الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

32/12/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المسالة/5/الكلام في/قاضي التحكيم

كان الكلام في صورة ما إذا لم يتمكّن الشخص من أخذ حقّه إلا بالترافع إلى حكّام الجور المعبّر عنها بصورة الاضطرار وتقدّم استعراض أدلة الجواز وكان البحث في خصوص الدليل الأول منها الذي هو في واقعه تمسّك بالأصول المؤمّنة لكن بعد إخراج صورة الاضطرار من أدلة المنع والتحريم فإنه بعد عدم شمول هذه الأدلة لحال الاضطرار فحينئذ يُشكّ في ثبوت الحرمة في هذه الصورة فتجري الأصول النافية - كالبراءة - للتأمين عنها في هذه الصورة حيث بُيّن في هذا الدليل أن ما يدلّ على المنع مختص بصورة الاختيار وليس فيه إطلاق يشمل حالة الاضطرار وقد بيّنا كيفية دلالة هذه الروايات على ذلك ولكن قلنا إنه في المقابل قد يقال بوجود بعض الأدلة المطلقة التي تدلّ على المنع مطلقاً [1] فحينئذ لا يمكن الرجوع إلى البراءة [2] وقلنا إنه قد ذُكرت في المقام آيتان كمثال على الأدلة المطلقة وقد تقدّم الكلام حول الآية الأولى وبيّنا أنه لا إطلاق لها .

وأما الآية الأولى وهي قوله تعالى : (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به) فقد بيّنا تقريب الاستدلال بها بما حاصله أن المفهوم من الآية أن الامتناع عن التحاكم إلى الطاغوت هو من لوازم الإيمان بما أُنزل إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وما أُنزل من قبله ومن بعض ما أُنزل إليه (صلى الله عليه وآله) الأُمر بالكفر بالطاغوت فلا يجتمع الإيمان مع التحاكم إلى الطاغوت فتدلّ الآية على المطلوب وهو المنع من التحاكم إلى الطاغوت بأوضح عبارة وأبلغها ويُدّعى في هاهنا أن هذا المنع مطلق يشمل حالتي الاختيار والاضطرار .

ولكن يمكن الخدشة في هذا التقريب بأن سياق الآية الشريفة - بضميمة ما ذُكر قبلها من الآيات كقوله تعالى : (وإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول) – يُبيّن أنها تتحدّث عن جماعة معيّنة تدّعي أنها تؤمن بما أُنزل إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وما أُنزل من قبله لكنها في الوقت نفسه تتحاكم إلى الطاغوت ومن الواضح أن هذه الجماعة كان بإمكانها أن تتحاكم إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) فتكون مختصّة بصورة الاختيار وتدلّ على المنع عن التحاكم إلى الطاغوت في خصوص هذه الصورة ولا إطلاق لها لتشمل صورة الاضطرار .

ومن هنا يبدو أن الدليل الأول[3] تام بمعنى أن الأدلة الدالة على تحريم التحاكم إلى الطاغوت ليس فيها إطلاق يشمل حالة الاضطرار - كما صرّح بذلك المحقّقون من علمائنا – فتخرج صورة الاضطرار من حيّز أدلة المنع فينفتح المجال لجريان الأصول المؤمّنة لتنفي الحرمة فيثبت الجواز .

الدليل الثاني[4] : إنه بعد التنزّل والتسليم بدلالة الدليل على المنع من التحاكم الى الطاغوت مطلقاً [5] نلجأ إلى التمسّك بأدلة نفي العسر والحرج ونفي الضرر وأمثالها ممّا يكون حاكماً على الأدلة الأولية بلا إشكال فإنه عندما يتحقّق موضوعها من العسر والحرج والضرر ونحوها من العناوين الثانوية تتقدّم بالحكومة على أدلة الأحكام الأولية فتكون رافعة للحرمة مطلقاً ومُثبتة للجواز تكليفاً ووضعاً فلا إثم في التحاكم إلى الطاغوت في صورة لزوم الحرج والضرر عند عدم التحاكم إليه كما لا حرمة لأكل المال المأخوذ بحكمه .

