94/12/08
بسم الله الرحمن الرحیم
ودعوى: وجود علمٍ إجمالي آخر في خصوص الشُّبهات التي لم تقم عليها دليلٌ، ممّا لا دليل ولا شاهد عليها، وقد تقدّم تفصيل هذا البحث في باب الانسداد.
وثالثاً: بعدما عرفت بأنّ الأحكام الواقعيّة بما هي هي لا يمكن التكليف إليها إلاّ بواسطة تلك الطرق والاُصول، فيفهم حينئذٍ بأنّ ما يؤخذ بتركها إنّما هي الأحكام الواصلة إلى المكلّف، لا الأحكام بوجودها الواقعي،والأحكام الواصلة ليست إلاّ ما قامت عليه الطرق والاُصول وغيرها وإن كانت موجودة في متن الواقع، لكن تندرج تحت قاعدة حكم العقل من قبح العقاب بلا بيان، فإذا حَكَم العقل بعدم العقاب بالأحكام التي لم يصل بيانها إلى المكلّف،فلا وجه للحكم بوجوب الاحتياط في الشُّبهات بعد الفحص بمجرّد احتمال وجود الأحكام فيها.
هذا كلّه إنّما يتحقّق إذا ادّعينا قيام العلم الوجداني بمطابقة الأمارات المعتبرة للواقع، بمقدار ما علم إجمالاً ثبوته في الشريعة المقدّسة من التكاليف، ولا يبعد صحّة هذه الدعوى.
إلاّ أنـّه لو أنكر ومنع القائل بوجوب الاحتياط ذلك، وادّعى عدم العلم الوجداني بمطابقة الأمارات للواقع بمقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي، فهل يمكن دعوى الانحلال، حتّى مع عدم العلم الوجداني بمطابقة الأمارات للواقع أم لا، فعلى فرض الانحلال هل هو حقيقيٌ أو حكمي؟
أقول: فأمّا أصل الانحلال، والظاهر أنـّه ممّا لا إشكال فيه على كلّ الأقوال في الطرق والأمارات، من الطريقيّة والكاشفيّة ـ كما عليه المحقّق النائيني ـ ومن المنجّزية والمعذّرية كما عليه المحقّق الخراساني، أو السببيّة والموضوعيّة كما عليه بعض الاُصوليّين من المتقدّمين.
توضيح ذلك: فأمّا على الطريقيّة فالأمر واضح، لأنّ قيام الأمارة يوجب العلم بالواقع تعبّداً بما قامت عليه الطريق، يعني أنّ القضيّة المعلومة الإجمال تنقلب إلى قضيّتين حمليتين أحدهما بتيّة تعبداً، والاُخرى شكٌّ، كما كان كذلك في العلم الوجداني، يعني ما قامت عليه الطريق هو حجّة قطعاً، ولا نحتاج إلى العلم الوجداني، والآخر من الشُّبهات تكون مشكوكة، فتجري فيها أصالة الإباحة والحليّة بلا معارض، فهذا معنى الانحلال.
وأمّا على القول بالمنجّزية عند الإصابة، والمعذّرية عند الخطأ، فقد يُستصعب الانحلال إن قلنا بأنّ تنجيز الواقعيّات منوطٌ على وصول تلك الأحكام إلى المكلّف، فما لم يصل إليه فلا تنجّز، فلازمه تأثير العلم الإجمالي الثابت في أوّل البلوغ أثره، وهو وجوب الامتثال وتحصيل القطع به، فالذي قد تنجّز بواسطة العلم الإجمالي لا معنى لتنجّزه متعدّداً بواسطة الأمارات القائمة، فلا يلزم تحقّق الانحلال، لعدم منجّزية الأمارات بعد قيامها لخصوص ما قامت عليه، لأنـّه في أوّل البلوغ قبل وصول الأمارات قد أثّر العلم الإجمالي أثره من وجوب الاجتناب، فلا يبقى موردٌ للتنجّز ثانياً بعد ذلك، هذا.
ولكن يمكن أن يُجاب عنه: بأنّ التنجيز الذي يتوجّه إلى الذي قامت عليه الأمارة، ليس بعد وصول الأمارة إلى المكلّف، بل كان التنجيز حاصلاً من أوّل زمان البلوغ، بحصول إمكان الوصول إلى المكلّف لا فعليّته، فالتنجيز من ناحية قيام الأمارة كان محقّقاً في أوّل البلوغ، فمع وجود هذا التنجّز لا يبقى لتنجّز العلم الإجمالي وجهٌ، لتحقّق الانحلال بواسطة ذلك التنجّز بالنسبة إلى ما قامت عليه الأمارة والطرق الذي كان تنجّزها بصورة ما لو تفحّص عنها المكلّف لوصل إليها، ولو لم يصل إليها بالفعل، وهذا المقدار يكفي في التنجيز وانحلال العلم الإجمالي، وحيث كان هذا الاحتمال مقارنٌ لعلمه الإجمالي بالتكاليف، فإذا تنجّز العلم الإجمالي في ناحيةٍ فقط بواسطة ذلك، كان الطرف الآخر مشكوكاً متعلّقاً لأصالة الحليّة والإباحة بلا معارض .
ومن ذلك يظهر الانحلال على القول بالسببيّة، لأنّ الحكم الفعلي عبارة عمّا قامت به الأمارة على طبقها، فإنّ قيام الأمارة يكشفُ عن ثبوت الأحكام في مواردها من أوّل الأمر، فلا يبقى أثرٌ للعلم الإجمالي بالتكاليف الواقعيّة مردّدة بينها وبين غيرها، لأنّ قيام الأمارة تكشف عن اشتمال مؤدّياتها على مصلحةٍ أو مفسدةٍ مستلزمةٍ لثبوت الحكم على طبقها من أوّل الأمر، فالانحلال حاصلٌ على كلّ التقادير، فلا يكون العلم الإجمالي منجّزاً بالنسبة إلى ناحية الآخر، وهذا هو المطلوب.