الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

32/12/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: القضاء/المسالة5/المقام الاول/النصب العام/الجهة الثاية/شرائط نصب القاضي/تبيهات

كان الكلام في التفصيل الثالث بين الدين والعين وذكرنا كلمات الفقهاء في هذا المجال وهنا لا بد من التنبيه على أن المفروض في محلّ الكلام كون العين ملكاً للمدّعي فيجوز له أخذها متى تمكّن منها حتى قبل حكم الحاكم ولم تخرج عن ملكه بالتداعي إليه ، والحكمُ بصيرورة هذه العين سحتاً وحراماً على صاحبها بمجرد أن الجائر حكم باستحقاق العين له أمر يصعب جداً الإذعان به بخلاف الدين لأن الدين كلي في الذمة والكلي في الذمة لا يتشخّص في العين الخارجية إلا برضا المدين الذي هو المدّعى عليه في المقام فالمأخوذ في باب الدين ليس هو ممّا يستحقّه الدائن إلا بعد التشخيص ورضا المدين به ، وأما إجبار المدين على التشخيص وعدم الاعتناء برضاه[1] ومن ثمّ أخذ العين منه قهراً وإكراهاً على أنها مصداق لذلك الكلي في الذمة فيمكن القول بأنه سحت لا يجوز أخذه بحكم الحاكم الجائر لأن دفع هذه العين الخارجية إليه على أنها بدل عن الكلي في الذمة إنما كان بحكم الحاكم الجائر فيكون سحتاً وحراماً وعلى هذا الأساس يمكن التفريق بين العين والدين فيكون منشأً لهذا التفصيل .

ولكن يمكن أن يُلاحظ على هذا الكلام أنه إنما يكون وارداً وتكون له صورة مقبولة عندما يُفترض أن إجبار المدين كان متعلّقاً بالتشخيص نفسه فيقال حينئذ إن هذا التشخيص لم يصدر منه عن رضا فيكون المأخوذ سحتاً ، وأما إذا فرضنا أن الإكراه والإجبار لم يكن على التشخيص وإنما كان على أداء الدين وإن كان التشخيص لازماً له فلا يضرّ مثل هذا بصحة التشخيص نظير ما إذا أُكره على أن يدفع غرامة للظالم وكان لازم ذلك أن يبيع بيته لعدم تمكّنه من دفع الغرامة إلا ببيع البيت حيث لم يستشكل هاهنا أحد في صحة هذا البيع مع كونه لازماً لدفع تلك الغرامة التي أُكره عليها ، وفي المقام لمّا كان المفروض أن إكراه الحاكم إنما كان على دفع الدين لا على تشخيص ما ينطبق عليه وإن كان لازماً له لم يكن هذا بضائر في صحة هذا التشخيص وبالتالي لا يبقى فرق بينه وبين العين إلا في صورة الإكراه على نفس التشخيص وهو ما لم يُفرض في المقام لندرته بل حتى لو فرضنا أن الإكراه وقع على التشخيص إلا أن من الواضح أنه إنما يقع على التشخيص الكلي الذي له مصاديق متعددة ولا يقع على تشخيص معيّن فلا يتعلّق الإكراه بالتشخيص الخارجي الذي يتحقق بأداء الدين إلى الدائن فإذا لم يكن ثمة إشكال في صحة التشخيص الخارجي الذي هو لازم للأداء المُكرَه عليه فمن باب أولى لا إشكال في ما إذا كان اللازم للأداء المُكرَه عليه هو التشخيص الكلي وبالنتيجة لا يبقى فرق واضح بين الدين والعين وعليه فيمكن الالتزام بأن المأخوذ ممّا قد صحّ فيه التشخيص ورضي المدين بأدائه إلى الدائن وإن كان مُكرَهاً على أصل أداء الدين فلا وجه لأن يكون المدفوع سُحتاً من هذه الجهة .

والمهم في المقام[2] هو النظر إلى ما تمسّكنا به من الدليل لإثبات حرمة ما يؤخذ بحكم الحاكم الجائر في محلّ الكلام لمعرفة مدى اختصاصه بالدين ليُقتصر في الحكم بالحرمة عليه أو شموله للعين والدين فيُلتزَم بحرمة كل منهما ولا يُفرّق بينهما ، فنقول :

لا إشكال في شمول الدليل للدين فإن المقبولة واردة في المنازعة في دين فيكون القدر المتيقّن منها هو موردها وإنما الكلام في شمولها للعين أيضاً فقد يقال بشمولها لها لأن ما عُطف في المقبولة على الدين هو الميراث وهو بإطلاقه يعمّ العين[3] فحينئذ تدل الرواية على حرمة الأخذ في العين كما دلّت على الحرمة في الدين .

وقد يقال في مقابله بعدم الشمول لوجوه عدّة :

الأول : دعوى أن السُحت لغةً هو مال الغير المحرّم وهذا لا يصدق في ما إذا كان المتنازع فيه عيناً لعدم صدق مال الغير عليه لفرض أن المدعي جازم بكون العين ملكه وليست للغير فلا يصدق حينئذ على ماله أنه سحت ومن هنا تكون الرواية غير شاملة للعين فتختصّ بالدين .

