الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

32/11/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:

تقدّم منّا ذكر الرأي المعروف والمشهور في المسألة وهو اشتراط الاجتهاد في القاضي والاستدلال عليه ولا بأس بذكر ما يؤيد فهم اشتراط الاجتهاد من مقبولة ابن حنظلة المتقدمة وهو أن في ذيل هذه الرواية بعد فرض التعارض بين الحكمين وتقديم بعض المرجّحات تصل إلى فقرة يسأل فيها السائل الإمام (عليه السلام) بقوله : (أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفاً لهم بأيّ الخبرين يؤخذ ؟ قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد ..)[1] حيث يُفهم من هذا أن السائل فهم من قول الإمام (عليه السلام) في صدر الرواية : (ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا) الفقاهة إذ قد عبّر عن الحاكم الذي فُرض في الرواية كونه ممن روى حديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم بأنه فقيه بل إن قول الإمام (عليه السلام) قبل ذلك حينما سأله السائل : (فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا في ما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما) حيث يُفهم من ذلك الفراغ عن فرض فقاهة الحاكم كما فهمنا ذلك بالنسبة إلى العدالة فيُفهم من ذلك كله أن الفقاهة هي المنظور إليه بما ذكره الإمام (عليه السلام)من القيود .

وأمّا الرأي الآخر – وهو عدم اشتراط الاجتهاد في القاضي - فالظاهر أن أهم من تبنّاه ودافع عنه هو الشيخ صاحب الجواهر (قده) حيث ذكر في ضمن كلام طويل له في مقام الاستدلال على رأيه : " إن المستفاد من الكتاب والسنة صحة الحكم بالحق والعدل والقسط من كل مؤمن " يعني سواء كان مجتهداً أم لم يكن وإنما المهم أن يحكم بالحق والعدل والقسط ثم ذكر آيات قرآنية وروايات قال إنها ظاهرة في هذا نحو قوله تعالى : (إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)[2] ، وقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا)[3] ، وقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين .. فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)[4] ، ومفهوم قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) وفي أخرى (هم الكافرون) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة فإن مفهومه أن من يحكم بما أنزل الله فليس هو من الفاسقين ولا من الكافرين .

وذكر من النصوص قول الإمام الصادق (عليه السلام) في مرفوعة تقدّم نقلها أوّلها : (القضاة أربعة) وفي ذيلها قوله : (ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة) فإن هذا عام ولا يختص بالمجتهد إذ أن المقلّد عندما يأخذ الحكم من مجتهده – بعد فرض كون الاجتهاد والتقليد صحيحين – فهو يقضي بالحقّ عن علم أيضاً .. إلى غير ذلك من النصوص التي ذكرها الدالة بحسب رأيه على أن المدار هو الحكم بالحقّ الذي هو عند محمد (صلى الله عليه وآله) وعند أهل بيته (عليهم السلام) فكل من المجتهد والمقلّد إذا قضيا فعن حجة معتبرة [5] وحكمهما حكمٌ بما أنزل الله بحسب الموازين الشرعية فيكون نافذاً .

ثم ذكر أنه يندرج في ما تقدّم من الحكم بالحقّ والعدل والقسط مَن سمع منهم أحكاماً خاصة وحكم فيها بين الناس فيكون حكمه جائزاً وصحيحاً وفق الأدلة السابقة وإن لم يكن له مرتبة الاجتهاد ، ثم قال مترقّياً عن حالة السماع من المعصومين (عليهم السلام) إلى حالة وصول الأحكام من غير طريق السماع فقال : (بل قد يقال باندراج مَن كان عنده أحكامهم بالاجتهاد الصحيح أو التقليد الصحيح وحكم بها بين الناس كان حكماً بالحق والقسط والعدل) فلا مشكلة على هذا في التمسّك بهذه الأدلة لإثبات جواز الحكم بالنسبة إلى المقلّد في ما وصله من أحكامهم (عليهم السلام) سواء عن طريق القطع أو عن طريق الاجتهاد أو عن طريق التقليد فيجوز له أن يحكم بهذه الأحكام .

