درس خارج اصول استاد سیدمحمدعلی علوی‌گرگانی

95/01/28

بسم الله الرحمن الرحیم

ويحتمل الجريان بناءً على أنّ هذا المقدار من الحُسن العقلي يكفي في العبادة، ومنع توقّفها على ورود أمر بها، بل يكفي الإتيان به لاحتمال كونه مطلوباً أو كون تركه مبغوضاً،ولذا استقرّت سيره‌العلماءوالصلحاء فتوىً وعملاً على‌إعادة العبادات لمجرّد الخروج من مخالفة النصوص الغير المعتبرة والفتاوى النادرة).

ثمّ ذكر رحمه‌الله استدلال الشهيد في «الذكرى» لذلك بآيات التقوى مثل: «فَاتَّقُوا الله‌َ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، ثمّ قال بعد ذلك:

(والتحقيق: أنـّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبيّة في صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبيّة ولو إجمالاً فهو، وإلاّ فما أورده قدس‌سره في «الذكرى» كأوامر الاحتياط لا يُجدي في صحّتها، لأنّ موضوع التقوى والاحتياط الذي يتوقّف عليه هذه الأوامر لا يتحقّقُ إلاّ بعد إتيان محتمل العبادة، على وجهٍ يجتمع فيه جميعُ ما يعتبر في العبادة حتّى نيّة التقرّب، وإلاّ لم يكن احتياطاً، فلا يجوز أن تكون تلك الأوامر منشأً للقربة المنويّة فيها).

ثمّ رجع عنه بقوله:

(اللهمَّ إلاّ أن يقال بعد النقض بورود هذا الإيراد في الأوامر الواقعيّة بالعبادات، مثل قوله: «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ» حيث إنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطراً أو شرطاً، والمفروض ثبوت مشروعيّتها بهذا الأمر الوارد فيه؛ أنّ المراد من الاحتياط والاتّقاء في هذه الأوامر هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة، فمعنى الاحتياط بالصلاة،الإتيان بجميع ما يُعتبر فيها عدا قصد القربة، فأوامر الاحتياط يتعلّق بهذا الفعل، وحينئذٍ فيقصد المكلّف فيه التقرّب بإطاعة هذا الأمر)، إلى آخر كلامه رفع مقامه[1] .

    أقول: إنّه رحمه‌الله قد أتعب نفسه الزكيّة في بيان أصل الإشكال، وما يمكن أن يُجاب عنه، جزاه الله عنّا وعن أهل الإسلام خير الجزاء،ولكن يمكن أن يقرّر الإشكال في الاحتياط في باب العبادات مع احتمال الوجوب في وجهين:

الوجه الأوّل: ما قرّره الشيخ قدس‌سره من عدم إمكان التقرّب بعملٍ لا يعلم تفصيلاً ولا إجمالاً كونه مأموراً به، إذ إتيان العمل بلا قصد القربة، يوجبُ كونه توصليّاً، مع أنّ المفروض كونه تعبّديّاً، والإتيان بالعمل مع قصد التقرّب به جزماً ممتنعٌ، لأنّ القصد الحقيقي لا يتعلّق بالأمر المجهول المشكوك فيه، وإتيان العمل مع احتمال التقرّب غير مفيدٍ، لأنـّه ليس بالإتيان بقصد القربة.

أجاب عنه المحقّق الخراساني قدس‌سره: بأنّ هذا الإشكال إنّما يجري إذا كان قصد القربة متعلّقاً للأمر، حيث لا يمكن إتيانه إلاّ مع الجزم، ولكنّه فاسدٌ، بل المعتبر في العبادة عندنا هو اعتبار قصد القربة عقلاً،لأجل‌أنّ الغرض لايحصلُ بدونه،فلابدّ أن يؤتى على نحوٍ لو كان مأموراً به في الواقع لحصل الامتثال والإطاعة، ولو لم يكن كذلك فصار انقياداً، وهو ليس إلاّ الإتيان باحتمال الوجوب والمطلوبيّة، فإذا أتى بهذا لكان العمل مقرّباً إلى الله، ويستحقّ الثواب على فعله، فلا حاجة حينئذٍ في جريان الاحتياط فيالعبادات التيتعلّق أمرٌ بها،بل لو فرض تعلّق الأمر به لما كان من الاحتياط بشيء، بل يكون كسائر ما عُلم وجوبه واستحبابه أمراً مولويّاً نفسيّاً.

