الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

34/08/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المسألة 107

الكلام في المسالة 107 وقلنا ان السيد الماتن تعرض في هذه المسالة الى اداء الشهادة وانه واجب او لا ، ومتى يكون واجباً ، وان وجوبه هل هو وجوب عيني او وجوب كفائي ؟

ولكن قلنا ان المنهجية تقتضي البحث عن تحمل الشهادة قبل البحث عن اداء الشهادة ، والسيد الماتن اخر البحث عن تحمل الشهادة الى المسألة 110 ونحن نتكلم الآن عن مسألة تحمل الشهادة قبل الدخول في البحث عن حكم اداء الشهادة .

والمعروف والمشهور شهرة عظيمة كما في الجواهر هو وجوب تحمل الشهادة ، بمعنى انه إذا دعي من له اهلية تحمل الشهادة الى تحمل الشهادة وجب عليه ذلك ، وقيد هذا في كلمات المشهور بعدم خوف الضرر ، وفي المقابل نسب الخلاف الى الشيخ بن ادريس في السرائر ،وقيل انه ذهب الى عدم وجوب تحمل الشهادة اذا دعي اليها .

واستدل للقول المشهور - وجوب تحمل الشهادة – من الكتاب بقوله تعالى ﴿ولايأب الشهداء إذا مادعو﴾[1] ومن السنة بالروايات الآتية الظاهرة في وجوب تحمل الشهادة ،وقالوا بان دلالة الاية على الوجوب واضحة لان المستفاد من قوله تعالى ﴿ولايأب الشهداء اذا مادعو﴾ هو حرمة الآباء عند الدعوة الى الشهادة وهذا يساوق وجوب الاستجابة ووجوب تحمل الشهادة ، واما الكلام في ان متعلق هذا الوجوب هل هو تحمل الشهادة او اداء الشهادة في الاية ؟ بمعنى ان الاية هل هي ناظرة الى وجوب تحمل الشهادة وحرمة الاباء عنها ؟ او هي ناظرة الى وجوب اداء الشهادة وحرمة الاباء عنها ؟ فهو محل كلام والا فالوجوب امر مسلم فيه عندهم باعتبار انه ملازم لحرمة الاباء عن التحمل ان كانت الاية ناظرة اليه او انه ملازم لحرمة الاباء عن الاداء ان كانت الاية ناظرة اليه .

والاستدلال بالاية على وجوب التحمل تارة بلحاظ نفس الاية مع قطع النظر عن الروايات ، فيقال ان الاية ظاهرة في وجوب التحمل لا وجوب الاداء ، واخرى يستدل بالاية بمعونة الروايات الواردة في تفسيرها.

أما بالنسبة الى الاستدلال بالاية بقطع النظر عن الروايات ، فقد قالوا ان ظاهر الاية هو نظرها الى تحمل الشهادة ، والوجه في ذلك ان سياق اية282 من سورة البقرة والتي ورد فيها قوله تعالى ﴿ ولايأب الشهداء إذا مادعو﴾ يشير الى انها ناظرة الى تحمل الشهادة ، باعتبار ان الاية الشريفة في صدرها امرت بكتابة الدين بعد ان قالت (إذا تداينتم بدين فإكتبوه) ، ثم ذكرت مايرتبط بكتابة الدين ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) ثم بعد ذلك قالت ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ) ، وهنا قالوا ان الظاهر من الاية الشريفة انها ناظرة الى الاشهاد على الدين كضمان اخر غير مسألة كتابة الدين فيحضر شاهدان او رجل وامراتان على الدين وليس الاية ناظرة الى اداء الشهادة على الدين ، ثم بلا فاصل الاية الشريفة تقول (ولايأب الشهداء إذا ما دعو ) وظاهرها ان المقصود من الشهداء هو أولئك الشهداء الذين تحملوا الشهادة على الدين ، بمعنى ان الاية تخاطب هؤلاء انه اذا دعيتم الى تحمل الشهادة لايجوز لكم ترك التحمل ، وبهذا تكون الاية الشريفة ناظرة الى محل الكلام ، وسياق الايات ايضاً يساعد على ذلك باعتبار ان الاية الشريفة امرت في صدرها بكتابة الدين ثم عقبت ذلك ب(ولايأب كاتب ان يكتب كما علمه الله ) والمقصود من لايأب كاتب نفس الكاتب الذي امرت الاية بان يكتب الدين اذا دعي الى الكتابة ثم جاءت الاية محل الكلام عقيب قوله تعالى ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرتان ممن ترضون من الشهداء ) هؤلاء الشهود الذين دعوا الى تحمل الشهادة حسب الفرض يخاطبهم القرأن كما خاطب الكاتب انه اذا دعي الى الكتابة وجب عليه الكتابة كذلك الشهداء اذا دعوا الى تحمل الشهادة يجب عليهم تحملها ، فتكون الاية سياقاً واستظهاراً ناظرة الى تحمل الشهادة .

