94/10/28
بسم الله الرحمن الرحیم
لا يقال: إنّ استصحاب عدم جعل الإلزام معارضٌ باستصحاب عدم جعل الترخيص، فإنّا نعلم إجمالاً بجعل أحد الأمرين، فيسقطان بالمعارضة، والمرجع حينئذٍ إلى البراءة .
لأنـّا نقول أوّلاً: بالمنع عن ثبوت العلم الإجمالي بأحدهما في خصوص المورد المشكوك فيه، لاحتمال أن يكون الترخيص الشرعي ثابتاً بعنوانٍ عامٍ لكلّ مورد لم يُجعل الإلزام فيه بخصوصه، كما كان عمل الاصحاب على ذلك في صدر الإسلام، ويستفاد أيضاً من ردعه صلىاللهعليهوآله أصحابه عن كثرة السؤال على ما في روايات كثيرة، وعليه فيكون استصحاب عدم جعل الإلزام مثبتاً لموضوع الترخيص فيكون حاكماً على استصحاب عدم جعل الترخيص .
وثانياً: فإن سلّمنا جريان كلا الاستصحابين، فإنّه لا مانع من ذلك بعدما لم يلزم منه مخالفة علميّة للتكليف الإلزامي، فإذا ثبت عدم الجعل في كليهما بمقتضى الاستصحابين، كفى ذلك في نفي العقاب، لأنّ استحقاقه مترتّبٌ على ثبوت المنع، ولا يحتاج نفيه إلى ثبوت الترخيص، فإذا ثبت عدم المنع ينتفي العقاب ولو لم يثبت الترخيص.
نعم، الآثار الخاصّة المترتّبة على عنوان الإباحة، لا تترتّب على استصحاب عدم جعل الإلزام، فإذا فرض موردٌ كان الأثر الشرعي مترتّباً على الإباحة، لا مناص فيه من الرجوع إلى أصالة الإباحة، ولا يكفي فيه الرجوع إلى استصحاب عدم المنع كما هو ظاهر .
أقول: الإنصاف عدم تماميّة هذا الجواب على تقدير القول بعدم خلوّ شيء عن أحد الأحكام الخمسة، لأنـّه إذا فرض جريان استصحاب عدم المنع الموجود بعدم الجعل والتشريع، فمثل هذا الأصل جارٍ في ناحية الترخيص والإباحة، فإجراء كلّ واحدٍ منهما في موردٍ، يستلزم العلم بكذب أحدهما، فيوجب التعارض والتساقط، والمرجع حينئذٍ إلى البراءة.
نعم، على القول بإمكان خلوّ الواقعة عن الأحكام، صحّ نفي كليهما، وعدم إثبات شيء منهما، ولا يوجب ذلك العلم بالكذب بالنسبة إلى أحدهما، ولعلّ هذا هو الوجه لعدم تمسّك أصحابنا بالاستصحاب فيما يجري فيه البراءة .
هذا تمام الكلام في الاستصحاب بالنظر إلى مرتبة الجعل والتشريع، وقد عرفت إمكان جريانه، ولكن ربما يُعارَض مع مثله فيسقط، والمرجع إلى البراءة.
وأمّا تقريب الاستدلال بالاستصحاب بالنظر إلى المرتبة الفعليّة للحكم: وهو استصحاب عدم التكليف الفعلي المتيقّن قبل البلوغ، وقد أورد عليه بوجوه:
الوجه الأوّل: نسب صاحب «الكفاية» رحمهالله في التنبيه الثامن من تنبيهات الاستصحاب هذا الإيراد إلى الشيخ رحمهالله، أنـّه قال: يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستَصحب بنفسه أو بأثره مجعولاً شرعيّاً، ويكون وضعه ورفعه بيد الشارع، أمّا عدم التكليف الأزلي فهو غير قابل للجعل، وليس له أثرٌ شرعي، لأنّ عدم العقاب من لوازمه العقليّة، فلا يجري فيه الاستصحاب.