94/11/18
بسم الله الرحمن الرحیم
وسادساً: بما في «تهذيب الاُصول» من الجواب عن مثل حديث مقبولة عمر بن حنظلة وجميل بن صالح ونظائرهما من الأخبار المشتملة على مضامين هذين الخبرين.
وملخّص كلامه رحمهالله: (هو أنّ المراد من ممّا أجمع عليه بين الأصحاب يؤخذ ويُترك الشاذّ والنادر، معلّلاً بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه، يفهم أنّ المراد من الشهرة هو الشهرة في الفتوى لا في الرواية، لوضوح أنّ الشهرة في الرواية المجرّدة عن فتوى الأصحاب، لا يوجبُ رفع الرّيب، بل أيُّ ريبٍ ووهنٍ أولى وأقوى من نقل الحديث، وعدم الإفتاء بمضمونه، ففي قباله يصير ممّا لا ريب في بطلانه هو الشاذّ والنادر، أي ما لا يفتي به الأصحاب.
فصارت الرواية الاُولى من الاُمور التي بيِّن رشدها فيؤخذ، والشاذّ من ما هي بيِّن غيّها ويترك .
واحتمال: كون الشاذ ممّا فيه ريب .
مدفوعٌ: بأنّ وجوب صلاة الجمعة إذا صار ممّا لا ريب فيه، فيصير احتمال عدم الوجوب ممّا لا ريب في بطلانه، فيبقى حينئذٍ الأمر المشكل الذي ذكره في التثليث،لكنّه يُعلم حُكمه من الأمرين السابقين، حيث يرد حكمه إلى الله ورسوله، وهذا هو الذي عبّر عنه الإمام عليهالسلام في خبر جميل بن صالح بأمرٍ اختلف فيه.
وتوهّم: أنّ المراد بالشهرة هي الشهرة الفتوائيّة لا الروائيّة، لا يناسبُ مع فرض الراوي بعده من كون كلا الحديثين مشهورين، حيث يساعد مع كونهما منقولين في جوامع الأصحاب، ولكن لا يناسب مع كونهما مشهورين بالفتوى.
ممنوع: بأنّ مِنْ تقابل المجمع عليه للشاذ النادر يفهم أنـّه يمكن أن يكون الحديثان مشتهراً بالفتوى بين الأصحاب، أي بأن لا يكون الآخر شاذّاً نادراً، بل كلاهما مشتهرٌ بالفتوى من جهة إفتاء جمع كثير على مضمونهما، فإنّه حينئذٍ يصدق أنّهما مشهوران من حيث الفتوى، هذا بحسب فقه الحديث.
وأمّا وجه عدم دلالته على مدّعى الأخباريّين، فلما عُلم أنّ المراد من الأمر المشكل الذي يُردُّ أمره إلى الله ورسوله هو القسم الثالث الذي ليس بمجمعٍ عليه ولا شاذّ، بل ممّا اختلف فيه الرأي، ولا أظنّ أنّ الأخباري ممّا يلتزم فيه بوجوب التوقّف والردّ إلى الله تعالى، فإنّ الأخباري لا يجتنب عن الرأي والإفتاء في المسائل التي اختلفت فيها كلمة الأصحاب، بل نراه ذات رأي ونظر في هذه المسائل من دون أن يتوقّف ويَردّ حكمها إلى الله ورسوله، وإن كان الأرجح عقلاً هو التوقّف والاحتياط فيما ليس بيِّن الرّشد ولا بيِّن الغيّ، وإرجاع الأمر فيه إلى الله)، انتهى محلّ الحاجة[1] .
أقول: ولا يخفى ما في هذا الجواب من شيء من المسامحة، لأنـّه رحمهالله بعد أن قرّر الحديث في فقهه بأنّ المراد من التثليث هو الشهرة الفتوائيّة، التزم بنتيجة ذلك في الاُمور الثلاثة من وجوب الاتّباع في بيّن الرّشد، ووجوب الاجتناب عن بيّن الغيّ، ووجوب التوقّف في المشكل المختَلف فيه، لكنّه لم يذكر وجه التفكيك بين الأمرين الأولين بالوجوب وبين الأمر بالتوقّف بالاستحباب، إلاّ عمل من يقول بالاحتياط، فليس هذا إلاّ الإشكال بعملهم فيه، لو سُلّم كونهم كذلك، لا جواباً عمّن يحكم بوجوب التوقّف.
فالأولى في الجواب أن يقال: إنّه على فرض تسليم جميع ما ذكر في فقه الحديث ـ الذي يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى في باب التعادل والتراجيح ـ كان هذا منحصراً بباب فصل الخصومات والمنازعات الذي يصدر فيها الحاكم حكمه في مجلس القضاء في الأموال والنفوس والأعراض، ولا علاقة له بإثبات وجوب التوقّف في الشُّبهات في الفتوى، وبيان الحكم مع وجود الدليل. وعليه فيصبح جوابنا هذا جواباً سادساً.