انتهى ملخّص كلامه[2] .

أورد عليه المحقّق العراقي قدس‌سره: (إذا اعتبر في العبادة القُربة الجزميّة، فإنّه كما لا سبيل إليه مع عدم العلم به تفصيلاً أو إجمالاً بالإتيان شرعاً سواء كان قد أخذ القربة فيها شطراً أو شرطاً، هكذا لا يمكن إن كانت القربة خارجة عن العبادة شرعاً، وكانت مأخوذة عقلاً في الغرض منها، فإنّه على كلّ تقدير يستحيل جريان الاحتياط فيها، لاستحالة تحقّق القُربة الجزميّة مع الشكّ في الأمر)[3] .

وبالجملة: انحصر الجواب عن الإشكال بأحد الطريقين:

1 ـ إمّا بما ذهب إليه الشيخ رحمه‌الله في آخر كلامه من أنّ المراد من الاحتياط في أوامرها هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا قصد القربة، فيقصد المكلّف بالتقرّب فيه بإطاعة نفس هذا الأمر، حيث أورد عليه الخراساني:

بأنـّه التزامٌ بالإشكال أوّلاً .

وعدم مساعدة الدليل عليه ثانياً.

وعدم كونه احتياطاً ثالثاً، لكونه حينئذٍ أمراً مولويّاً نفسيّاً.

نعم، لو ورد من الشرع أمرٌ بالاحتياط بمثل ذلك، لابدّ من حمله على هذا المعنى بواسطة دلالة دليل الاقتضاء وحفظ كلام الحكيم عن اللغويّة.

2 ـ أو يقال بجوابٍ آخر قد التزم به االمحقّق‌العراقي والخوئي والخميني وغيرهم حيث تبعوا الشيخ الأعظم قدس‌سره فيما التزم به وهو الأقوى، وهو أنّ هذا الإشكال إنّما يثبت لو اعتبرنا الجزم في النيّة، مع أنـّه لا دليل على ذلك من العقل ولا من النقل.

أمّا الأوّل: فلأنّه لا يُعقل أن يتجاوز الأمر عمّا هو متعلّقه ويبعث إلى غيره، وأنّ من المعلوم عدم الوقوع تحت دائرة الطلب إلاّ ذات العمل ونفس الفعل، فشرطيّته أمرٍ آخر من النيّة أو الجزم بها يحتاج إلى دليلٍ آخر، وهو هنا بالنسبة إلى الجزم غير موجود.

وأمّا الثاني: فليس إلاّ الإجماع على‌أنـّه يشترط فيالعبادات‌الإتيان بالعمل للّه‌ تعالى، وأمّا العلم بأنـّه عبادة، والجزم في النيّة، فليس مصبّاً للإجماع، فإتيان العمل‌لوجه‌الله‌أمرٌ مسلّم‌بين‌المسلمين،وهو حاصلٌ‌عند الإتيان‌باحتمال‌المطلوبيّة، إذ من الواضح أنّ داعي المحتاط في أعماله كلّها هو طلب رضا الله ومرضاته.

البحث عن مراتب الامتثال عند العقل والعقلاء

البحث عن مراتب الامتثال عند العقل والعقلاء

أقول: بل يمكن أن يقرّر هذا الوجه بتقريرٍ أبين هو :

أنّ الامتثال له مراتب أربع عند العقل والعقلاء:

المرتبة الاُولى: الامتثال التفصيلي، وهو الإتيان بالعمل مع تمام خصوصيّاته وشرائطه، حتّى مع قصد الأمر التفصيلي الجزمي، كما في أكثر الواجبات المسلَّمة من التوصليّات والتعبّديّات.

المرتبة الثانية: أن يكون الامتثال إجماليّاً، وهو مثل ما لو علم وجود الأمر إجمالاً في أحد الأفراد، نظير إتيان الصلاة في أربع جهات، فإنّه بعد الإتيان بها يصير الامتثال الإجمالي محقّقاً، فمع تعذّر الامتثال التفصيلي تصل النوبة إلى الامتثال الإجمالي.

المرتبة الثالثة: مع تعذّرهما تصل النوبة إلى الامتثال الظنّي، بأن يأتي المكلّف بالعمل مع الظنّ بوجود الأمر، فيقصد الأمر كذلك، فإذا أتى كذلك أصبح الامتثال الظنّي محقّقاً وهو القسم الثالث.

