94/11/06
بسم الله الرحمن الرحیم
أجاب عنه سيّدنا الخوئي بجوابين:
الجواب الأوّل: إنّ استصحاب عدم المنع كافٍ في القطع بعدم العقاب، إذ العقاب من لوازم المنع عن الفعل وتحريمه، فمع إحراز عدم المنع عن الفعل بالاستصحاب نقطع بعدم العقاب، بلا حاجةٍ إلى إحراز الرخصة التي هي من لوازم عدم المنع ليكون مثبتاً.
الجواب الثاني: أنـّه يمكن جريان الاستصحاب في نفس الترخيص الشرعي المتيقّن ثبوته قبل البلوغ، لحديث رفع القلم وأمثاله، فيحصل منه القطع بعدم العقاب بلا واسطة شيء آخر، انتهى كلامه[1] .
أقول: ونحن نزيد في تأييد كلامه في الجواب الأوّل :
بأنّ الاستصحاب ولو لم نقل بحجيّته بصورة الأمارة، بل اعتبرناه حجّة بواسطة الأخبار والتعبّد به كما هو الأقوى عند المتأخّرين، ولكن يأتي السؤال عن أنـّه هل هو حجّة لمن تمسّك به في ما جرى أم لا؟
فإن قلنا بالأوّل، فليس معناه إلاّ أنـّه إذا أخذ بمقتضاه وعمل به لما كان معاقباً حتّى ولو خالف الواقع، وترك بواسطته أمراً، لقطعه بعدم العقوبة في مورده.
وإن لم يؤدّي جريان الاستصحاب إلى احتمال العقوبة مع جريانه، فليس معناه إلاّ عدم حجيّته، وهو منافٍ للفرض بكونه نفس جريان الاستصحاب حجّة، ولو كان الاستصحاب جارياً في الحكم الظاهري، كفى الحكم بالثاني لو خالف الواقع، سواء كان حجيّته من باب الأمارات أو من الأخبار، بلا فرقٍ بين أن يستصحب نفس عدم المنع السابق، أو يستصحب نفس الترخيص، فمع جريان الاستصحاب لا يبقى موردٌ لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما عرفت.
ولعلّ منشأ قولهم بعدم القطع بالعقاب، هو ملاحظة بقاء الشكّ بعد الاستصحاب حقيقةً، ولكنّه غفلة عن أنّ ذلك لا يوجبُ احتمال العقوبة، لعدم إمكان اجتماعه مع حجيّته الشرعيّة المستلزم للقطع بعدم العقاب، أو خَلَط مع عدم الإجزاء في الاستصحاب بعد كشف الخلاف.
وأمّا الجواب الثاني: فهو غير تامّ، لأنّ الترخيص قبل البلوغ رخصة بمقتضى قاعدة رفع القلم والترخيص بعد البلوغ رخصة مع العلم بجريان قلم التكليف على من بلغ، فالاستصحاب هنا من قبيل استصحاب الكلّي القسم الثالث وليس بحجّة لأنّ الرخصة برفع القلم الموجود قبل البلوغ قد زال قطعاً، والرخصة بعد البلوغ مشكوك الحدوث، فالأصل عدمه، فهذا الاستصحاب غير جارٍ.
أقول: وممّا ذكرنا ظهر عدم تماميّة الإشكال الذي ذكره المحقّق العراقي في «نهاية الأفكار» هنا حيث قال ما لو جُعل مورد الاستصحاب البراءة وعدم الاشتغال بالتكليف به، أو باستصحاب عدم استحقاق العقوبة والمؤاخذة على ارتكاب المشتبه قبل البلوغ :
(أمّا التقريب الثاني والثالث، فالظاهر أنـّه لا سبيل إلى دعواه من جهة اختلال أحد ركنيه، وهو الشكّ على كلّ تقديرٍ، لوضوح أنـّه لا يخلو :
إمّا أن يكون في البين بيانٌ على التكليف المشكوك، وإمّا لا.
وعلى التقديرين: لا شكّ في الاشتغال وفي استحقاق العقوبة.
فإنّه على الأوّل يقطع بالإشكال وباستحقاق العقوبة، وعلى الثاني يقطع بالعدم فلا شكّ على التقديرين حتّى ينتهي الأمر إلى الاستصحاب.
وعلى فرض وجود الشكّ، لا مجال للاستصحاب، إذ بعدما لم يكن شأن الاستصحاب رفع الشكّ عن المتيقّن السابق، كان الشكّ في العقوبة وبراءة الذمّة على حاله حتّى في ظرف جريان الاستصحاب، فيلزمه بمقتضى قاعدة رفع الضرر المحتمل التوقّف والاحتياط.
وببيان آخر: إن كانت نتيجة الاستصحاب المزبور، هو القطع بالترخيص والأمن من العقوبة في ظرف الشكّ بها، يلزمه بمقتضى المضادّة بين القطع بالأمن والشكّ في العقوبة وارتفاع الشكّ المزبور بنفس جريان الاستصحاب، وهو كما ترى من المستحيل لاستحالة كون الحكم رافعاً لموضوعه.
وإن لم يقتض الاستصحاب القطع بالترخيص والأمن من العقوبة، بأن كان الشكّ في العقوبة وبراءة الذمّة على حاله في ظرف جريانه، فلا فائدة في الاستصحاب المزبور، لأنـّه مع الشكّ في العقوبة وعدم بقاء المستصحب، يَحكُم العقل بلزوم تحصيل القطع ببراءة الذمّة، والقطع بالمؤمّن، وبدونه لابدّ بمقتضى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل من التوقّف والاحتياط بترك ما يُحتملالحرمة، وفعل ما يُحتمل الوجوب، فتأمّل) انتهى محلّ الحاجة[2] .
وجه ظهور اندفاع كلامه رحمهالله: أنـّك إذا تأمّلت في كلامه تعرف صحّة ما قلناه وبيّناه من كون منشأ الاشتباه هو ملاحظة عدم رفع الاستصحاب للشكّ السابق في المستصحب بزعم منه وممّن ذهب مذهبه من أنّ وجود الشكّ الوجداني بعد الاستصحاب يكون معناه هو الشكّ في وجود العقاب واحتماله، فيترتّب عليه ما بيّنه وفصّله.
ولكن قد عرفت منّا بأنّ وجود الشكّ الوجداني دون التعبّدي في وجود الحكم الواقعي، لا يُساوق مع الشكّ في وجود العقاب، بل قد جُمع هنا مع القطع بعدم العقاب بحسب ظاهر كونه حجّة، وإلاّ لما كان في حجيّته الاستصحاب أثراً وفائدة، وعرفت أنّ حصول الشكّ بنفسه لا يُصحّح جريان الاستصحاب ولا قاعدة قبح العقاب بلا بيان، بل يكون حينئذٍ مجرى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل المقتضي للتوقّف والاحتياط، وأمّا بعد الفحص واليأس فحينئذٍ يجري فيه الاستصحاب لولا فيه إشكالٌ آخر فيوجب زوال موضوع القاعدة كما عرفت تفصيله، فلا نعيد.
اللهمَّ إلاّ أن لا يجري الاستصحاب من جهة اُخرى كما أشرنا إليه وسنشير، فيبقى المورد مقتضياً لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهذا هو المطلوب.