الثاني : أن يقال إن قوله (عليه السلام) في الرواية : (وإن كان حقّه ثابتاً) واضح في كونه ديناً لا عيناً لأنه عبّر عنه بالحقّ وهو يناسب الدين دون العين فتكون الرواية مختصّة بالدين وغير شاملة للعين .

الوجه الثالث : ما تقدّمت الإشارة إليه من استبعاد أن يكون الحكم بالتحريم وسُحتية المأخوذ ثابتاً في العين إذ ليس في البين ما يوجب الحكم عليها بذلك - بعد اعتقاد المدّعي أنها له وأنها لم تخرج عن ملكه بأيّ ناقل وأنه كان يجوز له أخذها لو تمكّن منها - إلا حكم الحاكم الجائر بأنها له وهذا بمجرّده لا يجعلها سُحتاً ولا يوجب تحريمها على مالكها فحينما تؤكّد الرواية على كون المأخوذ حراماً وسُحتاً فلا بد أن تكون ناظرة إلى الدين لا إلى العين .

هذه وجوه ثلاثة ذُكرت في كلماتهم واستُدلّ بها على عدم شمول الرواية للعين .

وأقول : يمكن الخدشة في كلّ واحد من هذه الوجوه الثلاثة :

أما الأول : فبمنع كون السحت في اللغة هو مال الغير المحرّم بل هو الحرام مطلقاً كما في الصحاح[4] والعين[5] وهو وإن كان قد يوصف أحياناً ببعض الأوصاف لكن ليس بما ذُكر من كونه مال الغير .

وأما الثاني : فالظاهر أن المراد بالحقّ هو الاستحقاق مطلقاً لا ما يقابل العين بالخصوص – كما ذُكر - فالمقصود بقوله (عليه السلام) : (وإن كان حقه ثابتاً) هو أن ما حكم به الحاكم الجائر حرام عليه وإن كان هو مستحقاً له ، ومن الواضح أن هذا المعنى أعمّ من الدين والعين .

وأما الثالث - الذي هو مذكور في كلمات أكثر من ذهب إلى هذا التفصيل - : فيمكن أن يلاحظ عليه بأنّا لا نُنكر عدم خروج العين عن ملكه بحسب اعتقاده وأنه كان يجوز له أخذها إلا أن المفروض في محلّ الكلام أن المُدّعى عليه يُنكر استحقاق المُدّعي لهذه العين ولهذا يمتنع عن دفعها إليه وإنما يُضطرّ إلى تسليمها إليه نتيجة حكم الحاكم الجائر فيكون أخذ المدّعي لها مستنداً إلى حكم الجائر ومن الممكن أن يكون الحكم بالتحريم والسحتية بلحاظ هذا الأمر[6] بحيث لولا حكم الحاكم الجائر لم يتمكّن المدّعي من أخذها .

وبعبارة أخرى أن الرواية بصدد النهي عن التحاكم إلى الطاغوت وإلى أئمة الجور والنهي عن الترافع إليهم وتحريم كل ما يؤخذ من الغير استناداً إلى أحكامهم وإن كان حقّ الآخذ فيه ثابتاً ولا مانع ثبوتاً من أن يكون هذا ملاكاً خاصّاً لتحريم كل ما يؤخذ بحكم الحاكم الجائر ومن الواضح أن هذا كما يجري في الدين يجري في العين أيضاً .

والحاصل أن الشارع المقدّس لم يجوّز سلوك مثل هذا الطريق لأخذ ما هو حقّ للشخص وذلك لمنع مفاسد معلومة لديه كتأييد الجور والظلم وعلى ذلك فلا بد أن نعمل بهذه الرواية ونلتزم بالحرمة مطلقاً سواء كان الآخذ محقّاً أم لم يكن[7] وسواء كان المتنازع فيه ديناً أم عيناً [8] .

هذا كلّه في حال الاختيار وتبيّن أن الصحيح هو ثبوت الحرمة التكليفية والوضعية في المقام فلا يجوز التحاكم إلى الطاغوت وأن ما يؤخذ بحكمه حرام وسحت مطلقاً [9] ، وأما في حال الاضطرار إلى ذلك[10] فهل ترتفع الحُرمتان[11] أم لا ترتفعان أم أن في البين تفصيلاً ؟

هذا ما سوف يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .

 


[1] والحال أنه لا يرضى لفرض عدم اعترافه بأصل الدين.
[2] أي في هذا التفصيل الثاني بين العين والدين.
[3] لأن الميراث قد يكون عيناً خارجية وقد لا يكون.
[4] الصحاح مج1 ص252.
[5] العين مج3 ص132.
[6] وهو كون الأخذ مستنداً إلى الحاكم الجائر.
[7] هذا بلحاظ التفصيل الأول.
[8] هذا بلحاظ التفصيل الثاني.
[9] أي لا يحلّ للآخذ سواء كان مستحقّاً له أو غير مستحق وسواء كان المأخوذ ديناً أو عيناً.
[10] أي إلى التحاكم إلى الطاغوت.
[11] أي التكليفية والوضعية.