نعم .. ذكر (قده) اعتراضاً على نفسه وحاصله :

أن لدينا أدلة تقول بتوقّف القضاء على إذن الإمام (عليه السلام) فتكون مانعة من الأخذ بإطلاق تلك النصوص المتقدمة فلا يسعنا إلا تقييدها بالإذن الذي لم يثبت إلا للمجتهد أو يقال بحملها[6] على إرادة الأمر بالمعروف ونحوه مما ليس فيه قضاء وفصل .. وعلى كلا التقديرين لا يصحّ الاستدلال بها على أهلية المقلّد للقضاء :

أما على التقدير الأول : فلعدم الإذن للمقلّد في القضاء .

وأما على الثاني : فتكون خارجة عن محلّ الكلام لاختصاصها حينئذ بباب الأمر بالمعروف فتكون أجنبية عمّا نحن فيه حتى لو فُرض أن المخاطب بها هو المجتهد والمقلّد .

وتكفّل (قده) الجوابَ عن هذا الاعتراض بعدة أجوبة :

الأول : إن تلك النصوص مفادها الإذن لشيعتهم في الحكم بين الناس بأحكامهم الواصلة إليهم أعمّ من أن تكون واصلة عن اجتهاد أو تقليد ، ثم استشهد على جواز الحكم لكل أحد بما حكم به النبي (صلى الله عليه وآله) بروايةٍ لعبد الله بن طلحة عن الصادق (عليه السلام) يأذن الإمام فيها للسائل بأن يقضي بما حكم النبي (صلى الله عليه وآله) به[7] .

الجواب الثاني : إن غاية ما تدلّ عليه الروايات المشار إليها – وفي مقدمتها المقبولة – أنها تضمّنت الإذن للمجتهد إلا أن هذا لا يعني خروج المقلّد عن الأهلية لتسنّم هذا المنصب .

وبعبارة أخرى : أن هذه الروايات تدل على الإذن للمجتهد بالقضاء ولكن ليس لها دلالة على عدم أهلية المقلّد لتسنّم القضاء فغاية ما في المقام أن هذه الأدلة لا تشمل المقلّد إلا أن هذا لا يعني أن المقلد ليس أهلاً لتسنّم هذا المنصب بل يمكن إثبات أهلية المقلّد لتسنّم هذا المنصب عن طريق الإذن من المجتهد نفسه أي أن المجتهد إذا أذن للمقلد في أن يحكم بين الناس فيُصبح هذا المقلد مأذوناً ولا يكون حينئذ ثمة فرق بينه وبين المجتهد في أن كلاً منهما مأذون غاية الأمر أن المجتهد مأذون بحسب النصّ والمقلّد يكون مأذوناً باعتبار إذن الفقيه والمجتهد له في فصل الخصومات والحكم بين الناس بل إنه بناءً على القول بالولاية العامة للفقيه يكون كالإمام (عليه السلام) فكما أن الإمام (عليه السلام) يمكن أن يأذن لشخص بالحكم بين الناس ولو لم يكن مجتهداً كما تدل عليه الروايات السابقة كرواية عبد الله بن طلحة فيمكن للفقيه أيضاً باعتبار ولايته العامة حتى على منصب القضاء أن يأذن للمقلد بأن يحكم بين الناس فالمقبولة وإن اختصّت بالمجتهد إلا أنها لا تنفي أهلية المقلّد لتسنّم هذا المنصب لأن لسانها ليس لسان الحصر لينعقد لها مفهوم بالنفي .

الجواب الثالث : التشكيك في أن أدلة النصب العامة مثل المقبولة والمعتبرة والتوقيع الشريف بناءً على دلالتها على النصب العام – وإن تقدّمت منّا المناقشة فيه – ببيان أنها جميعاً ليست ناظرة إلى القضاء وإنما هي ناظرة إلى الحكومة والولاية العامة فهي وإن تضمّنت اشتراط الاجتهاد إلا أنها تشترطه في الحاكم لا في القاضي فلا يمكن إذاً دعوى أن هذه الروايات يختص الإذن فيها في باب القضاء بخصوص المجتهد لأنها ليست ناظرة أصلاً إلى القضاء فتبقى المطلقات على حالها من شمولها للمجتهد والمقلد على حدّ سواء ولكن في مورد الحكومة والولاية العامة ، واستشهد (قده) على ذلك بأن التعبير الوارد في المقبولة إنما هو(جعلته حاكماً) لا (جعلته قاضياً) معزّزاً ذلك بالاستشهاد بالتوقيع الشريف على كون النظر إلى باب الحكومة والولاية العامة لا إلى باب القضاء .

