94/10/20
بسم الله الرحمن الرحیم
ومع الإغماض عن ذلك فقد قيل: كلّ واحدة منهما قاعدة كبرويّة لا يتكفّل لإحراز موضوعه، بل لابدّ من إحراز الموضوع من الخارج لا من نفس القاعدة، وكلّ منهما صالحٌ لرفع موضوع الآخر، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.
هذا غاية ما قيل في تقريبه.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إنّ التعارض بين الدليلين يصحّ فيما إذا كان أحد الدليلين بالنسبة إلى الآخر من حيث السند أو الدلالة أو الجهة ظنيّاً، وأمّا إذا فرض كلّ واحدٍ منهما قطعيّاً من جميع الجهات ـ أي سنداً ودلالةً وجهةً ـ وكان كلّ واحدٍ منهما مقطوع الصدق، فهو يستلزمُ أمراً محالاً، لاستلزامه التناقض المستحيل تحقّقه، فلا محيص من الالتزام بورود أحدهما أو حكومته على الآخر، والحكمان العقليّان يكونان من هذا القبيل لاستلزامه الحكم بثبوت المناقضة وهو محالٌ، لأنّ مقتضى القطع بقبح العقاب بلا بيان وحجيّته وكونه موجوداً في المورد، يكون معناه أنّ ارتكاب ذلك الشيء يقطع بعدم العقاب فيه، وهو لا يُجامع مع القطع بوجوب دفع الضرر المحتمل أي العقاب، لأنّ احتمال وجود العقاب لا يُجامع مع القطع بعدم العقاب، فلابدّ من رفع اليد عن أحدهما، بجعل أحدهما وارداً أو حاكماً على الآخر، وحينئذٍ يأتي البحث عن أنـّه:
هلالقاعدهالاُولى_'feمقدّمة،ليلزم منه عدم استحقاقالعقوبهفيارتكابالشبهة؟
أو القاعدة الثانية مقدّمة، ليلزم من ذلك وجوب الاجتناب عن الشبهة؟
قد يقال: كون الثانية مقدّمة لكونها بياناً، فيرتفع موضوع القاعدة الاُولى، ولازمه عدم جريان البراءة في المشتبه.
لكنّه مندفع: بأنـّه يجب تحديد المراد من الضرر الذي قد حُكم بوجوب دفعه، وهل هو خصوص العقاب الأخروي، أو خصوص العقاب الدنيوي، أم المفسدهالمقتضية لجعلالحرمة،وكلّ واحد منها لا يقتضي تقدّم الثانية على الاُولى.
توضيح ذلك: أنّ الوجوب المتعلّق بدفع في الضرر المحتمل إن كان المراد منه دفع العقاب الأخروي المحتمل، فهو لا يخلو عن أحد احتمالات أربعة:
إمّا أن يكون الوجوب نفسيّاً، أو طريقيّاً، أو غيريّاً، أو إرشاديّاً ولا زائد عليها، وكلّها مندفعة.
فأمّا الوجوب النفسي: يعنيبأنيكون دفعالضرر المحتمل بنفسه واجباً نفسيّاً.
فيرد عليه أوّلاً: بأنّ الوجوب المفروض لا يخلو إمّا أنـّه ثابت للتكليف المجهول الواقعي، أو ثابتٌ لنفس دفع الضرر المحتمل، ففي كليهما محذور.
1 ـ فإن اُريد الأوّل: فهو خلاف الفرض، لأنّ هذا الوجوب ليس هو ذلك التكليف المجهول، وإلاّ لم يكن الحكم مجهولاً، بل كان معلوماً بالوجوب، مع أنـّه خلاف الفرض.
مضافاً إلى أنّ ذلك التكليف ربما لا يكون مسانخاً لهذا الوجوب، لكونه نهياً لا أمراً، والنهي يسانخ مع الحرمة لا الوجوب.
2 ـ وإنْ اُريد كون الوجوب لنفس دفع الضرر المحتمل:
فهو أوّلاً: خروج عن الفرض أيضاً، لأنّ البحث في البراءة وعدمها كان من جهة الحكم والتكليف المجهول في البين لا نفس الدفع.
مضافاً إلى أنّ جريان هذه القاعدة في ذلك لا يكون موردها متّحداً مع مورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لكون ذلك جارية في التكليف الواقعي المجهول لا في الدفع.
وثانياً: أنّ احتمال الثاني مندفعٌ بأنـّه لا يمكن الالتزام بوجود العقاب لخصوص الدفع في تركه، وإلاّ لزم القول بوجود العقابين في المصادفة؛ أحدهما للتكليف الواقعي، والآخر لنفس الدفع الذي تُرك، والالتزام بذلك لم يعهد عن أحدٍ، إذ لا تعدّد للعقاب مع القطع بالتكليف فضلاً عن احتماله.
وثالثاً: بأنـّه إذا فرض كون الوجوب لنفس الدفع لا للتكليف الواقعي، فلا تكون تلك القاعدة ـ وهو وجوب الدفع ـ بياناً حينئذٍ للتكليف الواقعي، لأنـّه أثبت الوجوب لنفسه لا للتكليف الواقعي، وإن كان ملحوظاً بالنظر إليه، لأصبح طريقيّاً لا نفسيّاً، وهو خلاف الفرض، مع أنـّه سيأتي في جواب ذلك مع الطريقي أيضاً .