المرتبة الرابعة: مع تعذّر جميع المراتب الثلاث تصل النوبة إلى القسم‌الرابع، وهو الامتثال الاحتمالي، ومعناه الإتيان بذات العمل مع احتمال وجود الأمر والمطلوبيّة، وقد سبق أن ذكرنا أنـّه كافٍ في صحّة الاحتياط في باب العبادات، ولا نحتاج إلى قصد الأمر الجزمي واليقيني في صحّة العبادة، وإلاّ ربما يمكن أن يورد في مثل الامتثال الإجمالي أيضاً في صحّة كلّ واحدة من الصلوات الأربع، حيث إنّ كلّ صلاة التي يأتيها لا يعلم بالعلم الجزمي بوجود الأمر فيها،خصوصاً بعد الإتيان ببعضها لاحتمال كون المأمور بها هو المأتي بها قبل ذلك، فكما أنـّه صحيحٌ بلا إشكال مع احتمال وجود الأمر في كلّ واحدة، هكذا يكون في المقام بالنظر إلى أصل الاحتياط.

بل عن النائيني أنّ بناء الشيخ الأعظم قدس‌سره في كتبه الفقهيّة والرسائل العمليّة على ذلك، وقد نقل أنّ قوله: (أقواها العدم) الذي نقلناه عنه في صدر المسألة لم تكن في نسخة الأصل .

ثمّ يقول النائيني قدس‌سره: وذلك هو المظنون، فإنّ النفس تأبى أن يكون مثل الشيخ ينكر إمكان الاحتياط في العبادات.

وكيف كان، هذا هو الأقوى، بل هو المستفاد من كلمات الشيخ رحمه‌الله في قوله: (ويحتمل الجريان بناءً.. إلى آخره). وكان العقل أيضاً يستقلّ بحسنه، وسقوط الأمر به على تقدير ثبوته واقعاً.

نعم، ليس هو في عرض الامتثال التفصيلي بل في طوله، وما أبعد ما بين القول بأنّ الامتثال الإجمالي فيعرض‌الامتثال‌التفصيلي،وبين القول بأنّ الامتثال الإحتمالي ليس من مراتب الامتثال، ولا تصحّ به العبادة، ولا يسقط به الأمر.

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرنا أنّ دعوى عدم إمكان الاحتياط في العبادات في غاية الوهن والسقوط.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأوّل وجوابه .

وأمّا الكلام في الإشكال الثاني في الاحتياط في العبادات، هو أن يقال:

إنّ المطلوب في باب العبادات هو تحصيل عنوان الإطاعة والامتثال، والبعث عن انبعاث المولى، إذ لو أبقاه بدواعي اُخر لما أطاع وامتثل، وإن أتى بمتعلّق الأمر.

وعليه، فصدق هذا العنوان يتوقّف على العلم بالأمر حتّى ينبعث بأمره، وأمّا إذا احتملنا وجود الأمر، فهو غير منبعثٍ عن بعث المولى، بل عن احتمال البعث وهو غير كافٍ في صدق الإطاعة، ويرشدك إلى أنّ الباعث حينئذٍ هو الاحتمال الموجود في الذهن لا عن الأمر الواقعي، هو أنّ الاحتمال قد يطابق الواقع وقد يخالفه، والرجل المحتاط يأتي بالمحتمل في كلتا الصورتين، فليس الباعث إلاّ الاحتمال لعدم الأمر فيما إذا لم يطابق الاحتمال.

هذا غاية ما يمكن أن يقرّر في هذا الوجه من الإشكال .

أقول: والجواب عنه هو الجواب عن سابقه، إذ لا دليل لنا على لزوم كون البعث والانبعاث جزميّاً، بل الانبعاث عن الاحتمال كافٍ، لما قد عرفت من فقدان الدليل إلاّ الإجماع، وهو لا يقتضي إلاّ أصل النيّة ليس إلاّ .

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرنا أنّ إتيان العمل لاحتمال وجود الأمر والمطلوبيّة، كافٍ في صحّة دعوى حسن ذلك بحكم العقل، وكون استحبابه شرعيّاً، لعدم كون أمر الشارع حينئذٍ إرشاديّاً، بل كان مولويّاً ندبيّاً ـ خلافاً للمحقّق النائيني رحمه‌الله حيث ذهب إلى عدم استحبابه الشرعي ـ بل يكون الاحتياط فيها ممكناً من باب الحسن العقلي، وكان إرشاديّاً.

