94/12/12
بسم الله الرحمن الرحیم
البحث عن الأصل في الأشياء وهو الحظر
الوجه الثاني: من وجوه حكم العقل على وجوب التوقّف والاحتياط، هو كون الأصل في الأشياء الحظر، وأنّ العالَم كلّه مملوكٌ للّه، كما أنّ المكلّف عبدٌ له تعالى، فلابدّ أن يكون عامّة أفعاله من حركةٍ وسكونٍ برضىً منه ودستورٍ صادر عنه، وليس لأحدٍ أن يتصرّف في العالم بغير إذنه، لكون المتصرِّف (بالكسر) والمتصرَّف (بالفتح) مملوكان للّه تعالى، فالأصل يقتضي التوقّف والاحتياط لو لم نقل بالمنع والحظر، ولو توهّم وجود ما دلّ على الإباحة قلنا إنّه معارض بما دلّ على وجوب التوقّف والاحتياط.
والجواب عنه أوّلاً: أنـّه إن اُريد من المِلْكيّة للّه هو الاعتباريّة الدائرة في العقلاء، ففساده واضحٌ، لأنّ اعتبار مثل هذه الملكيّة قابلٌ لمثلنا المحتاجين إليها لإمرار المعيشة الاجتماعيّة، لا لمثل الله عزّ وجلّ حيث إنّه سبحانه شأنه أعزّ وأعلى من ذلك.
وإن اُريد منه المالكيّة التكوينيّة، بمعنى أنّ الموجودات كلّها للّه تعالى، وقائمة بإرادته، وأنّ العالم تحت قدرته، فهو أمرٌ مسلّم ولا ريب فيه، ولكن لا يفيد الأخباري شيئاً من ذلك، لأنّ الآيات والسنّة كافية لإثبات الإذن للعباد في التصرّف، حيث قال عزّ مِنْ قال وجلَّ من متكلِّم: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعا»[1] وقوله تعالى: «وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ»[2] .
وثانياً: أنـّه لا ارتباط بين المقام وبين تلك المسألة؛ لأنّ مناط تلك المسألة على حسب الاختلاف الموجود فيها هو الفعل بما هو مقطوعٌ بعدم جعل الحكم له، ومناط المقام هو الفعل بما هو مشكوكُ الحكم، فلا يستلزم القول بالحظر في تلك المسألة القول بالتوقّف والاحتياط هنا، بل يمكن القول بالبراءة هنا مع الالتزام بالحظر في تلك المسألة.
وثالثاً: بأنّ ما ذكرتم لو تمّ، فإنّما هو فيما إذا لم يثبت الترخيص عند الشكّ في التكليف، مع أنّك قد عرفت ثبوته فلا نعيد.
البحث عن وجوب دفع الضرر المحتمل عقلاً وعدمه
البحث عن وجوب دفع الضرر المحتمل عقلاً وعدمه
الوجه الثالث: من وجوه حكم العقل بالاحتياط والتوقّف،هو أنّ في ارتكاب مشتبه الحرمة احتمال وقوع الضرر، والعقل مستقلٌّ بوجوب دفع الضرر المحتمل.
بل قد احتجّ الشيخ في «العدّة» على ذلك بقوله على ما حكي عنه:
(إنّ الإقدام على ما لا يؤمَن المفسدة فيه، كالإقدام على ما يُعلم فيه المفسدة)، فلازم ذلك هو الاحتياط والتوقّف.
والجواب عن ذلك: قد عرفت تفصيلاً في مبحث دليل حكم البراءة، مضافاً إلى أنّ مقتضى هذا الدليل عموميّته لجميع الشُّبهات، مع ذهابهم على خلافه في غير محتمل الحرمة من الحكميّة والموضوعيّة، أنّ الالتزام بذلك مستلزمٌ لتخصيص الأكثر المستهجن.
ثمّ قد عرفت بأنّ الضرر إذا كان بمعنى العقاب الاُخروي، فهو مندفعٌ بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ومن ذلك يظهر الجواب من الشيخ رحمهالله لحصول المؤمّن العقلي حينئذٍ.
وإن اُريد من الضرر هو الدنيوي منه، فقد عرفت عدم وجوب الاجتناب عنه عقلاً في مقطوعه، فضلاً عن محتمله، وتفصيله قد مضى في محلّه، فلا حاجة إلى الإعادة، والحمد للّه أوّلاً وآخراً.