هذا ملخّصاً توضيح رأي الشيخ صاحب الجواهر (قده) في هذه المسألة ، وقد ناقش في ما ذكرناه عنه كلُّ من تأخّر عنه وتعرّض لهذه المسألة مبدياً ملاحظات عديدة عليه ونحن نقتصر على المهمّ منها :

فأما ما ذكره أولاً من الاستدلال بالآيات والروايات على صحة الحكم بالحقّ لكل مؤمن فليس بتام وذلك لوضوح أن تلك الأدلة - باستثناء واحد منها - ليست في مقام تعيين من يجوز له الحكم بالحقّ وإنما هي في مقام بيان لزوم الحكم بالحق والعدل والقسط في مقابل الحكم بالباطل والظلم والجور لا في مقام بيان من الذي يحكم بالحقّ فهي تبيّن لزوم كون الحكم على طبق الموازين الشرعية لاسيما قوله تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) فإنه في مقام بيان لزوم الحكم بما أنزل الله والمنع من الحكم بما لم يُنزل وترتّب أثر الفسق على من لم يحكم بما أنزل ، وأما تعيين من الذي يحكم هل هو مطلق من وصله ذلك الحكم عن اجتهاد أو تقليد أو قطع أم هي فئة خاصة تستطيع أن تحكم بالحق عن طريق الاجتهاد فالآية ليست بصدد بيان ذلك فلا يصحّ التمسّك حينئذ بإطلاقها لجواز الحكم بالحقّ لكل أحد سواء عَلِمه عن اجتهاد أو تقليد ، والفرق الدلالي شاسع بينها وبين المقبولة في كون الأخيرة في مقام تعيين من يجوز الترافع إليه حيث تنهاه عن الترافع إلى الطاغوت وتأمره بالترافع إلى من نظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم .

وكذا يقال بالنسبة إلى الآيات التي ذكرها كقوله تعالى : (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) فإنها ناظرة إلى تعيين كيفية الحكم وليست ناظرة إلى تعيين من هو الحاكم فلا يصح كذلك التمسّك بإطلاقها من هذه الجهة .

نعم .. في خصوص رواية (القضاة أربعة ..) - التي تقدّم نقلها - حيث ورد في ذيلها : (ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة) فهي في مقام بيان من يجوز له أن يقضي بالحق حيث نصّت على بطلان قضاء ثلاثةٍ فهم في النار وعلى صحة قضاء واحد فهو في الجنة وهو من (قضى بالحق وهو يعلم) فيُتمسّك بإطلاق (يعلم) في شموله للعلم الاجتهادي والعلم الحاصل عن تقليد لولا أن هذه الرواية غير تامة سنداً .


[1] الكافي مج1 ص68.
[2] النساء / 58.
[3] المائدة / 8.
[4] النساء / 135.
[5] غاية الفرق بينهما أن الحجة لدى المجتهد هي إعمال نظره ولدى المقلّد هي ما يأخذه من مجتهده من الأحكام .
[6] أي تلك النصوص المطلقة.
[7] علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن حفص عن عبد الله بن طلحة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " قال : سألته عن رجل سارق دخل على امرأة ليسرق متاعها فلما جمع الثياب تابعته نفسه فكابرها على نفسها فواقعها فتحرك ابنها فقام فقتله بفأس كان معه فلما فرغ حمل الثياب وذهب ليخرج حملت عليه بالفأس فقتلته فجاء أهله يطلبون بدمه من الغد، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : اقض على هذا كما وصفت لك فقال : يضمن مواليه الذين طلبوا بدمه دية الغلام ويضمن السارق في ما ترك أربعة آلاف درهم بمكابرتها على فرجها إنه زانٍ وهو في ماله عزيمة وليس عليها في قتلها إياه شيء قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من كابر امرأة ليفجر بها فقتلته فلا دية له ولا قود " .الوسائل مج29 ص62 الباب الثالث والعشرين من أبواب القصاص الحديث الثاني، وفي الفقيه مج4 ص164، والتهذيب مج10 ص209 باختلاف يسير فيهما.