وعليه،فماحُكيعن‌المشهورمن‌الفتوى‌باستحباب‌العمل‌الذييحتمل‌وجوبه:

إن كان مقصودهم هذا الذي قلناه، أي بأن يأتي بداعي احتمال المطلوبيّة، فكلامهم حَسنٌ.

وأمّا إن كان مقصودهم هو القول بالاستحباب من دون التقييد بإتيانه بداعي احتمال المطلوبيّة، كما نَسب المحقّق النائيني ذلك إليهم في فوائده، فلا يخلو عن مسامحة، فلابدّ من تحصيل وجهٍ لكلامهم، لو لم يقصدوا ما ذكرناه. والله العالم.

***

البحث عن إمكان تصحيح عباديّة الأفعال بأوامر الاحتياط

البحث عن إمكان تصحيح عباديّة الأفعال بأوامر الاحتياط

أقول: حاول بعض‌الأساطين تصحيح‌الاحتياط‌فيالعبادات‌بالأوامر الواردة فيه، كقوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك»[4] .

بتقريب أن يقال: إنّ الأمر بالاحتياط قد تعلّق بذات العمل الذي يحتمل وجوبه، لا بالعمل بقيد أنـّه محتملُ الوجوب، بحيث يكون احتمال الوجوب قيداً في المأمور به، بل متعلّق الأمر نفس العمل الذي يحتمل وجوبه توصليّاً يكفي الإتيان به بلا قصد الأمر المتعلّق به وإن كان عباديّاً؛ أي كان بحيث لولا تعلّق الأمر به لكان أمره عباديّاً، فلابدّ من قصد الأمر الذي تعلّق به، وهو الأمر بالاحتياط الذي فرض تعلّقه بذات العمل، فينوي التقرّب به ويقصد امتثاله.

ولذلك حُكي أنّ سيرة أهل الفتوى في العصر السابق كانت على الفتوى باستحباب إتيان نفس العمل في الشُّبهات البدويّة الحكميّة،من غير تقيّد بإتيان العمل بداعي احتمال المطلوبيّة، بل يطلقون الفتوى بالاستحباب،ولو لم تكن أوامر الاحتياط متعلّقة بنفس العمل، وموجبة لاستحبابه، لم يكن وجهٌ لإطلاق الفتوى باستحباب العمل، بل كان اللاّزم تقيّد الفتوى بإتيان العمل بداعي احتمال الأمر، كما جرت عليه السيرة بين أهل الفتوى في العصر المتأخّر).

هذا كما نقله المحقّق النائيني في فوائده[5] .

ثمّ أجاب رحمه‌الله بنفسه عنه: إنّ الأمر بالعمل ينقسم إلى قسمين:

تارةً: أن يكون نفسه عباديّاً كالأمر بالصلاة.

واُخرى: اكتسابيّاً من أمرٍ آخر، لأجل اتّحاد متعلّقهما، مثل وجوب الوفاء بالنذر لو تعلّق أمره بصلاة اللّيل، فإنّ أمره وإن كان توصليّاً كسائر التوصليّات، إلاّ أنـّه إذا تعلّق بعملٍ عبادي كصلاة الليل يكتسب الأمر بالوفاء بالنذر العباديّة من الأمر بالصلاة.

والسرّ فيه: أنّ النذر قد تعلّق بذات صلاة اللّيل، لا بما أنّها مستحبّة، وإلاّ لكان النذرُ باطلاً، لعدم القدرة على وفائه، لأنّ صلاة الليل بالنذر تصبح واجبة، فلا يمكن إتيانها مستحبّة، وذلك كان لمكان اتّحاد متعلّقها يكتسب الفاقد ما هو للواجد وهو العباديّة من الصلاة فصار الأمر بالنذر عباديّاً.

هذا بخلاف ما إذا لم يتّحد متعلّقهما، كالصلاة إذا تعلّقت بالأمر الإجاري، حيث قد استأجر الشخص على الصلاة الواجبة أو المستحبّة، حيث يكون معناه أنّ الأجير قد استأجر لتفريغ ذمّة الغير، فالإجارة قد تتعلّق بما في ذمّة المنوب عنه وما في ذمّة المنوب عنه هي الصلاة الواجبة أو المستحبّة بوصف كونهما كذلك، فمتعلّق الإجارة ليس ذات الصلاة، بل هي مع وصف كونها واجبة أو مستحبّة، فمع عدم الاتّحاد لا يمكن أن يكتسب الأمر الإجاري العباديّة من الأمر الاستحبابي، أو الأمر الوجوبي، لعدم ارتباطٍ بينهما، وعدم وحدة متعلّقهما.