وليس في قبال ذلك الا ما أدعاه بن إدريس من ان الاية ناظرة الى مقام أداء الشهادة ، وناقش في كون الاية ناظرة الى مقام التحمل ، كون الظاهر من اطلاق الشهداء انه لايصح بنحو الحقيقة الا بعد التحمل وحينئذٍ يصدق الشهيد عليه بنحو الحقيقة ، وهذا معناه ان الاية ناظرة الى مرحلة مابعد تحمل الشهادة والتي هي مرحلة الاداء ،واما قبل تحمل الشهادة فهؤلاء ليس شهداء ، فلا مانع من ان يقال حينئذٍ (فلايأب الشهداء اذا مادعو ) .

ولكن ماذكر لايمنع من الاستظهار السابق إذا ما تم ،إذ اطلاق الشهيد على من لم يتحمل الشهادة بعد ، له علاقة مصححة باعتبار ان الاية فرضت تحمل هؤلاء للشهادة وعبر عنهم بالشهداء باعتبار انهم سيكونون شهداء ويتحملون الشهادة ، والاية التي قبلها استعملت نفس التعبير عندما قالت (ولايأب كاتب ان يكتب كما علمه الله ) فبعد ان امرته بان يكتب عبرت عنه بانه كاتب في قوله تعالى (ولايأب كاتب) مع انه لم يكتب بعد ، وذلك باعتبار انه فرض في الاية انه سيكتب .

وعليه لايوجد محذور في ان الشهداء يراد بهم الاشخاص الذين طلب منهم تحمل الشهادة ، فتكون الاية ناظرة الى حرمة الاباء بالنسبة الى من يدعى الى تحمل الشهادة كما نهت الكاتب من الامتناع عن الكتابة اذا دعي اليها .

وعلى كل حال ،هذا الاستظهار ان تم في الاية وهو غير بعيد كما ذكرنا فيمكن الاستدلال بالاية نفسها على وجوب التحمل مع افتراض صحة ماذكروا من ان الاية دالة على الوجوب وهذا ما سيأتي الكلام فيه ، وان لم تتم هذه القرائن او شككنا في تماميتها ولو باعتبار ما يقوله بن إدريس فحينئذٍ ننتقل الى المرحلة الثانية وهو الاستدلال بالاية بمعونة الروايات المفسرة وهي بحمد الله وافية وكثيرة وظاهرة في ان الاية ناظرة الى مقام التحمل لا الى مقام الاداء ، بل هي تكاد تكون صريحة في ذلك إذ هي واردة في مقام تفسير الاية الشريفة .

وهذه الروايات مروية في الباب الاول من ابواب الشهادات :

منها- صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قول الله عز وجل : ( ولا يأب الشهداء ) قال : قبل الشهادة ، وقوله : (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه )قال : بعد الشهادة [2] .

أي بعد تحمل الشهادة فتكون الاية الثانية ناظرة الى اداء الشهادة بينما الاية الاولى ناظرة الى تحمل الشهادة .

ومنها- معتبرة ابي الصباح الكناني عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) قال : لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة ليشهد عليها أن يقول : لا أشهد لكم عليها[3] .

وواضح ان الرواية تفسر الاية بتحمل الشهادة .

ومنها- موثقة سماعة عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قول الله عزوجل (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) فقال : لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة ليشهد عليها أن يقول : لا أشهد لكم [4] .

ومنها-معتبرة محمد بن الفضيل عن أبي الحسن ( عليه السلام ) في قول الله عز وجل : ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) فقال : إذا دعاك الرجل لتشهد له على دين أو حق لم ينبغ لك أن تقاعس عنه[5] .

ومنها- صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قول الله عز وجل : ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) قال : قبل الشهادة[6] .

وغير هذه الرويات التي قد يناقش في سندها .

إلى هنا يظهر ان الدليل على القول الاول المشهور تام وواضح.

ومنه يظهر ضعف القول الاخر الذي ذهب اليه بن إدريس خاصة –كما عبروا- إشارة الى انه لم يوافقه احد من المتقدمين بعد ظهور الاية وتواتر النصوص على انها في مقام النظر الى تحمل الشهادة .

نعم استدل بن إدريس (قده) بالاصل اولاً وان هذه الاخبار هي اخبار احاد لاتوجب علماً ولاعملاً -كما يبني عليه- وان الاية ليس ناظرة الى مقام التحمل بل هي ناظرة الى مقام الاداء ،وهذا يعني عدم وجود الدليل على وجوب تحمل الشهادة إذ مقتضى الاصل عند الشك في وجوب تحمل الشهادة وعدمه هو عدم الوجوب .

ويرد عليه :

اما الاية فقد تقدم ظهورها في وجوب تحمل الشهادة ولو بمعونة الروايات المقبولة واما الاصل فانه يرفع اليد عنه بالدليل فلاتصل النوبة اليه .

ومنه يظهر ان المناقشة في الاية الشريفة والروايات ليست تامة .

 

نعم هناك مناقشة ذكرها الشيخ صاحب الجواهر في اصل استفادة الوجوب من جميع هذه الادلة من الاية والروايات .

