94/08/18
بسم الله الرحمن الرحیم
ومنها: حديث آخر لعبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله بن سليمان، قال:
«سألتُ أبا جعفر عليهالسلام عن الجُبُنّ؟ فقال لي: قد سألتني عن طعامٍ يُعجبني، ثمّ أعطى الغلام درهماً فقال: يا غلام ابتع لنا جُبُنّاً، ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه، فأتى بالجُبُنّ فأكل وأكلنا، فلمّا فرغنا من الغداء قلت: ما تقول في الجبن؟
قال: أولَم ترَني آكله؟ قلت: بلى، ولكنّي أحبّ أن أسمعه منك.
فقال: سأخبرك عن الجُبُنّ وغيره: كلّ ما كان فيه حلالٌ وحرامٌ فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدَعه»[1] .
ومنها: حديث معاوية بن عمّار، عن رجلٍ من أصحابنا، قال:
«كنتُ عند أبي جعفر عليهالسلام فسأله رجلٌ عن الجُبُنّ؟
فقال أبو جعفر عليهالسلام: إنّه لطعامٌ يعجبني، وسأخبرك عن الجُبُنّ وغيره: كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف ا لحرام فتدعه بعينه»[2] .
ومنها: الخبر الذي رواه الشيخ الطوسي في أماليه بإسناده عن الحسين بن أبي غندر، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليهالسلام، أنـّه قال:
«وكلّ شيءفيهحلالوحرام فهو لكحلالأبداًحتّى_'feتعرفالحراممنهفتدَعهُ».
ونقل الشيخ في فرائده عن الشهيد رحمهالله في «الذكرى» قوله عليهالسلام: «كلّ شيء فيه حلال وحرام» مثله [3] .
وحيث أنّ مضمون حديث معاوية بن عمّار وعبد الله بن سليمان كان واحداً من حيث الألفاظ إلاّ في اليسير، فقد احتمل جماعة وحدة الخبرين بأن يكون المراد من رجل من أصحابنا هو عبد الله بن سليمان قد نقله عن أبي جعفر عليهالسلام، كما أنّ المروي عنه هو أبو جعفر عليهالسلام في كليهما.
هذا كما عن «مصباح الاُصول» لسيّدنا الخوئي[4] .
أقول: لكنّه مندفع باعتبار أنّ عبد الله بن سليمان في حديثه الذي نقله كان السائل هو نفسه بخلاف ما في حديث معاوية، حيث أنّ السائل غيره، مع أنّ خبر عبد الله بن سليمان يتضمّن تفاصيل كثيرة جدّاً، فاحتمال الوحدة بعيدٌ جدّاً.
ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري قد استدلّ على البراءة في الشبهة الحكميّة التحريميّة برواية عبد الله بن سليمان، ورواية عبد الله بن سنان، ولم يستدلّ بحديث موثّقة مسعدة بن صدقة، ولعلّ وجه عدم الاستدلال به هو مشاهدة اختصاصها بالشبهة الموضوعيّة، خلافاً لصاحب «الكفاية» حيث عكس الأمر وتمسّك بحديث مسعدة بن صدقة دون الروايتين، ولعلّ وجهه توهّم اختصاصها بالشبهة الموضوعيّة، لظهور قوله عليهالسلام: «فيه حلالٌ وحرام» على فعليّة الانقسام إلى قسمين خارجاً، فالمشتبه هو الثالث الذي لا يدرى أنـّه من أيّهما .
وبالجملة: فقد ظهر من جميع ما ذكرناه، أنّ الشبهة المحتملة الواردة في هذه الأحاديث، هي عدم عموميّتها لتشمل الشُّبهات الحكميّة كما هو المقصود الأهمّ في باب البراءة، وعليه فلابدّ حينئذٍ من البحث عن كلّ واحد من هذه الأحاديث:
أمّا المجموعة الاُولى: والتي تتضمّن قوله عليهالسلام: «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنـّه حرام بعينه»، فقد ورد في روايتي مسعدة بن صدقة ورواية عبد الله بن سليمان، فلا منافاة في حديث مسعدة بن صدقة أن يراد بيان الحكم بالحلّية في موارد الشُّبهات كلّها، سواء كانت موضوعيّة أو حكميّة، كما يومي إلى ذلك عموم لفظ «كلّ شيء»، بل لعلّ ذيلها كذلك بقوله: «والأشياء كلّها على ذلك حتّى تتبيّن غير ذلك أو تقوم به البيّنة»، سواءٌ كان وجه الحكم بالحلّية هو أصالة الحليّة المفيدة للبراءة، أو سائر الاُصول الموضوعيّة أو الحكميّة المفيدة للحليّة والإباحة، مثل الأمثلة الواقعة في وسط الحديث، حيث أنـّها واردة في الشُّبهات الموضوعيّة، مع أنّ الأصل في كلّ واحدٍ ليس هو أصالة الحليّة بمعنى البراءة، بل المستند في الحكم على الثوب بالحليّة هو اليد والسوق، وإلاّ لولا قاعدتي اليد والسوق لكان مقتضى الأصل عند الشكّ في الانتقال إلى مِلكه وعدمه، هو عدم الانتقال وحرمهالتصرّف، لأصالة بقاء الثوب على ملك الغير.
