94/11/17
بسم الله الرحمن الرحیم
ورابعاً: إنّ هذا التعليل قد ورد في حديث مقبولة عمر بن حنظلة وجميل بن درّاج، حيث اشتمل نصَّهما على قوله عليهالسلام: «ما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»، ثمّ عُلّل ذلك بأنّ «الوقوف في الشُّبهات خيرٌ من الاقتحام»، حيث لا يمكن انطباق ذلك التعليل على ما خالف كتاب الله؛ لأنّ مخالف الكتاب ليس ممّا يجب فيهالتوقّف أو يُستحبّ، بل يجب طرحه،ونفيإسنادهإلىالأئمّة عليهمالسلام.
وعليه، فلابدّ أن تحمل الكبرى المذكورة على غير هذا المورد، وهو ما لم تكن مضامينها موجودة ومذكورة في القرآن لا على نحو العموم ولا الخصوص، إذ لو لم تُحمل عليها، فلابدّ إمّا أن تحمل على ما يوافق كتاب الله أو ما يخالفه صريحاً، وكلاهما خارجان عنها.
أمّا الموافق: فيجبُ الأخذ به .
وأمّا المخالف: فيجبُ طرحه لا التوقّف فيه.
وعليه، فانحصر حملها على الروايات التي لا تخالف القرآن ولا توافقه .
وعلى هذا، فلو حَملنا الأمر بالوقوف على الاستحباب في مورد الشبهة، ثبت المطلوب، وإن حملناه على الوجوب، فلا تجد له قائلاً، فإنّ الأخباري والاُصولي سيّان فيالعمل بالأخبار التي لاتخالف القرآن ولا توافقه، ولم يقل أحدٌ بوجوب الوقوف أصلاً،وإن كانالتوقّف والعمل على_'feطبقالاحتياط أولى وأحسن.
وخامساً: يمكن تصوير تقريبٍ آخر لروايات التوقّف عن الشُّبهات بإفادة معنى آخر غير ما ذكر إلى الآن؛ بأن نقول هذه الأخبار ليست بصدد بيان أنّ نفس الاقتحام في الشُّبهات حرامٌ إذا صادف الحرام المعلوم بالإجمال كما في الوجه الأوّل، بل المراد أنّ الاقتحام في الشُّبهات يوجب وقوع المكلّف في المحرّمات، فإنّ الشخص إذا لم يجتنب عن الشُّبهات، وعوّد نفسه على الاقتحام فيها،هانت عليه المعصية، وكان ذلك موجباً لجرئته على فعل المحرّمات، وقد ورد نظير ذلك في باب المكروهات بأنّ من لم يبالِ في ارتكابها، وأكبّ على فعلها، ربما يوجب ذلك إلى الجرأة على فعل المحرّمات، كما أنّ الشخص لو لم يعتن بارتكاب الصغائر هانت عليه الكبائر، أعاذنا الله من ذلك، بخلاف من عوّد نفسه على الاجتناب، والوقوف عند الشُّبهات، والصغائر والمكروهات، حصلت له ملَكَة التجنّب عن المعاصي، وإلى ذلك يشير قوله عليهالسلام: «والمعاصي حِمى الله فمن يَرتع حولها يُوشَك أن يدخلها»، وإليه أيضاً وردت الإشارة في الخبر الذي رواه سلام بن المستنير، عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام، قال:
«قال: حدّثني جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله أيّها الناس حلالي حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامي حرامٌ إلى يوم القيامة.
إلى أن قال: وبينهما شبهاتٌ من الشيطان، وبِدعٌ بعدي، من تركها صَلُح له أمر دينه، وصَلُحت له مروّته وعرضه، ومَن تَلبّس بها وَقَع فيها واتّبعها كان كمَن رَعى غنمه قُرب الحِمى، ومن رَعى ماشيته قُرب الحِمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى»[1] .
فدلالة مثل هذا الحديث على الاستحباب واضحة، ضرورة أنّ الرَّعي حول الحمى ليس بممنوع، غير أنّ الرعي حوله ربما يستوجبُ الرَّعي في نفس الحمى.
ومن ذلك يظهر الجواب عن أخبار التثليث، حيث يمكن أن يكون الأمر فيها للاستحباب لا للوجوب، كما يظهر هذا الاستحباب من بعض أخبار التوقّف مثل الخبر المرويّ عن أبي عبدالله عليهالسلام أنـّه قال: «أورع الناس من وقف عند الشبهة»[2] . وأيضاً قوله عليهالسلام: «لا ورع كالوقوف عند الشبهة»[3] .