95/11/27
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: الكلام في الاُصول بحسب مقام الإثبات
قال المحقّق الخميني في «تهذيب الاُصول»: (ولكن إدخال هذا الفرد يحتاج إلى تكلّفٍ خارجٍ عن محور المخاطبة، وعلى أيّ فرضٍ فلا محيص في الاحتمالين الأخيرين إلاّ بجعل الغاية علماً تفصيليّاً، لا لكون مادّة المعرفة ظاهرة في مقام التشخيص في المميّزات الشخصيّة التي لا تنطبق إلاّ على العلم التفصيلي، ولا لأنّ قوله: (تعرف)، ظاهرٌ في ذلك وإن كان كلّ ذلك وجيهاً، بل لأنـّه على فرض كونه متعرّضاً لخصوص العلم الإجمالي، لا معنى لجعل الغاية أعمّ من العلم التفصيلي، وعلى فرض كونه أعمّ لا معنى لجعل الغاية أعمّ أيضاً؛ لأنّ لازمه أنّ المشتبه البدوي حلالٌ حتّى يُعلم إجمالاً أو تفصيلاً أنـّه حرام، والمعلوم الإجمالي حلالٌ حتّى يُعلم تفصيلاً أنـّه حرام، مع أنـّه باطل بالضرورة؛ لأنّ لازم جعل الغاية أعمّ تارةً والعلم التفصيلي اُخرى التناقض، أيّ حليّة المعلوم بالإجمال وحرمته.
وإن كان المراد المشتبه البدئي حلالٌ حتّى يعلم إجمالاً وجود الحرام فيه، فحينئذٍ يرتفع حكمه ثمّ يندرج فيصغرىالمشتبه بالعلمالإجماليفهو حلالٌ إلى أن تعرفالحرامتفصيلاً،فهو وإنْكان مفيداً للمقصود، لكنّه أشبه شيء بالأُحجيهواللّغز.
أضف إلى ذلك: أنّ الظاهر أنّ قوله: (بعينه) قيدٌ للمعرفة، وهو يؤيّد كون العرفان لابدّ وأن يكون بالعلم التفصيلي.
ويؤيّده أيضاً: الفرق المعروف بين العرفان والعلم الإجمالي، فإنّ الأوّل لا يُستعمل إلاّ في الجزئي المشخّص، فعليه فالغاية للصدر الشامل للعلم الإجمالي ليس إلاّ العلم تفصيلاً بكون الحرام هذا الشيء المعيّن)، انتهى محلّ الحاجة[1] .
أقول: لقد أجاد رحمهاللهفيما أفاد،إلاّ أنّ الاحتمالات غير منحصرهفيالثلاثلأنـّه:
1 ـ تارةً قد يُراد من المشتبه الذي حُكم بحلّيته هو الشبهة البدويّة فقط، والغاية هو العلم الإجمالي، أي المشتبه بالشبهة البدويّة حلالٌ حتّى تعرف إجمالاً وجود الحرام فيه، فعلى هذا يكون العرفان بالتفصيلي داخلاً فيه قطعاً بالأولويّة، فدعوى كون العلم هنا هو الأعمّ يكون متّحداً بالنتيجة مع ما ذكرنا، غاية الفرق أحدهما يكون بالمنطوق وآخر بمفهوم الموافقة.
2 ـ واُخرى قد يُراد من المشتبه هو الشبهة البدويّة أيضاً، إلاّ أنّ المراد من الغاية هو العلم التفصيلي فقط، فالمشتبه البدويّ حلالٌ حتّى يحصل العلم تفصيلاً بحرمته فيحرم،فلازم ذلك عدمحرمة مشتبهٍ كان فيه علماًإجماليّاً أو السكوت عنه، فدعوى الاختصاص في المشتبه بالبدويّة فيه، ممّا لا وجه له، بعدما كان المشتبه في العلم الإجمالي مثله في الحكم من الحليّة، بخلاف ما لو كان ساكتاً عنه.
3 ـ وثالثةً قد يُراد من المشتبه هو الأعمّ من البدوي والمقرون بالعلم الإجمالي، ولكن تكون الغاية حينئذٍ منحصرة في العلم التفصيلي، وهذا ثالث الاحتمالات، ودعوى كونه من أقرب الاحتمالات لم يكن ببعيد، فلازمه أيضاً جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي، كما جُعل الترخيص في الشبهة البدويّة، لكن هذا يستلزم كونه مخالفاً للإجماع في المشتبه المقرون بالعلم الإجمالي في المحصورة.
4 ـ ورابعةً أن يُراد من المشتبه خصوص المقرون بالعلم الإجمالي، والغاية هو خصوص التفصيلي من العلم، حيث قد جعله المحقّق الخميني رحمهالله من أقرب الاحتمالات،وهو أيضاً مقتضاهالترخيص فيالأطراف،ويرد عليهالمحذور القبلي.
فإذا دار الاحتمال بين الأوّل بما ذكرنا، ـ والذي لازمه حرمة المعلوم بالإجمال ـ وبين الاحتمالات الثلاث الاُخر، المقتضى حليّته المعلوم بالإجمال، بطل الاستدلال.
اللهمَّ إلاّ أن نستند إلى لفظ (بعينه) ونجعل ذلك قرينةً صارفةً عن الاحتمال الأوّل، فيطرح ويدور الأمر حينئذٍ بين الاحتمالات الثلاث الاُخر، المقتضي لحليّة المعلوم بالإجمال، فيصير الحديث من أدلّة الترخيص، وهو غير بعيدٍ لولا الإجماع على خلافه. إلاّ أن يقال بالاحتمال الثاني مع السكوت عن حكم المشتبه في العلم الإجمالي ، ليكون حكمه كحكم العلم التفصيلي ، فلا يكون الحديث حينئذٍ مخالفاً للإجماع.
أمّا المحقّق الخميني: فقد التزم في «التهذيب» بأنّ احتمال الاختصاص بالمشتبه المقرون بالعلم الإجمالي قويٌّ وذلك بملاحظة بعض أخبار الجُبُنّ حيث كان الاشتباه فيه لأجل جعل الميتة في بعضها، كما يظهر من ما رواه أبو الجارود، قال: «سألتُ أبا جعفر عليهالسلامعن الجُبُنّ فقلت: أخبرني من رأى أنـّه يُجعل فيه الميتة؟
فقال: أمِن أجل مكانٍ واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرضين؟! إذا علمت أنـّه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبِع وكُل، والله إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللّحم والسّمن والجُبُنّ ، والله ما أظنّ كلّهم يُسمّون ، هذه البربر وهذه السودان»[2] .