وإذا استُشكل في هذا الدليل بدعوى عدم تحقّق الحرج في جميع الموارد عند عدم التحاكم إلى الجائر فلا ريب أنه لا يمكن الاستشكال في تحقّق الضرر لأن هذا الشخص المفروض عدم تمكّنه من أخذ حقه بالترافع إلى الحاكم العادل إذا مُنع من استنقاذ حقّه بالتحاكم إلى القاضي الفاقد للشرائط يكون قد فات عليه استرداد حقّه من خصمه فإن لم يكن مثل هذا في جميع الحالات حرجياً إلا أنه في جميعها ضرري وأدلة نفي الضرر تكون موجبة لانتفاء الحرمة وإثبات الجواز في محلّ الكلام ، على أنه يكفي في المقام تمامية الدليل الأول لإثبات الجواز لو نوقش في صدق تحقق الضرر أيضاً في جميع الموارد .

هذا كله في صورة كون المدّعي للحق - الذي يراد تجويز التحاكم الى الطاغوت له في صورة الاضطرار - عالماً بثبوت حقه واقعاً أو تعبّداً كما لو أفتى مجتهده بثبوت حقٍّ له في هذا المال أو قامت عنده البيّنة على أن له مقداراً من المال عند زيد - مثلاً – ففي كلتا الحالتين يجوز له التحاكم إلى الجائر لاستنقاذ حقّه ويحلّ له المال المأخوذ بحكمه .

وأما إذا فُرض أنه لم يكن عالماً بذلك لا واقعاً ولا تعبّداً ففي هذه الحالة هل يجوز له الترافع عند الجائر إذا لم يتمكن من الترافع عند الحاكم العادل وهل يحلّ له أخذ المال بحكمه ؟

الظاهر عدم الجواز مطلقاً [6] ، والسبب في ذلك هو الاستشكال في صدق الاضطرار المسوّغ للجواز في المورد لأن المقصود بالاضطرار كما فُسّر في كلماتهم هو أن لا يتمكّن من استنقاذ حقّه إلا بالترافع عند الحاكم الجائر وهذا لا يصدق إلا عندما يكون عالماً بثبوت حقّه وأما إذا كان شاكاً في أن له حقّاً عند زيد - مثلاً - فلا يصدق الاضطرار حينئذ فلا يكون هذا مستثنى من الأدلة بل يكون مشمولاً لأدلة المنع وتحريم الرجوع إلى الطاغوت ومقتضى هذه الأدلة حرمة الرجوع إليه والتحاكم عنده وبالتالي حرمة أخذ المال الذي يحكم به له .

وهاهنا مطلب ذكره غير واحد من علمائنا (رض) وهو منقول عن المحقق السبزواري (قده) وحاصله الاستشكال في الجواز الذي انتهينا إليه في صورة الاضطرار[7] ببيان أن الحكم من قبل الجائر هو فعل محرّم والترافع إليه يُعدّ إعانة له على الإثم فيكون منهياً عنه ومحرّماً .

وقد نوقش في هذا الكلام من قبل المحققين وعمدة الإشكال فيه أن الإعانة مأخوذ في مفهومها قصد تحقق الفعل المُعان عليه ولذا لا تصدق في مورد تهيئة الشخص للمقدمات التي يُرتكَب معها الحرام من قبل غيره إذا لم يكن من قصده ذلك والإعانةُ لا تصدق في محلّ الكلام لأن المفروض أن قصد المدّعي هو استنقاذ حقّه وليس من قصده إعانة الجائر على الحرام المتمثّل بقضائه .

ولو تنزّلنا وسلّمنا صدق الإعانة في المقام فتكون محكومة لأدلة نفي الحرج والضرر إذ لا يُفرّق في الدليل المحكوم لها بين أن يكون هو حرمة التحاكم إلى الطاغوت أو يكون هو حرمة الإعانة على الإثم ففي الموردين تُخرج هذه الأدلة حالات الحرج والضرر من تحت أدلة المنع والتحريم لتكون النتيجة هو الحكم بالجواز .

وبهذا يتمّ الكلام في المقام الأول – حيث تقدّم في بداية البحث أن الكلام يقع في مقامين : كان أولهما في القاضي المنصوب والشرائط المعتبرة له والدليل على نصبه - .

المقام الثاني : في قاضي التحكيم .

والكلام هنا في أن الشرائط المفروغ عن اعتبارها في القاضي المنصوب هل تكون معتبرة أيضاً في قاضي التحكيم - كلاًّ أو بعضاً - أم لا ؟

والمراد بقاضي التحكيم الشخص الذي يتراضى به الخصمان على تقديم الدعوى إليه والفصل فيها لديه ، ولا إشكال في أن نفوذ حكمه - على تقدير القول به[8] - يكون في طول التراضي والتوافق على الرجوع إليه فلو لم يتراض الطرفان به فلا يكون حكمه في حقّهما نافذاً .. ومن هنا يختلف عن القاضي المنصوب فإن الأخير لا يكون نفوذ حكمه في طول التراضي بين الخصمين فلو فُرض أن أحد الخصمين لم يرض بحكمه مع ذلك ينفذ حكمه في حقّه ويكون ملزماً بتنفيذه .