وكذا الأمر في العبد فإنّه لولا قاعدتي اليد والسوق كان الأصل في العبد المشكوك هو أصالة الحريّة، لأنّه الأصل في الإنسان المشكوك حريّته وعبوديّته، وكذا الزوجة حيث إنّ الأصل فيها هو الحليّة بملاحظة أصالة عدم تحقّق الرضاع والنسب، وهما أصلان موضوعيّان، وإلاّ لولاهما لكان الأصل عدم صحّة العقد وحرمة وطيها، فكأنّه أراد الشارع من خلال صدر الخبر وذيله بيان طريق الحليّة في جميع هذه الموارد من الشُّبهات الموضوعيّة والحكميّة، مع أنـّه لو كان بصدد بيان اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة، لاستلزم أن يمثّل بأمثلة تنطبق الكبرى المذكورة في الصدر عليها، مع أنـّه ليس فيها لذلك حتّى مثال واحد.
وقد يتوهّم: أنّ الكبرى المذكورة في الصدر لا تشمل الشُّبهات الحكميّة لورود كلمة (بعينه)، حيث إنّه ظاهرٌ في الاختصاص بالشبهة الموضوعيّة، لحكمه بلزوم الاحتراز عمّا لا يعلم إنّه حرامٌ عن العلم بعينه، ولا ينطبق ذلك إلاّ على الشبهة الموضوعيّة، إذ لا يتصوّر العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكميّة، فإنّه مع الشكّ في حرمة شيء وحليّته لا علم لنا بالحرام لا بعينه .
نعم، يتصوّر العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكميّة مع العلم الإجمالي بالحرمة، ومن الظاهر أنّ هذه الأحاديث لا تشمل أطراف العلم الإجماليبالحرمة، إذ جعل الترخيص في الطرفين مع العلم بحرمة أحدهما إجمالاً ممّا لا يمكن الجمع بينهما ثبوتاً ويتناقضان.
هذا كما عن «مصباح الاُصول» للخوئي.
لكنّه مندفع: بأنّ (لا بعينه) كما يمكن تصوّره في الشبهة الموضوعيّة للعلم الإجمالي، لوجود فردين خارجيّين، ولا نعلم الحرام بعينه، ويكون المشتبه منه، كما هو واضح، كذلك يجري في الشُّبهات الحكميّة، بأن يعلم المكلّف إجمالاً وجود ما هو الحلال من اللّحم ووجود ما هو الحرام من اللّحم، ويشتبه في مثل لحم الحمير حيث لا يعرفه بعينه أنـّه يكون من القسم الحلال أو يكون من القسم الحرام، حيث يدلّ الخبر على أنـّه حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه، أي حلالٌ للمكلّف حتّى يعلم تفصيلاً بكونه من القسم الحرام بعينه، فلازم شموله للشبهات الحكميّة هو صحّة الحكم بالحليّة في جميع الموارد، إلاّ أنّ في أطراف العلم الإجمالي يرفع اليد عن هذا الأصل بواسطة دليلٍ آخر، وهو القول بتنجّز العلم الإجمالي، أو استلزامه المخالفة القطعيّة العمليّة وأمثال ذلك، فلازم هذا القول إنّه لولا هذه الأدلّة المانعة، لالتزمنا بمقتضى أصالة الحليّة والإباحة، وهو المطلوب.
كما أنّ إطلاقه يشمل أطراف العلم الإجمالي في الشُّبهات الموضوعيّة، فيخرج عنه بالدليل، فهكذا يشمل الخبر الشبهة التحريميّة الحكميّة.