السبع، فلعلّ هذه تكون نسبتها أقل.
 أقول: هذا قد يُبررّ أنّ النجاشي قد احتمل أنّ هذا القول صحيح؛ لأنّ معظم روايات هذا الكتاب الذي مرّ عليه هي روايات عن الإمام الصادق(عليه السلام) بالواسطة، قد تكون هناك روايات يرويها بالمباشرة، لكنّها قليلة، فلم يلتفت إليها، فجعله يحتمل هذا، أو احتمل أنّ هناك واسطة ساقطة في أثناء النقل؛ لأنّها روايات قليلة نسبةً، فهذا جعله يعطي احتمالية صدق أنّ حريز لم يرو مباشرةً عنه(عليه السلام)، وقول يونس بأنّه لم يسمع منه إلاّ حديثاً أو حديثين، أيضاً جعله يعطي احتمالية صدق هذا القول. لعلّ هذا هو السبب. خصوصاً إذا أضفنا إلى ذلك أنّ النجاشي حسب الظاهر ليس لديه ممارسة بالروايات من قبيل الشيخ الطوسي(قدّس سرّه) وأمثاله. فغاية ما يمكن أنْ نقوله أنّ النجاشي توقّف في هذه المسألة، لا أنّه تبنى هذا الرأي والتزم به، وهذا يقللّ من هذه القرينة لصالح ما ذكره يونس.


[1] معجم رجال الحديث، السيّد الخوئي، ج 5، ص 232.
[2] رجال النجاشي، النجاشي، ص 144.
[3] خلاصة الأقوال، العلاّمة الحلي، ص 134.
[4] رجال النجاشي، النجاشي، ص 214.
[5] رجال النجاشي، النجاشي، ص 145.
[6] معجم رجال الحديث، السيّد الخوئي، ج 5، ص 234.
[7] معجم رجال الحديث، السيّد الخوئي، ج 5، ص 232.