وعليه فبالإمكان القول إنه يُعتبر في قاضي التحكيم أن لا يكون منصوباً بالنصب الخاص ولا بالنصب العام لأنه بمجرد أن يكون منصوباً بأحد النصبين فلا إشكال في أن نفوذ حكمه لا يكون في طول التراضي حينئذ ، وليس مقصودنا من ذلك أنّا لا نحتاج إلى إقامة الدليل على الإذن لقاضي التحكيم في قضائه ونفوذ حكمه إذ لا يكفي في مجرد تراضي الطرفين بهبل لا بد من إثبات ذلك بالدليل كما هو الحال في القاضي المنصوب غاية الفرق بينهما ما ذكرناه من كون نفوذ حكم الأول في طول التراضي بخلاف الثاني .

وبناءً على ما تقدّم نقول : إنه يمكن تصوّر قاضي التحكيم وتحقّقه في زمان الغيبة وذلك بأن يرجع المتخاصمان إلى شخص فاقد لبعض الشروط المعتبرة في القاضي المنصوب شريطة أن لا تكون من الشروط المعتبرة في نفس القضاء وفصل الخصومة بل تكون من الشرائط المعتبرة في منصب القضاء وإلا فلا يمكن حينئذ تصوّر قاضي التحكيم في زمان الغيبة لأنه إذا كان يُعتبر فيه كل ما يُعتبر في القاضي المنصوب من الشرائط فحينئذ يقال إنه إذا كان جامعاً لكل تلك الشرائط يكون في الحقيقة قاضياً منصوباً فلا يمكن حينئذ تصور قاضي التحكيم بهذا العنوان أصلاً وإن لم يكن جامعاً للشرائط فلا يكون حكمه حينئذ نافذاً لتوقّف نفوذ حكمه على جامعيته للشرائط وهو غير جامع لها بحسب الفرض وعليه فينحصر تصور قاضي التحكيم في زمان الغيبة في ما إذا كان من يتراضى به الخصمان حكماً بينهما فاقداً لبعض الشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب على أن لا تكون من الشرائط المعتبرة في نفس القضاء وفصل الخصومة فبعدم جامعيته للشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب لا يكون حينئذ من هذا القبيل كما لو كان فاقداً لشرط الاجتهاد وبكون ما يفتقده من الشرائط ليس من قبيل ما يُعتبر في أصل القضاء يكون حكمه نافذاً في حقّ من تراضيا به كما لو كان فاقداً لشرط العدالة .

فالنتيجة أنّا إذا قلنا بأنه يُعتبر في قاضي التحكيم جميع ما يُعتبر في القاضي المنصوب فيتّجه الإشكال بعدم إمكان تصوّر قاضي التحكيم في زمان الغيبة لأن الشخص إن كان واجداً لجميع تلك الشرائط فهو قاض منصوب وإلا فهو قاض جائر ، وأما إذا قلنا بأنه لا يُعتبر في قاضي التحكيم جميع ما يُعتبر في القاضي المنصوب بل المعتبر فيه خصوص ما هو معتبر في أصل القضاء وفصل الخصومة فحينئذ يمكن البحث في نفوذ حكمه بحسب الأدلة وعدمه وهذا ما سيظهر من خلال استعراض الأدلة الدالة على ذلك .

 


[1] أي الشامل لصورتي الاختيار والاضطرار.
[2] لطولية الأدلة اللفظية على الأصول العملية.
[3] وهو التمسّك بالأصول المؤمّنة لنفي الحرمة في صورة الاضطرار.
[4] مما يُستدلّ به على الجواز في صورة الاضطرار.
[5] أي سواء في صورة الاختيار أو في صورة الاضطرار.
[6] أي تكليفاً فيترتب الإثم عند التحاكم إلى الجائر ووضعاً بمعنى عدم حلية المال المأخوذ بحكمه.
[7] وأما في صورة الاختيار فلا إشكال عندهم في التحريم.
[8] وهذه مسألة سيأتي الحديث عنها وبيان أدلتها ومدى تماميتها (منه دامت بركاته).