والأوامر الاحتياطيّة فاقدة لكلّ من عباديّة نفسها، ومن اكتساب العباديّة من أمرٍ آخر، لأنّ فاقديّتها للاُولى واضحة، وفاقديّتها للثانية لأنـّها لم تتعلّق بذات العمل مرسلاً عن قيد كونه محتمل الوجوب، بل التقيّد مأخوذ في موضوع أوامره، وإلاّ لم يكن من الاحتياط بشيء، بخلاف الأمر المتعلّق بالعمل المحتاط فيه، فإنّه على تقدير وجوده الواقعي، إنّما تعلّق بذات العمل، فلا اتّحاد في أوامر الاحتياط، فلا اكتساب للعباديّة، إلى آخر كلامه بتفصيله.

انتهى ملخّص كلامه رفع مقامه.

أقول: ويرد عليه :

أوّلاً: ما ذكره من الفرق بين النذر المتعلّق بصلاة الليل والإجارة الواقعة عليها لا يخلو عن إشكال، لأنّ الأمر بالإجارة كما تعلّق على الصلاة الواقعة في ذمّة المنوب عنه على ما هي عليه من الوجوب والاستحباب، كذلك يكون أمر الوفاء بالنذر قد تعلّق بالوفاء المتعلّق بالصلاة بما هي عليه من الوجوب والاستحباب، ولذلك قد يكون متعلّق النذر أمراً واجباً، وقد يكون مستحبّاً، وفي كلتا الصورتين ليس الواجب إلاّ الوفاء بالنذر، والوفاء لا يتحقق إلاّ بإيتان الصلاة على ما هو المشروع من الوجوب الندب، ولذلك لابدّ أن ينوي في الوفاء بالنذر بالصلاة المشروعة لولا النذر، وهي ليست إلاّ الاستحباب، غاية الأمر حيث أنّ الوفاء بالنذر لا يتحقّق إلاّ بوجود الصلاة وإيجادها، فيقال مسامحة بأنّ صلاة الليل واجبة، وهو لا ينافي أن يكون اللاّزم في مقام الإتيان هو قصد إتيان الصلاة بالأمر الاستحبابي، بل هو المصداق للوفاء وحقيقته، لأنـّه لو نوى في مقام الامتثال إتيان صلاة الليل الواجبة لما صدق الوفاء بالنذر.

ونظير ذلك أمر الوالدين بإتيان الصلاة جماعة، أو إتيان صلاة اللّيل، فإنّ الإتيان يصبح واجباً بلحاظ إطاعة أمرهما، لا بأن تكون صلاة الجماعة واجبة أو صلاة اللّيل كذلك، فلذلك يصحّ في مقام الامتثال قصد الإتيان بصلاة الجماعة المندوبة، فتنطبق عليه الوجوب بلحاظ صدق الإطاعة.

وعليه يصبح الأمر بالإجارة كأنّه ليس بنفسه عبادة، وليس مكتسباً لها من أمر الصلاة، لعدم وحدة متعلّقهما، هكذا يكون أمر الوفاء بالنذر، حيث لا يكون بنفسه ولا بالاكتساب عباديّاً، هذا أوّلاً .

وثانياً: إنّا لا نُسلّم كون متعلّق أوامر الاحتياط هو الفعل المشكوك المقيّد بقيد احتمال المطلوبيّة، كما ادّعاه، بل المتعلّق في أوامر الاحتياط ليس إلاّ عنوان الاحتياط، وهو قد ينطبق على الفعل المشكوك المحتمل الوجوب وإتيانه كذلك، وقد ينطبق على الترك المشكوك المحتمل وجوبه، وإلاّ لولا ذلك لزم أن يكون الأمر قد تعدّى عمّا هو متعلّقه، وهو محالٌ، لأنّ مضمون الأمر حقيقةً في لسان الدليل ليس إلاّ الأمر بالاحتياط بقوله عليه‌السلام: «فاحتط لدينك»، فكيف يمكن التجاوز عنه، والتعلّق بغيره وهو الفعل المشكوك المحتمل وجوبه.