اما الاية الشريفة فقد يناقش في دلالتها على الوجوب بانه لو سلم ان الاية الشريفة ﴿ولايأب الشهداء اذا مادعوا﴾ -بعد افتراض انها ناظرة الى التحمل – تدل على حرمة الاباء وهو يساوق وجوب التحمل ، فان سياق الايات قبلها وبعدها ناظر الى اداب ومستحبات لايمكن الالتزام بوجوبها ، وهذا السياق قد يؤثر على ظهور الاية الشريفة في الوجوب ،إذ قوله تعالى (لايأب كاتب ان يكتب كما علمه الله ) لااحد يلتزم بان الكتابة واجبة على الكاتب ، والمتعين حملها على الاستحباب ، وبنفس التعبير جاءت الاية محل البحث ، وكذا قوله تعالى (ولاتسأموا ان تكتبوه صغيراً كان او كبيراً الى اجله) فلا احد يقول ان النهي هنا الزامي ، فهي إذاً اداب ، وهذا يورث الظن القوي لكون الاية محل البحث من جملة الاداب .

واما بالنسبة الى الروايات فالملاحظ فيها ان معظمها تعبر بلاينبغي ما عدا رواية واحدة فقط تامر بذلك -كما سياتي- وحيث ان لا ينبغي يوجد فيها كلام في استفادة الطلب الالزامي منها ولو باعتبار الاصطلاح ، فلايستفاد من الروايات الوجوب .

ثم ذكر قرينة اخرى وهي شدة التوعد على كتمان الشهادة حيث قال تعالى(ومن يكتمها فانه آثم قلبه) وعدم مثل ذلك التوعد في تحمل الشهادة وهذا يعني ان التحمل ليس واجباً وانما هو من الاداب والمستحبات بخلاف الاداء الذي هو واجب لشدة التوعد على تركه .

وما يمكن ان يقال في المقام انه : لااشكال في ان (لايأب الشهداء اذا ما دعو) فيها ظهور في الوجوب بحسب الظهور الاولي لكلمة (لايأب).

فإذا كان ماذكره من مجموع القرائن يشكل قرينة على صرف هذا الظهور عن الوجوب وجعله ظاهر في الاستحباب فهو .

واما إذا لم يشكل قرينة فهل يمنع من انعقاد هذا الظهور في الوجوب او لا؟

قد يقال: انه حينئذ يكون من الكلام المكتنف بما يصلح للقرينة وقد اعتمد عليه المتكلم في مقام ارادة خلاف الظاهر من الكلام وحينئذٍ يمنع من انعقاد ظهور للكلام في الوجوب ، واما إذا لم تكن فيها هذه الصلاحية ، فلايؤثر في انعقاد الظهور في الوجوب ، وبعبارة اخرى انه لايصلح ان يكون قرينة يعتمد عليها في مقام ارادة خلاف ظاهر الكلام وحينئذٍ لايمنع من انعقاد ظهور للكلام في الوجوب .

هذا بالنسبة الى الاية .

واما بالنسبة الى الروايات فان ( لاينبغي ) فيها كلام من انها هل هي ظاهرة في الطلب غير الالزامي او لا؟

يوجد رأي انها ظاهرة في الطلب غير الالزامي بل هي تعبر عن المكروهات كما في الاصطلاح فلا يستفاد منها الوجوب .

ولكن (لاينبغي) في حد نفسها الظاهر ان معناها اللغوي هو عدم المناسبة أي هو شيء لايناسب ولايليق فان قوله تعالى( وما علمناه السعر وماينبغي له[7] ) بمعنى انه لايناسبه ولايليق به ، فالمعنى اللغوي لها هو ان المسلم لايناسبه هذا الشيء فهو إذاً معنى كنائي عن بيان طلب ترك ذلك الشيء .

فهو تعبير عن الحكم الشرعي بلسان لاينبغي لك .

ولكن الكلام في ان هذا المعنى هل يعم الاحكام الالزامية وغيرها او لا؟

وبعبارة اخرى هل ان ترك الواجبات فقط لايناسب المسلم او ان ترك المكروهات ايضاً لايناسب المسلم إذ المناسب للمسلم ان يلتزم بكل مرادات الشارع سواء كانت مرادات الزامية او غير الزامية ؟

ولعل الثاني هو الأظهر أي لوبقينا نحن وهذه الكلمة فلايمكن استفادة الاستحباب منها كما لايمكن استفادة الوجوب إذ كل منهما لاينبغي للانسان المسلم .

وعليه (لاينبغي) لاتنافي الوجوب حيث يدل الدليل عليه ، نعم حيث لايوجد دليل على الوجوب يأتي هذا التشكيك في ان لها ظهور في الوجوب او ليس لها ظهور في الوجوب.


[1] البقرة/السورة2، الآية282.
[2] وسائل الشيعة(آل البيت) ج27، ص309، باب1، ح1.
[3] نفس المصدرح2.
[4] وسائل الشيعة(آل البيت) ج27، ص310، باب1، ح5.
[5] نفس المصدر ص311، باب1، ح7.
[6] نفس المصدر ج27، ص311، باب1، ح8.
[7] يس/السورة36، الآية69.