94/11/10
بسم الله الرحمن الرحیم
البحث عن أدلّة الأخباريّين على وجوب الاحتياط
استعرضنا وبحثنا بالتفصيل عن الأدلّة التي أقامها الاُصوليّون لإثبات البراءة، ليصل الدور إلى أدلّة الأخباريّين وما أقاموها للدلالة على وجوب التوقّف والاحتياط في الشُّبهات .
استدلّ الأخباريّون على وجوب الاحتياط بالأدلّة الثلاثة من الكتاب والسنّة والعقل في الشُّبهات الحكميّة التحريميّة لا مطلقاً، أي لا يقولون بوجوبه في الشُّبهات الوجوبيّة ولا الموضوعيّة مطلقاً أي حتّى في التحريميّة.
نعم، قد يظهر من كلام الأمين الأسترآبادي وجوب الاحتياط مطلقاً، أي في الوجوبيّة من الشبهة الحكميّة أيضاً دون الموضوعيّة، برغم أنـّها غير داخلة في وجوب الاحتياط عند الكلّ من الأخباريّين والاُصوليّين.
وعليه، فالأولى التعرّض للأدلّة الثلاثة التي استدلّ بها القائلون بوجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة التحريميّة، وهي الكتاب والسُنّة والعقل دون الإجماع لعدم وجوده هنا كما لا يخفى .
أمّا الكتاب: فقد تمسّكوا لدعواهم بطوائف من الآيات:
الطائفة الاُولى: هي الآيات الناهية عن القول بغير العلم، مثل:
قوله تعالى: «وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ»[1] .
وقوله تعالى: «أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»[2] .
وقوله تعالى: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»[3] .
وغيرها منالآياتالعديدهالناهية عنالركون إلى غير العلم والاعتماد عليه.
الطائفة الثانية: الآيات الدالّة على وجوب الاتّقاء والمجاهدة فيما يتعلّق بالاُمور المهمّة، مثل:
قوله تعالى: «اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»[4] .
وقوله تعالى: «وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ»[5] .
وقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[6] .
والطائفة الثالثة: هي الآيات التي تدلّ على النهي عن ارتكاب ما يوجب الوقوع في الهلكة، كقوله تعالى: «وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»[7] .
الطائفة الرابعة: وهي التي تدلّ على وجوب الرّد إلى الله عند النزاع، مثل قوله تعالى: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ»[8] حيث أنّ ارتكاب مشتبه الحرمة ليس من الاتّقاء والمجاهدة، ولا التحفّظ عن الوقوع في الهلكة لو كان حراماً، فيدلّ على وجوب التورّع والاتّقاء كما تدلّ عليه آية الافتراء أيضاً، وهي قوله تعالى : «أَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ»[9] لأنّ الحكم بالإباحة افتراءٌ عليه.
ولكن يمكن أن يُجاب عن الطائفة الاُولى: بأنّ المراد من العلم هنا ليس العلم الوجداني الذي لا يشكّ فيه أحدٌ سوى المشكّك السوفسطائي، وإلاّ لخرجت الأحكام بأكثرها عن مظانّ العمل بها لعدم حصول العلم الوجداني، فلابدّ أن يراد من العلم هنا إمّا خصوص الحجّة أو الأعمّ منه ومن الوجداني، فإذا شمل لفظ العلم للحجّة والدليل، فلا يكون موردنا من صغريات تلك الكبرى؛ لأنّ بعد قيام الدليل النقلي أو العقلي أو كليهما على البراءة، فلا يكون القول بها قولاً بغير علمٍ ودليل، بل يكون قولاً مع الدليل.
ومنه يظهر الجواب عن آية الافتراء إذ ليس الحكم مع الدليل افتراءاً.
فإن قلت: القول بجواز الارتكاب في مشتبه الحكم يعدّ قولاً بغير علم.
فنقول: إنّ دعوى الأخباريّين الذين يقولون بحرمة الاقتحام في الشُّبهات يعدّ قولاً بغير علم،لأنـّهم لايعلمونالحرمة فيها جزماً،فيرد عليهم ما أوردوا علينا.
فاُجيب عنهم: بأنّ الأخباريّين لا يقولون بالحرمة، وإنّما قالوا بترك الاقتحام فيها لاحتمال الحرمة، وهذا بخلاف الارتكاب فإنّه لا يكون إلاّ بعد العلم بالرخصة والعمل بالإباحة.
أقول: هذا الجواب ـ الذي من الشيخ الأعظم وتبعه المحقّق النائيني قدسسره ـ غير تامّ، لوضوح أنّ الأخباريّين يحكمون بوجوب الاحتياط والتوقّف،والأصوليّون ينكرونه، فكلٌّ يدّعي شيئاً ويُقيم لمدّعاه دليلاً، فليس نزاعهم في ترك المشتبه وعدم تركه كما قرّروه.
كما اُجيب عن الطائفة الثانية أوّلاً: بالمنع عن كون ارتكاب المشتبه بمقتضى الأدلّة المرخّصة منافياً مع المجاهدة والتقوى، بل المنافي لها هو ترك الواجبات وفعل المحرّمات، كما تدلّ عليه النصوص الكثيرة .