أقول: وما قد يؤيّد ما ذكرنا أنّ الاحتياط قد ينطبق على الواجبات تارةً، وعلى المحرّمات اُخرى، فاختلافهما في الفعل والقُرب لا يوجبُ الاختلاف في متعلّق الأمر، لأنـّه ليس إلاّ عنوان الاحتياط، هذا بخلاف ما لو جعلنا المتعلّق هو نفس الفعل المقيّد بقيد احتمال المطلوبيّة، فإنّ دخول الترك المشكوك المحتمل وجوبه أو الترك المشكوك حرمته فيه، موجبٌ لتغيّر متعلّق الأمر وتعدّده، فعاد المحذور بتجاوز الأمر عمّا هو متعلّقه كما لا يخفى .

والتحقيق: اختلف الأعلام في أنّ الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب، هل يمكنه يصحّح إتيان العمل بقصد الأمر الوارد على الاحتياط أم لا ؟

قال المحقّق الخميني قدس‌سره: بعدم الصحّة، لأنّ احتمال شمول أدلّة الاحتياط للشبهات البدويّة الوجوبيّة فرع إمكان الاحتياط فيها، وقد فرضنا امتناع الاحتياط فيها بالأمر الواقعي كما هو الفرض، ومع ذلك فكيف يُحتمل إطلاق أدلّة الاحتياط لها ولغيرها؟!

والحاصل: (أنّ قصد الأمر الاحتياطيجزماً عند الإتيان‌بالشبهات‌الوجوبيّة، فرع صدق الاحتياط فيها قبل الأمر، مع أنّ إمكان الاحتياط فيها موقوفٌ على قصد أمره ، بحيث لولا هذا القصد ، لما صحّ أن يقال إنّ هذا العمل احتياطٌ في العبادة.

وبعبارة أوضح: تعلّق أوامر الاحتياط بالعبادات المحتملة، يتوقّف على إمكانه فيها، ولو توقّف إمكانه عليه، يلزم توقّف الشيء على نفسه)، انتهى كلامه[6] .

أقول: ولكن الإنصاف أن يقال:

إن اعتبرنا في امتثال الأمر العبادي قصد الأمر المتعلّق بذات العمل،أيقصد الأمر الواقعي فقط، سواءٌ كان الامتثال للأمر بالاحتياط أو بغيره، وقلنا بأنـّه لا يجوز الإتيان باحتمال المطلوبيّة والمحبوبيّة في مرحلة الاحتياط، بل لابدّ أن يكون مع قصدٍ جزمي فيصدق‌الامتثال ولو احتياطاً، كان ما ذكره‌المحقّق‌الخميني من الاستحالة بالدور وصدق توقّف الشيء على نفسه متيناً، لأنّ أخذ الإطلاق في الأدلّة الواردة في الاحتياط للشمول في مثل المقام، يكون فرع‌إمكانه،والمفروض توقّف إمكانه على قصد ذلك الأمر، وهو الدور المحال بعينه .

وأمّا إن لم نعتبر في امتثال العبادات في مرحلة الاحتياط،إلاّ كون العمل مضافاً إلى الله‌ وأمره، وإتيان قصده في مقام الامتثال، ولو فهمنا ذلك من دليل خارجي من اجماع أو نصّ، فحينئذٍ إذا أتى بالعمل، وقَصَد الأمر الصادر من الشارع بالاحتياط المنطبق خارجاً بالفعل على إتيانه بذاته،مع قصد هذا الأمر الذي فهم اعتباره من دليلٍ آخر، غير نفس هذا الأمر، أو فهم من الأمر الواقعي، كان ذلك العمل مجزياً وكافياً ومصداقاً للعمل بالاحتياط في العبادات، حتّى ولو كان الأمر المتعلّق بالاحتياط بنفسه توصليّاً، إلاّ أنّ العمل يصبح عباديّاً لأجل وجود هذه الشرائط، وهذا ليس بمستنكرٍ عند العقل، كما ذكره مقرّره في «مصباح الاُصول» وأنـّه لا يخلو ذلك عن وجهٍ.

ولكن قد عرفت إمكان الاحتياط في أصله بإتيان العمل بقصد احتمال الأمر الواقعي، وكفاية ذلك في عباديّة العمل، وعدم الحاجة إلى مثل هذه التعسّفات والتوجيهات المستصعبة كما لا يخفى .

 


[1] فرائد الاُصول للشيخ: ص228.
[2] كفاية الاُصول: ج2 / 195.
[3] نهاية الأفكار: ج3 / 274.
[4] وسائل الشيعة: ج18 الباب12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 41.
[5] فوائد الاُصول: ج3 / 402.
[6] تهذيب الاُصول: ج2 / 292.